وفي البدء كانت الثورة.. وفي الأفق كانت الفكرة تغازل العقول من أجل الحرية.. فكرة فثورة فتغيير.. وشعوب تحلم بواقع جديد.. نهدم النظام أم نغيره؟.. دستور أم برلمان؟.. اقتصاد أم سياسة ؟..أسئلة كثيرة تجول في عقول من يغيرون.. فعقب كل تغيير وثورة هناك فترات انتقالية تحتار الشعوب فيها في وضع الأولويات والخطط...وتكون إدارة الأزمة فيها تخضع لمعطيات الساعة ولا تتحلي بالبعد الاستراتيجي. ففي البداية، يكون من قاموا بالثورة هم الأقرب إلى الحكم.. بحكم الواقع على الأرض ولكن هناك موازين القوى التي لا يحتاط إليها الثائرون فهناك القوى السياسية وتوازناتها وهناك القوى الإقليمية وتدخلاتها. ولم تكن مصر بأي حال غائبة عن دولاب الأحداث ومسيرة التاريخ أبدا، هي أقدم الأمم وإذا نظرنا لما حدث بعد ثورة 25 يناير فإننا سنتأكد من أن التاريخ يعيد نفسه، وأن ما تمر به مصر الآن قد شاهدته كثيرا عبر تاريخها الطويل، فقد مرت بمراحل انتقالية بعد الثورات والأزمات الداخلية ومراحل الاحتلال، والتي يعانى المجتمع فيها من انهيار سياسي واقتصادى واجتماعى ومعنوى، وقد أضرب المصريون في عهد الملك رمسيس الثالث في أول ثورة اجتماعية في التاريخ عن العمل نتيجة الفقر وعدم توفير قوت يومهم، واتفقوا مع الحكومة على مهلة ثلاثة أيام، ولم تف الحكومة بالوعد، فهاجموا مخازن الغلات للدولة بالقوة حتى تحقق لهم مطالبهم. وكانت المرحلة الانتقالية الأخرى بعد نهاية الدولة القديمة في عصر الانتقال الأول أو ما يسمى "الاضمحلال"، فقد كان الناس يلقون بأطفالهم في الشوارع، وانتشر قطاع الطرق وساد الفساد وانتشر الظلم. وبعده جاء عصر انتقال ثان بعد سقوط الدولة الوسطى في عهد الأسرة الثانية عشرة، واستمرت فترة طويلة إلى أن احتل الهكسوس مصر نتيجة الضعف الداخلى، ولكن تآلف المصريون لمدة 100 سنة واستطاعوا التخلص من الهكسوس، بالإضافة إلى الاحتلال الفارسي. وتعرضت مصر في تاريخها القديم الذي استمر 3000 عام تعرضت لمراحل انتقالية كثيرة واستطاعت التعافي وكان متوسط المرحلة من 80 إلى 100 سنة، ورغم مرور مصر بالعديد من المراحل الانتقالية عبر تاريخها بعد عصر، فقد كانت المشكلة الأساسية بعد كل مرحلة هي الأفكار التي يمكن من خلالها العبور الآمن إلى بر الأمان.. وفي هذا الإطار يبرز طرح فكرة. إقامة مشروع قومي يلتف حوله جميع فئات الشعب خلال المرحلة الانتقالية، خصوصا أن التاريخ يشير إلى أن ثورات المصريين يتبعها دائما مشاريع قومية توحد الصف وتساعد في إنجاز الخطوات التقدمية. فبعد ثورة 1919، كان المشروع القومي الأبرز الذي التف حوله المصريون هو الاستقلال عن الإنجليز، وهو المشروع الذي شاركت فيه جميع فئات الشعب، ودفعوا من أجله الدماء حتي تم تحقيقه، وكذلك ثورة يوليو 1952 التي أخرجت عددا من المشاريع القومية التي نفذها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكان مشروعي جلاء الإنجليز عن مصر ثم بناء السد العالي، أبرز المشروعات القومية التي التف حولها المصريون في الخمسينيات والستينيات، ومن أجلهما تحمل المصريون العديد من الخسائر، سواء في تدهور الأوضاع الاقتصادية لفترة تخلت فيها الدول الكبري عن دعم مصر أو في الدماء التي بذلت أثناء العدوان الثلاثي عام 1956 ونكسة 1967. ولعل أهم قرارات المراحل الانتقالية هي كيفية بناء دولة المؤسسات والقضاء على الفساد والتنمية الاقتصادية.. وكيفية إقناع الجماهير بتوجهات هذه المرحلة.. لذلك يبرز دور الإعلام والثقافة كونهما الجناحان اللذان تطير بهما كل مرحلة انتقالية وهنا يظهر جليا كيف استطاع وزراء الستينيات أن يستخدموا الإعلام والثقافة لخدمة المشروع القومي الوطني والذي استطاع بهما العبور من مرحلة الاحتلال إلى الاستقلال والبناء والتنمية. المرحلة الانتقالية.. قضية ستظل تطل برأسها كلما كانت هناك ثورة وتغيير، والأهم أن تكون لدينا رؤية واضحة لهذه الثورة وهذا التغيير.