مع استمرار تفاقم الأزمة الحالية في مصر تزداد الأفكار المطروحة حول سبل الحل، التي برز منها فكرة إقامة مشروع قومي يلتف حوله جميع فئات الشعب خلال المرحلة الانتقالية، خصوصا أن التاريخ يشير إلى أن ثورات المصريين يتبعها دائما مشاريع قومية توحد الصف وتساعد في إنجاز الخطوات التقدمية. فبعد ثورة 1919 كان المشروع القومي الأبرز الذي التف حوله المصريون هو الاستقلال عن الإنجليز، وهو المشروع الذي شاركت فيه جميع فئات الشعب، ودفعوا من أجله الدماء حتي تم تحقيقه، وكذلك ثورة يوليو 1952 التي أخرجت عددا من المشاريع القومية التي نفذها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. ولعل مشروعي جلاء الإنجليز عن مصر، ثم بناء السد العالي، كانا أبرز المشروعات القومية التي التف حولها المصريون في الخمسينيات والستينيات، ومن أجلهما تحمل المصريون العديد من الخسائر، سواء في تدهور الأوضاع الاقتصادية لفترة تخلت فيها الدول الكبري عن دعم مصر أو في الدماء التي بذلت أثناء العدوان الثلاثي عام 1956 ونكسة 1967. ووفقا لقراءات التاريخ المصري خرج عدد من الأصوات حاليا يدعو إلى تبني مشروع قومي يتأسس على أهداف ثورتي يناير2011 ويونيو2013 ليكونا السبب في لم الشمل وتمنع المصريين من الانقسام والاقتتال. خارطة طريق.. قال الدكتور عبد المنعم سعيد- الرئيس السابق لمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية- إن المشروع القومي في تعريفه هو المشروع الذي يعطي المجتمع كله دفعة للأمام، مؤكدا أن مصر حاليا تمتلك بالفعل مشروعا قوميا هو "خارطة الطريق" التي وضعتها القوات المسلحة عقب الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي، معتبرا أنه المشروع الذي يهدف إلى بناء دولة مدنية حديثة على أسس الديمقراطية، خاصة وأن الفترة الأخيرة خضعت مصر فيها لحكم جماعة حاولت فرض نظام استبدادي وأفكار متخلفة ترجع بمصر إلى عدة قرون، وهي ذاتها الجماعة التي تحاول الوقوف أمام هذا المشروع. وأضاف أن تنوع المجتمع المصري والاختلاف بين مؤيد للإخوان ومعارض لهم لا يعبر عن أزمة، بل يحدث نوعا من التوازن الذي يكون في صالح المشروع الذي سيجمع كافة فئات الشعب المصري الذي خرج إلى الشوارع والميادين يوم 30 يونيو، وبالتالي يظهر أننا أمام جماعة تمثل الأقلية في المجتمع بما يؤدي إلى التفاف مزيد من المصريين حول فكرة المشروع القومي. وأكد السعيد أن الثورات دائما ما تأتي بمشاريع قومية لأن الشعب الذي يخرج ويثور على حكامه يكون لديه مشاريع يريد تنفيذها، وهو ما يعد جزءا من تعريف الثورة ، مشيرا إلى أن مصر لديها مشروع قومي منذ عام 1805 حينما سعي محمد على إلى إقامة دولة مدنية حديثة على أسس النهضة والقانون وتداول السلطة وشرعية الشعب كمصدر للسلطات من أجل بناء دولة مدنية حديثة أشبه بالدول المتقدمة. حافة الهاوية.. ومن جانبه، قال الدكتور أشرف كمال - أستاذ الاقتصاد الزراعي بمعهد البحوث الزراعية- إن المشاريع القومية كفيلة بتجميع المصريين وحل أي أزمة تواجههم ،لأنه يجمع كل الطاقات ويستفيد من الشباب غير المستفاد منهم في المجتمع رغم أهميتهم في تغيير الأوضاع السياسية والاقتصادية، إلا أن ذلك لا يحدث إلا على المدي الزمني الطويل. وأشار إلى أن حجم هرم الغضب الذي تصاعد في مصر خلال حكم جماعة الإخوان المسلمين كان أكبر من حجم هرم الغضب الذي تصاعد في مواجهة نظام فاسد لمدة 30 عاما، بسبب الإحساس الفطري لدي الشعب المصري بأن هناك تهديدات تمس هويته الوطنية والمجتمعية، وبالتالي فمن الأهمية بمكان أن يتم استيعاب تلك الطاقة البشرية الخلاقة في إطار مشروع قومي، مؤكدا أن الحكومة الحالية لن تتمكن من إقامة مشروع قومي بالمعني الحقيقي إلا أنها يجب أن تضع له الأسس التي تستكملها أي حكومة لاحقة لها. وعن تنفيذ المشروع القومي وسط تدهور الأوضاع الاقتصادية أكد كمال أن المشروع القومي لا يشترط أن يكون متمتعا بقدر كبير من التمويل كمشروع توشكي الذي أنشأه الرئيس الأسبق حسني مبارك على سبيل المثال، بل قد يتمثل هذا المشروع في مشروعات اقتصادية صغيرة ومتناهية الصغر بما يحقق التنمية والهدف القومي دون الحاجة إلى ميزانيات ضخمة. وتابع قائلا: إن مصر حاليا في مرحلة البعد عن حافة الهاوية والبعد عن الانهيار الاقتصادي بما يوجد ضرورة ملحة في توحيد الجهود من أجل رفع درجة الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الغذائية لتحسين أوضاع الأمن الغذائي والخروج من دوائر التبعية الغذائية للخارج وهو الأمر الذي يتطلب الاستفادة من البحوث المتميزة بمركز البحوث الزراعية لزيادة الإنتاجية الزراعية والعمل على خفض الفاقد في جميع مراحل العملية الإنتاجية بالإضافة إلى ترشيد الاستهلاك وتوعية المواطنين. مطلوب زعيم.. في نفس السياق يقول الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الرحمن عاليان -عميد المعهد العالي للاقتصاد- إن المشروع القومي هو الحل الأنسب من أجل إخراج مصر من أزمتها الحالية، إلا أنه أمر يتطلب توافر عدد من عوامل النجاح والتي أهمها وجود زعيم حقيقي يكون قادرا على تنفيذه، ويكون له من الثقة ما يجعل المصريين يطمئنون إلى أنه سيكون الأقدر على تنفيذ متطلباتهم. وأضاف أن فكرة المشروع القومي تنجح أو تفشل وفقا للمنظومة والقيادة التي تعمل على تحقيقه، فمصر بها العديد من المشروعات القومية التي تحتاج إلى تنفيذ كمشاريع تنمية سيناء ومحور قناة السويس، ولكن ما يقف أمامها أولا افتقاد القائد الذي يستطيع أن يوفر سبل تمويل المشروع وتهيئة عوامل نجاحه كتوفير الأمن في الشارع لأنه لا يمكن إقامة أي مشاريع قومية في ظل هذه الحالة من الانفلات الأمني التي وصلت إلى حد عدم تمكن العمال من الذهاب إلى أعمالهم بسبب قطع الطرق وأعمال العنف. كما أشار عاليان إلى أن مصر صنعت ثورة عظيمة تعد من أفضل الثورات في التاريخ، وبالتالي فإن من يصنع ثورة يكون له رؤية في خدمة مجتمعه، وجزء من هذه الرؤية هو المشاريع القومية التي تأتي في الغالب نتيجة للثورات، مستشهدا بما حدث عقب ثورتي 1919 و1952 من حيث المشروعات القومية كمشاريع طلعت باشا حرب في إنشاء بنك مصر وكذلك مشروع استقلال مصر عن الاحتلال الإنجليزي أو مشاريع عبد الناصر التي كان أبرزها بناء السد العالي، معتبرا أن وجود عبد الناصر كقائد كان هو السبب الرئيس في إتمام بناء السد لأنه حاز على ثقة المصريين بما جعلهم يلتفون حوله ويتحملون أي نتائج بما فيها الحرب. وأكد عبد الرحمن أن المشروع القومي يجب أن يكون منفذا لمصالح كافة أفراد الشعب وليس لجماعة معينة، مستشهدا بحال جماعة الإخوان المسلمين التي اعتبرت أن حكم مصر هو المشروع القومي بالنسبة لها، رغم أن الرئيس الذي أتي منها لم يكن إلا مستغلا للظروف ليصل إلى الحكم، مضيفا أن مصر تحتاج الآن إلى مشروع قومي اقتصادي خاصة وأن أكبر أزماتنا اقتصادية، فيجب الاتجاه إلى المشاريع الزراعية كخطوة أولي لسد حاجة المصريين من الغذاء، ثم الاتجاه إلى المشروعات الصناعية التي تحقق التنمية، بشرط توافر عنصر الأمن في الشارع، وتسهيلات الدولة وتشجيعها للاستثمارات الصغيرة وبخاصة في الريف والنجوع.