"عندما تُعشَق البيادة ".. تلك هي العبارة السافلة الجاهلة التي روجها الإخوان ومن والاهم ، بعد انحياز الجيش لثورة شعبه، وتمجيد الشعب لموقف جيشه. وهي سافلة لأنها تسب الجيش باختصاره في الحذاء الميري (البيادة)، وتسب الشعب بتصويره منسحقا تحت قوة الجيش، وكذلك هي عبارة جاهلة لأنها تنم عن عدم فهمهم للشعب الذي ينتمون إليه. فدرجة تقدير وتبجيل أي شعب من الشعوب لجيشه تعتمد بالأساس على حقائق الجغرافيا والتاريخ التي تصنع للجيش مكانته. التاريخ وعقدة الحرمان من الجندية : بعد انهيار دولتهم القديمة وبداية مسلسل الاحتلال الأجنبي لمصر، فقد المصريين شرف الجندية لعدة قرون، وصل الأمر خلالها لحد منع المصريين من امتشاق السيف وامتطاء الفرس، وكان "النبوت" الخشبي المطعم بقطع الحديد، و"الدبوس" الحديدي ذو الرأس الكروي، وأشباههما هي الأسلحة المسموح لأولاد البلد بحملها، وكانت البغال المهجنة بين الخيل والحمير أعظم وأسرع ما يركبون، لهذه الدرجة حرم المحتلون أبناء مصر من امتلاك أسباب القوة. جاء "محمد علي" فجنّد السودانيين أول الأمر حتى لا يشغل الفلاح المصري عن زراعة الأرض، وجعل السودانيين تحت إمرة ضباط مماليك دربهم الكولونيل "سيف" الفرنسي في المدرسة الحربية بالقلعة ثم مدرسة أسوان الحربية. وعندما فشلت تجربة تجنيد السودانيين اتجه تفكيره لتجنيد المصريين، وبدأ بمعسكرين في بني عديات والخانكة. ينقل لنا "عبد الرحمن الرافعي" في تاريخه ما يقوله أحد المدربين وهو "مورييه" الفرنسي "لما انتظم الفلاحون في صفوف الجيش النظامي، ألفوا بسرعة حياتهم الجديدة، وبعدأن كانوا معتادين الذل والمسكنة في قراهم، استشعروا تحت راية الجيش بكرامتهم الإنسانية، وأخذوا يفخرون بأنهم جنود محمد علي، ويقابلون غطرسة الترك بمثلها، ولم يقبلوا أن يسموا فلاحين، وعدوها تصغيرا لشأنهم لأن هذه التسمية كانت تشعر بشيء من المهانة، ونالوا من الحكومة أمرا أن لا ينبزهم أحد بكلمة فلاحين" هكذا استشعر المصريون أول تجارب الكرامة الوطنية في عصور الاحتلال تحت ظل الرايات العسكرية. ثم كانت ثورة"عرابي" بقيادة الفلاح المصري الذي صار ضابطا عظيما برتبة أميرالاي في الجيش وهو في العشرينات، وقام بثورة كرامة وطنية على الخديو "توفيق" ولم يتجاوز الأربعين، فالتف حوله الشعب والجيش. ثم انكسر جيشه أمام استعانة "توفيق" بالإنجليز لمواجهة ثورة المصريين. واستمر الاحتلال حتى ثار ضابط مصري شاب من جديد، هو "جمال عبد الناصر" فحقق جلاء الإنجليز، وقام بثاني مشروع وطني متكامل في تاريخ مصر بعد نهضة "محمد علي"، وامتاز مشروعه بنزعة العدالة الاجتماعية، وبإعادة الأرض السمراء التي صادرها "محمدعلي" – بفرمان أعلن نفسه فيه مالكا وحيدا لجميع الأراضي المصرية – لحيازة الفلاح المصري الذي امتلكها منذ آلاف السنين. هكذا عرف المصريون لحظات الانتصار التاريخي بعد قرون من الاحتلال الأجنبي على يد المؤسسة العسكرية المصرية،وكان قرار الشروع في تجنيد المصريين هو المهد الذي بعثت منه ثورة"عرابي"، وما تلاها من صعود نجم الوطنية المصرية، وكانت مصر قبلها مجرد ولاية في إمبراطورية، أو دولة مستقلة يحكمها أجنبي طموح في أحسن الأحوال. ألا يحق للفلاح المصري بعد كل هذا أن يسعد برؤية الزي الرسمي والنجوم على كتف ولده؟ الجغرافيا وعلاقتها بمكانة الجيش : السهول النهرية المنبسطة، غير المحاطة بحدود طبيعية مثل مصر، ذات الحدود المفتوحة على بحرين من الشمال والشرق، وعلى صحارى منبسطة من الجنوب والغرب، تزيد فيها أهمية الجيش الذي يحمي حدودها، فكل الفترات التي شهدت انهيار الدولة المركزية أو وجود الفتن الداخلية في تاريخ مصر، شهدت احتلالا أجنبيا يأتي من الشرق كالهكسوس والفرس، أو من الغرب كالليبيين، أو من الشمال كالرومان والإنجليز، أو من قبائل ودول الجنوب. هذا عن خصوصية الموضع، أما خصوصية الموقع فهي تزيد أهمية، وقد أفاض الجغرافي العلامة والقطب الناصري الدكتور "جمال حمدان"فيه بما لا يدع مجالا للمزيد، وحديثا زاد وجود الكيان الصهيوني من حيوية الموقع، حيث صارت مصر في قلب المنطقة المشتعلة دائما من العالم، وهو ما زاد بطبيعة الحال من أهمية قواتها المسلحة. التاريخ والجغرافيا صنعا معا عشق المصري لجيشه وإعتزازه بالجندية وبالزي الرسمي، ولن تستطيع بعض الدعايات الإخوانية الجاهلة أن تغير ما صنعه التاريخ، وكذلك لن يعكر خلافنا السياسي مع المجلس العسكري فيما تلى ثورة يناير من صفو تلك العلاقة القديمة شديدة الخصوصية. أحكام التاريخ لا تغيرها السنوات العابرة، وأحكام الجغرافيا لا تغيرها الجماعات المقولبة