استجابته للثورة الشعبية في30 يونيو كانت انعكاسا للمواقف التاريخية لهذه المؤسسة العسكرية, التي لم تتخلف يوما عن المطالب الشعبية, إدراكا منه بأنه جيش للوطن بكل مكوناته. وليس جيشا لسلطة أو نظام. مدرسة الوطنية المصرية تستدعي الرجوع إلي أصول تلك المؤسسة الوطنية الراسخة. اختلف المؤرخون بالنسبة لتقييمهم لوالي مصر محمد علي, فمنهم من تمسك بأن هذا الوالي الطموح هو مؤسس مصر الحديثة, وأنه هو الذي فجر طاقاتها وأسس عظمتها, وأنه في كل ذلك لم يكن يسعي لمجد شخصي, بقدر ما كان يهمه بناء الدولة الحديثة في مصر. وهناك فريق آخر من المؤرخين يري أنه هو مجرد حاكم انتهازي وأنه إذا كان قد أقام مصر الحديثة فعلا فإنه لم يسع من وراء ذلك إلا لإقامة مجد شخصي له وأن مجهوداته في كل المجالات كانت وسائله في تحقيق هذا المجد الشخصي, هذا الجدال ليس ما يهمنا ولكن يمكن القول باطمئنان أنه لم يوجد منذ مطلع العصور الحديثة في مصر ما يمكن أن نسميه بالجيش المصري إلا في عصر محمد علي. والواقع أن الآمال العريضة التي كان يعلقها والي مصر الطموح علي مشروعاته ورغبته في المحافظة علي مركزه, وعلي توطيد هذا المركز, وطبيعة الممتلكات التي تألفت منها امبراطوريته. كل ذلك أوجب أن ينشئ قوة كبيرة أمكنه بفضلها أن يسيطر علي مصر والسودان والجزيرة العربية وكريت والشام وغيرها. إلا أن وجود هذا الجيش المصري الكبير لم يكن وحده كافيا لضمان الاستقرار في هذه الامبراطورية المصرية الواسعة بل كان من الأهمية تنظيم هذا الجيش تنظيما حديثا يمكن الوالي من التغلب علي أعدائه. إلا أن تأليف النظام الجديد للجيش لم يكن بالأمر الهين, فقد صادفت الباشا في طريقه صعوبات جمة. والواقع أن الطبقة الارستقراطية التركية كان لها دخل كبير فيما لقيه الوالي من صعاب بالنسبة لتجنيد المصريين لأن أفراد هذه الطبقة حاولوا منع هذه المحاولة لأن الجندية في عرفهم مهنة نبيلة يحط من قدرها أن تصبح في متناول الفلاحين. بالاضافة إلي خوف هذه الطبقة من أن تشد الجندية من أزر الفلاحين ويثورون بعد فترة علي الأوضاع القائمة والتي كانت في صالح الطبقة التركية الارستقراطية. ومن ثم تلك الفرية التي ألصقت بشعب مصر ظلما وعدوانا من حيث أنه غير جدير بحمل السلاح, وهي الفرية التي أثبت المصريون في عصر محمد علي أنها واهية لا تستند إلي أساس. لكن الباشا رأي أن يمضي في طريقه غير عابئ بتلك الطبقة وأقبل علي تجنيد المصريين بعزيمة صادقة ونجحت التجربة نجاحا لم يكن يتوقعه وسرعان ما ألف الفلاحون حياة الجندية وأصبحوا يرون أنه من دواعي فخرهم أن يكونوا من جند محمد علي. ويكفي في هذا المضمار أن نقول إن عدد أفراد الجيش المصري ارتفع في عصر الوالي العظيم من24 ألف جندي في عام1824 إلي41 ألفا في العام التالي, ثم إلي80 ألفا في عام1833 وإلي150 ألفا في عام1839 مع التذكير بأن عدد سكان مصر كان نحو المليونين في تلك الفترة. ولقد سار هذا الجيش المصري العظيم سيرا حثيثا في طريق المجد والشهرة. ذلك الجيش شق طريقه في الجزيرة العربية كلها وفي الشام والسودان وغيرها... في إفريقيا وآسيا وأوروبا وأبلي بلاء حسنا في جميع المعارك التي اشترك فيها. صحيح أن عدد الجيش قد أنقص عقب تسوية لندن(1840 1841) وأن الباشا عين أفضل قواده حكاما علي المديريات( المحافظات) ولكن النشاط العسكري لم يلبث أن تجدد بعد فترة قصيرة, فقد استأنف القائد العظيم ابراهيم باشا العناية بتدريب الجند وإقرار النظام في صفوف الجيش وإقامة التحصينات علي السواحل المصرية. ثم خبت الشعلة التي أضاءها الوالي الطموح في كل المجالات إلي أن بدأ الجيش المصري يسيطر علي مسرح الأحداث في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر وأوائل الثمانينيات, وهنا يأتي دور أحمد عرابي الذي أراد أن يعيد للجيش المصري مجده وعظمته وأن يحقق للشعب مطالبه في الحياة الحرة الكريمة فكانت ثورته المشهورة علي رأس جنود الجيش وكانت وقفته التاريخية أمام الخديو توفيق يبلغه مطالب الشعب وحين رفض الخديو طلباته رد قائلا هذه الطلبات لا حق لكم فيها فأنا خديو البلاد وقد ورثت هذه البلاد عن آبائي وأجدادي وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا. كان رد عرابي العظيم لا. لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا وعقارا.. ولقد خاض الجيش المصري بقيادة أحمد عرابي معارك عنيفة ضد جيش الانجليز وسجل التاريخ بطولات رائعة لجيشنا. ولما طالب الانجليز الحكومة المصرية بإخلاء القلاع والطوابي الساحلية بالاسكندرية من المدافع وتسليم بعضها إلي الانجليز وهدد بضرب الاسكندرية ان لم تستجب لمطالبه. فيرفض أحمد عرابي وزير الحربية ويقول كلمته المشهورة نحن هنا في بلادنا ومن حقنا بل من واجبنا أن نصونها ضد كل عدو يبادئنا العدوان وأن مصر المحافظة علي حقوقها وعلي شرفها لا تستطيع أن تسلم أي مدفع أو أية قلعة مهما كان... لا غرو إذن أن يقول نابليون بونابرت عن جيش مصر العظيم لو كان عندي نصف هذا الجيش لغزوت به العالم. خبير في الشئون السياسية والاستراتيجية رابط دائم :