المثقف المصرى نشأ وترعرع فى أحضان السلطة، فقد دأبت الحكومات التى تعاقبت على هذا الشعب على تغذيته وتربيته وتكبيره و«تسمينه» ليصبح أداتها فى خداع الشعب وتزيين الباطل ودفع الحق الظاهر البين، ويكون جزاء من يفعل غير ذلك وينحاز لمواطنيه التهميش والمحاصرة والاستبعاد خوفاً من أن يعكر صفو المزاج الشعبى الذى يضبطه مثقفو السلطة على ساعة يدهم. أطلّت هذه الحقيقة بوجهها عبر الاجتماع الذى عقده السيد جمال مبارك مع عدد من المثقفين، وكشف عنه مؤخراً الأستاذ أحمد الصاوى فى عموده المتميز «عابر سبيل» ب«المصرى اليوم» لتعيد إلى الذاكرة ذلك المشهد القديم المتجدد الذى يبدأ به كل من يريد الوصول إلى عرش مصر قصة فيلمه بالالتقاء بالمثقفين والحديث إليهم، يستوى فى ذلك أن يكون أسماء أبطال هذا المشهد «الإمام محمد عبده» أو «الأستاذ أحمد لطفى السيد»، أو «الدكتور إسماعيل سراج الدين» أو «الدكتور جابر عصفور» وغيرهم. فالتاريخ يحكى لنا أن نابليون حرص- بعد أن وطئت أقدامه مصر كغاز محتل- على تقريب مشايخ الأزهر، إذ كانوا يمثلون فى ذلك الوقت النخبة المثقفة والقادرة على تزيين حكمه لجموع المصريين الرافضين له، وهو الأمر نفسه الذى فعله محمد على عندما وصل إلى سدة الحكم بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر فقرّب المشايخ هو الآخر ودفع إمامهم «الشيخ محمد عبده» إلى رئاسة تحرير جريدة «الوقائع المصرية». ولماذا نذهب بعيداً ونتوغل فى أقصى التاريخ ولدينا مثل واضح من التاريخ القريب، حين بدأ الرئيس مبارك فترة حكمه انطلاقاً من المعادلة نفسها، وبادر إلى عقد لقاء مع المثقفين والسياسيين المصريين الذين أصدر الرئيس السادات قراراً باعتقالهم فى سبتمبر 1981، ووعدهم بفتح صفحة جديدة مع النظام . وها هو الابن يستقل القطار من نفس المحطة مصداقاً لقول الشاعر «وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوَّده أبوه». وقد لا يرى بعض المثقفين عيبا فى مسألة اقترابهم من السلطة، وقد يبررون لأنفسهم ذلك بأن ما يملكونه من رؤية وخبرة وفكر ومعرفة يؤهلهم، بل يفرض عليهم، أن يكونوا جزءاً من تركيبتها. وقد كان من الممكن أن نتقبل هذه المعادلة لو أن المثقفين يلعبون دوراً حقيقياً فى التأثير فى صناعة القرار، أو أن الجالسين على كراسى الحكم يكترثون بما يقدمونه من آراء وأفكار ووجهات نظر حول القضايا والمشكلات المختلفة. فالعكس هو الصحيح، والذى يحدث فى الأغلب أن دور المثقف ينحصر فى تبرير قرارات السلطة و«تبليعها» للناس نظير تحقيق بعض المكاسب المادية أو المعنوية. ويعاند بعض المثقفين أكثر وأكثر حين يرون أن من الطبيعى أن ينعموا بالحياة وأطايبها، وأن بضاعة الفكر والمعرفة التى يروجون لها تستوجب أن يربحوا الكثير . والمشكلة أن المثقف عندما يدخل هذه الدائرة فإنه يخرج- بصورة مباشرة- من دائرة «مثقف السلطة» ليدخل فى دائرة «المسخ» ويصبح مثل الأراجوز الذى تتحدد كل مؤهلاته فى القدرة على «الأرجزة» والضحك على «دقون» الناس. وينسى المثقف فى غمرة الاندفاع فى أحضان السلطة أن دوره الحقيقى يتحدد فى مراقبة ما يحدث فى المجتمع والتنبيه إليه والتوعية به ومساعدة المواطن على استيعاب طرق مواجهته، مما يفرض عليه أن يكون مستقلاً عن أى سلطة، وأن يحتفظ بمسافات معقولة تفصل بينه وبين صناع القرار، سواء فى دوائر الحكم أو فى دوائر المعارضة. فمن حق أى مثقف أن يعلن عن رأيه وموقفه المؤيد للسلطة بشرط أن يكون مستقلاً عنها ولا يشكل قيادة داخل مؤسساتها المسؤولة عن صناعة القرار الثقافى. كذلك من حق المثقف أن يكون جزءاً من المعارضة وأن يبدى آراءه فى الإصلاح والتغيير، بل إن من واجبه ذلك، وهو مطالب أيضاً بأن يشارك مشاركة حقيقية مع التيارات الداعية إلى الإصلاح والتغيير شريطة ألا يميز ما بين أطيافها المختلفة. وإذا حدثت المعجزة ووقع التغيير فإن دور المثقف كجزء من «تركيبة المعارضة» لابد أن ينتهى وأن يعود إلى ثكناته ليواصل دوره فى الرقابة، وفى الحالة التى يسمح فيها لنفسه بأن يكون جزءاً من التركيبة الجديدة للسلطة (المعارضة سابقاً) فعليه أن يفهم أن دوره الحقيقى كمثقف قد انتهى، وأنه وقع فى الفخ نفسه الذى وقع فيه من سبقوه. ومن العجيب أن يفعل المثقفون ذلك رغم ثقتهم فى أن الحاكم الشرقى لا يرى فيهم إلا مجرد «وردة فى عروة الجاكتة» فى أحسن تقدير، بل يأبى عليهم أن يكونوا جزءاً من بطانة هذه «الجاكتة». فالبطانة عادة ما تكون من رجال الأعمال. فالزواج ما بين السلطة والثروة ممكن، أما أن تتزوج السلطة الثقافة فذلك هو المستحيل بعينه، خصوصاً فى المجتمع المصرى الذى تكرس فيه الاستبداد عبر عصور طويلة. فالحاكم المصرى يرى نفسه دائماً الأحكم والأعقل والأعدل، والسر فى ذلك هو المثقفون المنبطحون. فكيف يمكن أن يتصور الحاكم نفسه وهو يرى حملة الدكتوراهات وأصحاب العقل والفكر والمعرفة والإبداع يهرولون إليه إلا أن يكون عبقرياً أو نصف نبى؟! إن تاريخنا يشهد أن النسبة الأكبر من مثقفينا آثرت الانحياز إلى السلطة والدخول فى تركيبته بدلاً من أن تقوم بدورها فى الرقابة العامة، وفضلت أن تجعل من الثقافة أداة للتكسب والتربح. وفى تقديرى أن هذا الصنف من المثقفين أساء إلى الشعب المصرى أكثر مما أساء إليه حكامه، إلى الحد الذى يمكن أن نقول معه إن أزمة هذا المجتمع تكمن فى مثقفيه أكثر مما تكمن فى حكامه. فقد شوّه مثقفو السلطة- على مدار تاريخ هذا البلد- عقل الشعب ووجدانه، ومارسوا عليه أكبر عمليات النصب التى تمت فى تاريخه، بداية من الشيخ الإمام محمد عبده الذى زين الاستبداد وأطلق عبارته الشهيرة التى ذكر فيها «أن المستبد العادل هو الحاكم الأنسب للشرق» ليبرر حكم محمد على وأبنائه، ومروراً بأحمد لطفى السيد الذى تعامل مع هذا الشعب باحتقار واضح حين تحدث عن «أصحاب المصالح الحقيقية فى البلاد»، وهو يشير إلى ملاك الأرض وباشوات السياسة بعيداً عن الشعب الجاهل وغير الواعى، وانتهاء بهذه «الشلة» التى التأمت حول «جمال مبارك» لتبرر عملية توريث الحكم، وكأنى بهم وهم يجلسون منصتين إليه وهو يعرض أفكاره وتصوراته حول الثقافة والعمل الثقافى ويعقّبون عليها ممتدحين نبوغها وعبقريتها، وما أكثر ما يمتدح مثقفو السلطة عبقرية من لا يعتقدون فى عبقريته، وحكمة من لا يعتقدون فى حكمته!