منذ أن تتابعت أحداث مابعد ثورة25 يناير, أصبح واضحا اننا نعيش مرحلة تفتقد وصف المرحلة الانتقالية, لما شابها من تشوش, وفوضي, وتناطح إرادة وأهداف. فالمرحلة الانتقالية بالمعايير السياسية لفترات مابعد الثورات والتحولات التاريخية, تبدأ بوضع الأساس المتين, الذي تبني عليه قواعد مرحلة إعادة بناء الدولة بعد ذلك. فضلا عن افتقاد المرحلة السابقة, وضوح الرؤية والهدف, لهوية الدولة في الداخل والخارج, وهو مانتج عنه ارتباك في قدرة الدول الأخري علي المستويين الاقليمي والدولي, في التعامل السليم مع الدولة المصرية. كانت المرحلة السابقة التي عرفت تجاوزا, بالمرحلة الانتقالية, بالغة التعقيد منذ بدايتها, وهو ما أدي إلي تبعثر الآمال وتوالي الاحباط الذي حط بثقله علي صدور المصريين وان كان هذا لاينفي أن الشباب الواعي الذين أطلقوا الثورة, لم يكونوا يحرثون في البحر, أو يبنون قصورا فوق رمال متحركة, فهم قد ارسوا أساسا باقيا, تشهد له مراكز عالمية متخصصة, ومعاهد دراسات الشرق الأوسط, التي اتفقت علي الثورة لم تكن حدثا عارضا, لكنها كانت عبارة عن إطلاق شحنة من طاقة وطنية, كانت متجذرة في النفوس, ومهما تكالبت عليها قوي الثورة المضادة, فإن هذه الطاقة لن تهدأ, فهي كامنة ومتجددة. هذه الدراسات التي شارك فيها مفكرون لهم وزنهم علي المستوي العالمي, التي كانت تتابع مايجري في مصر أولا بأول منذ11 فبراير2011, اتفقت علي أن الثورة المضادة, بكل امكاناتها وأدواتها, ستأخذ وقتها, ثم تضمحل لأنها لاتستطيع أن تصمد طويلا أمام تيار تاريخي, يصحح وضعا لايستقيم استمراره مع تحولات تاريخية تجري في العالم. ولو أن الذين يناهضون الثورة, يقرأون تاريخ بلدهم, لعرفوا أن ماجري في25 يناير2011, هو مجرد حلقة في سلسلة طويلة وممتدة من المواقف الوطنية للمصريين, تشابهت جميعها في الشكل, وفي الدوافع والأسباب, وأن المصريين الذين أزيح التراب من علي معدنهم في25 يناير فبرقت حقيقتهم, في نظر أنفسهم, وفي نظر العالم, هم أنفسهم المصريون الذين خرجوا بنفس الطريقة في جميع مدن وقري مصر, في ثورة19, وبقيت حالة الثورة ممتدة حتي يوم28 فبراير1922, عندما سلم الانجليز باستقلال مصر دولة ملكية دستورية. وهو نفس ماحدث عام1935, للمطالبة بإلغاء دستور1930, الذي أعلنه إسماعيل صدقي رئيس الوزراء, بديلا عن دستور1923, وضمنه توسيع سلطات الملك, وفرض إجراءات للتحكم في حرية الصحافة وأرغم الملك فؤاد علي اعادة العمل بدستور23 وهم أنفسهم المصريون الذين حفل تاريخهم القديم بالثورات, كلما ضاقوا بالظلم والجور علي كرامتهم, وهو ماسجله المؤرخون, وهم المصريون انفسهم الذين أنعشوا مناخا من الصحوة الوطنية, والازدهار السياسي والاجتماعي والأدبي والفني, في سنوات الأربعينيات, في إطار حركة وطنية تطالب بالاستقلال وإنهاء الاحتلال الأجنبي, وتطالب بالديمقراطية والدستور. والآن ونحن في ثورة كانت وراءها مئات الأسباب التي أججتها في الصدور, فلن تستطيع تلال الاحباط أن تخمد شعلتها المتقدة, حتي لو بدا أن لهيبها قد تضاءل, وهو مايبقي المصريين, متيقظين, يترقبون المسار الذي تمضي فيه آليات الاستجابة للأهداف التي دوت بها الصيحات في الدقيقة نفسها, في جميع مدن وقري مصر وكانت تنطلق من الصدور تحدد مطالبها التي راحت تتبلور تدريجيا علي النحو التالي انتهاء استحواذ الحاكم الفرد علي القرار السياسي, وان يكون عمله مستندا إلي هدف وطني محدد, ورؤية استراتيجية يعاونه مجلس أمن قومي, يضم فريقا متفوقا من أصحاب المعرفة, والخبرة والتخصيص, واعادة ترتيب الأولويات التي تأخذ في اعتبارها مواطن العمق الاستراتيجي لمصر, بدءا من دول حوض النيل. التوافق العقلاني مع عصر ثورة المعلومات وقواعد عمله, وما أنتجه من مبادئ سياسية واقتصادية متغيرة ومتطورة, وتجهيز كوادر دارسة ومدربة, من أهل الخبرة والقدرة علي إطلاق الخيال, فنحن في عهد انتاج الأفكار, بعد أن ولي عصر تدوير الأفكار التقليدية والمستهلكة, التي تنتمي لعصر الثورة الصناعية, وماقبله. فالعالم قد تداخل في بعضه, وانزاحت الفواصل التي كانت ترسم حدودا صلبة, وسمحت وسائل التكنولوجيا الحديثة للشعوب بالتواصل. الوعي بأن القوة الناعمة بجميع مكوناتها, خاصة المنتج الثقافي التنافسي, الأدبي والفني لم تعد مجرد أشكال للنشاط الداخلي, بل صارت ضمن مكونات مكانة الدولة ونفوذها في الخارج, خاصة بعد أن صارت وسائل الاتصال الحديثة, ومنها الفضائيات والانترنت, تتيح للعالم البعيد, فرص الاطلاع علي هذا المنتج وتذوقه. ولعلنا لانزال نتذكر ان نظرة دول وشعوب العالم لمصر, قد تغيرت منذ ثورة25 يناير وأنها تتابع عن قرب مايجري عندنا, بل ان الوضع في مصر, قد تحول منذ الثورة, إلي بند رئيسي في مناهج ودراسات العلوم السياسية, في كثير من الجامعات في أوروبا وأمريكا علي وجه الخصوص. وإذا كنا قد أشرنا إلي الإحباط الذي خيمت سحبه الداكنة والمعتمة علي المصريين في المرحلة الانتقالية الأولي ان مروا بها, سرعان ما كانوا يستوعبون الصدمة ويعيدون حشد إرادتهم, بطريقة تزيح من طريقهم صخرة الانكسار, ويمكن ان نستشهد بنموذجين في تاريخنا المعاصر, الأول حين أدارت سلطات الاحتلال البريطاني عقب هزيمة ثورة عرابي عام1882, حملة مخططة لغرس مشاعر الانكسار في النفوس, لكن الشعب سرعان ماتحرك بحيوية أذهلت الانجليز في صورة حركة وطنية ناضجة, علي رأسها مصطفي كامل, نجحت في ايجاد صحوة تصاعدت وبلغت ذروتها بثورة.19 والثاني حين وقعت هزيمة67, جبالا من الاحباط في حياة المصريين, لكن رفضهم للهزيمة ظل يقوي ويشتد, إلي أن استعادوا ثقتهم بأنفسهم وبقدراتهم في حرب..73 ان مصر قبل25 يناير كانت خارج التاريخ وكانت في قبضته نظام عزلها عن عالم يتغير ويتطور, وهاهي مصر الأن تخطو نحو إستعادة مكانتها والتحاقها بحركة التاريخ. المزيد من مقالات عاطف الغمري