ترانى أسير بخطواتٍ مسرعة، متحدثا فى هاتفى المحمول متجها صوب منزلى كى أستريح قليلا من عناء العمل، وإذا به يركض نحوى مسرعا محاولا أن يلحق بى، صغر سنه وحجمه أجبره على أن يبذل مجهودا مضاعفا كى يلحق بى وسط الزحام، إنه ينادى محاولا الوصول إلى مسامعى ولكننى لم أسمعه، وإذا به وبعد مجهود كبير يلمس بأطراف أصابعه الصغيرة قميصى محاولا لفت انتباهى إليه. لقد لاحظته ولكننى وفى لحظة تصورت أنه متسول ويريد منى أن أعطيه شيئا، أسرعت من خطواتى محاولا الابتعاد عنه ولكنه كان مُصرا وبشكل غريب أن يتحدث إلى. "يا بيه يا بيه الخمسة جنيه دى وقعت من حضرتك" توقفت وقد تجمد كل شىء من حولى، يا لها من عبارة صادمة جعلتنى أتوقف كى انظر صوب من يحدثنى، إنه طفل لا يتجاوز الاثنى عشر ربيعًا، يرتدى ملابس قديمة غير مهندمة، كان واقفا بجوار "عربية خضار" باحثا عن رزقه بين المارة، إنه يبحث عن الخمس جنيهات يوميا، ولكنه وإن وجدها تسقط من جيبى، أدرك أنه من الواجب أن يلحق بى كى يعطينى إياها. طفل فرضت عليه ظروف الحياة أن يتسرب من التعليم كى يساعد والده على الكسب، لم يقبل على نفسه أن يأخد مال غيره حتى وإن كان غيره نظريا لا يحتاج هذا المبلغ كمثل احتياج هذا الطفل إليه، طفل بسيط غير متعلم فطرته النقية جعلته فى مقام أرفع بكثير ممن يستخدمون علمهم فى استغلال البشر. أعود بكم إلى تلك اللحظة حين تلاقت عيناى بأعين صديقى الصغير، لم أقل شيئا، لقد تجمد كل شىء حولى، صار ضجيج الشارع من حولى مجرد صمت، وصار الزحام من حولى فراغ، لا أرى سوى صديقى الصغير المبتسم وهو يعطينى ما سقط منى، أعطانى نقودى وذهب مسرعا، لم ينتظر منى أى مكافأة نظير عمله. لم أستطع اللحاق به، لا أدرى لماذا ؟، أعتقد أن قراره بالابتعاد عنى كان أسرع من تفكيرى فى تلك اللحظة، تركته يختفى وسط الزحام، ولكنى عدت و بحثت عنه طويلا، تعمدت يوميا أن أسير فى نفس الشارع كى أراه، ولكننى حتى كتابة تلك السطور لم أستطع أن ألقاه، قد تتساءل عزيزى القارئ عن سبب بحثى عنه! لا أريد منه شيئا ولا أريد أن أجرح شعوره بنظرة شفقة أو عطف منى على حاله البائس، ولا أريد إلقاء اللوم على والده الذى أجبرته ظروف الحياة على جعل ولده يتسرب من التعليم، كل ما أريده هو أن أعتذر له عن ظنى السىء به، كنت أظنه متسولا ولكن الحقيقة هى أننى من يريد تسول البراءة والقناعة والرضا منه، أعتذر لك عن كل ظن سىء فرضته ظروف الحياة القاسية علينا، أعتذر لك عن ظلم مجتمع فقد أهم ما كان يميزه وهى الرحمة، أعتذر لك صديقى الصغير أمام كل من يعرفنى ولا يعرفك وأتمنى أن ألقاك قريبا صديقى الصغير.