حين أطالع الفضائيات كل ليلة أرى الحزن قد عشش فى وطنى وأرى الوجوه تتألم تحت وطأة الفاقة والذل، والأصوات تتعالى ضجيجا غاضبا، والكل متهم وقاض وجلاد، عجيب أمرك يا وطنى، مهتوك عرضك، مستباح، مقطع الأوصال، هجرت أرضك الرحمات، وعشش البؤس بعد الحزن والجوع فيك، الحزن فى مصر قديم قدم أهراماتها، عميق عمق خطوط الشقاء فوق أوجه أبنائها، غزير غزارة مياه نيلها، ومر بطعم ملح بحرها، قافلة الحزن التى كانت تمر أحيانا، استوطنت المقل وعششت فى القلوب، وهجرت الابتسامة كل الزوايا وسكن الذل هامات الرجال، أما طقوس الفرح فقد سلخت من جسدها وأصبحت موسومة بأقنعة يرتديها الجميع فى احتفالية خرقاء لا تنتمى للواقع سوى بدموع تستتر خلف حرص موجع على اجتثاث بعض الفرح من صحراء العمر، ونثر الملح فى العيون، كى لا ترى بقايا الألم المتسربل بروح تشاكس ما تبقى من حياة فى أجساد لا تعدو أن تكون خشب مسندة تنتظر الرحيل بلهفه. تهامس البعض من مثقفى الوطن المكلوم على استحياء بأن سبب نكبتنا زيادة السكان وردد آخرون بأن المصيبة فى تقوقعنا واستغلالنا لرقعة بسيطة من أرضنا، وتفلسف آخرون بتراهات كثيرة، ونسى الجميع أن تعداد سكان الصين أو اليابان حتى بالنسبة لمساحة أرضهم هو من الضخامة بمكان، وتناسى كثيرون أن العامل البشرى هو ثروة فى جميع بقاع الأرض وهو لا يقل فى قيمته إن لم يزيد على قيمة أى ثروة أخرى، المهم أن يحسن استغلال هذا العنصر، وتلك الثروة، المهم أن تتوافر عداله اجتماعية وفرص متساوية، المهم أن تتوافر رغبة أكيدة من الجميع فى تقدم ورفعة هذا الوطن، والأهم أن تصاحب تلك الرغبة عزيمة أكيدة وضمير يقظ. المشكلة فى مصر وما يعانيه أبناؤها من حزن وضيق عيش ليست بسبب التعداد كما يحاولون أن يصوروا لنا هذا لكى لا ننتبه للمشاكل الرئيسية ونتجه لحلها ونحدث نقلة حضارية وتقدم صادق يضعنا فى مصاف أمم كبرى، ويحدث توازن وإعادة توزيع لخريطة الثروة فى مصر، المشكلة نابعة من أبناء مصر فريق لا يريد أن يكون فاعلا وقد أدمن الحزن والبكاء وتلبسه العجزو الخنوع والقنوط، وفريق لا يريد للفريق الأول سوى أن يظل على حالة كى ينعم هو بثروات وغنائم الوطن دون أن يشاركه فيها أحد، وهو فريق المنتفعين الذين تزداد ثرواتهم ويتضاعف غناهم كلما زاد الفقر والجوع فى مصر وتتضخم كروشهم بزيادة حاجة الكثيرين من أبناء مصر. الحزن فى مصر عشش ولن يطرده إلا فكر أبنائها حين يزيحون عن عقولهم كل أسباب التخلف والاستسلام ويبدءون فى التفكير بطرق جديدة مبتكرة لقتل شبح الحزن وطرد مارد الفقر الذى تسلط عليهم، لن يحدث هذا إلا إذا أيقظت الضمائر وتكاتف الكل، لن يحدث إلا بثورة بيضاء أو حمراء المهم أن نثور على ذواتنا وعلى خنوعنا أولا، ومن ثم نثور على أوضاعنا ونعزم على تغيير كل شىء ونضع بأنفسنا خططا للريادة والتقدم. لأن أفضل الحلول تكمن فى تحويل مواطن الضعف إلى مواطن قوة، وحطام التخلف إلى وقود للنهضة، ماذا ننتظر جميعا ؟ هل ننتظر الجنى الذى يخرج من المصباح ليحل لنا مشاكلنا؟ أو خاتم سليمان ؟ أم ننتظر أن يأتى غيرنا ليحل مشاكلنا ؟ لن يحدث هذا وإذ لم نقم بالتحرك فورا فستزداد حجم المصيبة وتعقيدها بطريقة قد لا ينفع معها حل، تحدث كثيرون وكتب كثيرون، ورغم أهمية طروحات البعض فأن هذا كله يبقى قيد التنظير وحبيس الكتب والأحرف إذ لم نفعل هذا الكلام، وإذ لم نفكر بطرق عملية ونضع خططا فعلية للخروج مما نحن فيه، وليبدأ كل بنفسه، إذا كنا كما ندعى نكن بعض الحب لوطننا، ومن بعده لأجيالنا القادمة فلنبدأ، لقد تعلمنا خلال عدة عقود ألا أحد من خارجنا سيحدث نهضة أو إصلاح، وأن الأمم حين تدرك أنها بحاجة لأن تستمر فإنها تبدأ فى لم شتاتها وتعتمد على أبنائها لإحداث نهضة والقفز سريعا للوقوف فى مصاف الدول المحترمة، وليس أدل على ما أقول من التجربة اليابانية أو الألمانية وكلنا سمع أو قرأ عنهما، حتى الصين بتعداد سكانها الذى تخطى المليار نسمة استطاعت أن تكون قوة عظمى، واستطاعت أن تغزوا العالم بكل ما تنتجه سواعد أبنائها، ولم تشتك من زيادة السكان أو تلقى بتبعات أى تخلف على هذا العامل، بل قامت باستغلاله إيجابيا وبطريقة جعلت منه محفزا ومساعدا على التقدم وليس عائقا. كثيرون لديهم خطط طموحة للنهوض بهذا الوطن، لكنهم إما خائفون أو مترددون أو لا يعرفون الطرق الفاعلة لتنفيذ آمالهم تجاه هذا الوطن، والمسئولون غالبا (إلا ما رحم ربى) مشغولون بأبهة المنصب والحفاظ على مظهرهم والتمتع بالسلطة واستغلال مناصبهم فى كل ما يعود عليهم وعلى ذويهم بالمنفعة، ولا يوجد وقت للتفكير فى إيجاد حلول للنهوض بهذا الوطن، فهل يعقل أن توجد كل هذه المساحات الشاغرة فى صحارينا وحول مدننا ولا يتم استغلالها بطوابير العاطلين عن العمل الذين يقدر عددهم بالملايين، لما لا تقوم الدولة كما يحدث فى كثير من بلدان العالم بمد طرق وعمل تقسيمات للأراضى وتمليكها لهؤلاء بلا مقابل، شريطة أن يتم إمدادهم بالماء والكهرباء وبتكلفتها، ولا أظن أن هذا سيكلف الدولة أكثر مما يكلفها وجودهم عالة على أراضيها، أن تكليف كل محافظة بعمل هكذا مشروع لعدة آلاف من الشباب فى امتدادها الجغرافى جهة صحارينا سيوفر الكثير من فرص العمل، ولن أقول إنهم مطالبون بزراعتها، فقط من الممكن أن يتم إنشاء مشاغل أو مصانع صغيرة ومع الوقت سيتم خلق مجتمعات شابة وبؤر صناعية تسهم فى نهضة الوطن، المهم أن تصدق النيات. والبعض سيتعلل بما حدث فى تجارب سابقة بخصوص الزراعة والعقبات التى حدثت، لكن اليوم الأمر مختلف وبدلا من أن نستورد كل صغيرة وكبيرة من دول أخرى كالصين أظننا قادرين على تصنيع سجاجيد الصلاة والفوانيس والأغراض المنزلية البسيطة ووقتها سيكون المنتج المحلى أرخص، وربما أجود وهذا سيساعد على إيقاف الاستيراد وتحقيق المكاسب المادية والمعنوية للجميع، ولن نكون بحاجة إلى تعقيدات المشاريع الزراعية بما تحتاجه من مياه ورعاية ومن ثم تسويق المنتجات، والتى قد تتعرض للتلف كما كان يحدث فتنهار المشاريع، - ويكفينا أن نحافظ على الرقعة الزراعية الحالية ولا نقوم بتبويرها، أما المنتجات الصناعية غير القابلة للتلف فإنها ستكون أضمن لاستمرار أصحابها. لا أدعى أنى صاحب فكر فى هذا المجال، لكنى أردت أن أشارك بما طرأ على ذهنى وأعلم أن المشاريع كثيرة والأفكار أكثر تنوعا، وعندنا من العقول ما يكفى لإحداث النهضة التى نحلم بها جميعا لوطننا، كل ما هنالك أن الكل ينتظر وكأننا ننتظر المخلص أو صاحب إشارة البدأ، وهو لن يأتى لأنه يسكننا، ونحن بانتظارنا له، نصر على سجنه داخلنا والإبقاء عليه مكبل، حين نقف مكتوفى الأيدى فإن الحزن والبؤس والشقاء سيبقون هم رفقاء دربنا، ولن يعرف الفرح طريق إلى العيون، ولن تسكن السعادة قلوبنا، وسنظل ندور فى حلقت مفرغة نبحث، لكننا لن نصل إلى شىء ، لأنفسنا أو لأجيالنا القادمة ووطننا الذى ما عرفنا من حبه سوى أحرف الكلمة.