بصرف النظر عن أي اختلافات في تحليل المشهد الراهن في مصر، إلا أن الظاهر أن هذا المشهد ليس هو ذاته ما كان قبل تعديل المادة 76 من الدستور.. التي هي نقطة بداية. وأن التحولات الكبرى في التاريخ لها دائما نقطة بداية ولو صغيرة، ولو رجعنا إلى السنوات الأولى من القرن العشرين، فهل كانت ثورة 19 وليدة اللحظة، أم أنها الثمرة التي مرت بمراحل نضجها على شجرة الحركة الوطنية، منذ قاد مصطفى كامل معركة إيقاظ الشعب المصري، التي تكثفت مع قيام الحزب الوطني عام 1907. وبخلاف الدور الوطني لمصطفى كامل في مقاومة الاحتلال، ووضع محاربة الجهل بنشر التعليم على قمة أولوياته، فإن الأهم أنه جاء في فترة كان الاحتلال الانجليزي قد أتم فيها عملية منظمة في محاولة إحداث انكسار في الروح الوطنية في مصر، والتي بدأت فور هزيمة عرابي، ودفع المصريين للانكفاء على ذواتهم في كهوف العزلة عن حياة الوطن وقضاياه الكبرى. وكان الدور الأعظم لمصطفى كامل هو إيقاظ هذه الروح، وإخراج الناس من حقبة ثقيلة من اللامبالاة، والعزوف السياسي. لهذا كان القول إن تعديل المادة 76 رغم التحفظات هو نقطة بداية حركت وأيقظت وأنزلت حواجز العزلة الاختيارية واللامبالاة. فما جرى في هذا اليوم أنه أزال حجرا من سور كانت قد تجمعت وراءه تراكمات كثيرة، فاندفعت من الثغرة مكان الحجر، طاقات محبوسة وسوف يتلاحق اندفاع موجاتها الى خارج السور، فما كان قائما من نظام للاستفتاء دون حق الاختيار الحر، هو وضع استثنائي، وليس من طبيعة الاشياء أن يستمر الاستثناء لأكثر من خمسين عاما، فالاستثناء هو السور الذى كانت تتجمع وراءه المطالب المشروعة والطبيعية، وتتراكم لتشكل إرادة شعبية. ولم يكن ذلك بسلوك غريب على مصر، فالديمقراطية كانت دائما مطلبا للمصريين منذ بداية القرن العشرين، سواء في الفترات التي مارسوها فيها، أو التي نزعت فيها منهم. وإذا كانت قوة دفع عملية التغيير وإيقاظ روح المشاركة السياسية لم تبلغ مداها المأمول، بما ظهر من مشاركة أقل من 5.7 مليون ناخب فقط في التصويت في الانتخابات الرئاسية من بين 32 مليونا لهم حق الانتخاب، فإن الأثر كان لا يزال عند مرحلة البداية، وبالتأكيد سوف يشتد عزم قوة الدفع، للوصول الى حالة الايقاظ الكامل، من أجل أن تفوز مصر بديمقراطية حقيقية. والديمقراطية ليست نظاما يدخل المصريون تجربته لأول مرة، أو انه شيء وافد عليهم، وقد ارتبطت ممارسة الديمقراطية أو المطالبة بها، بالقضية الكبرى التي كانت الشغل الشاغل لكل مصري وهي جلاء الانجليز واستقلال مصر وحريتها. فمصر التي عرفت تشكيل أول مجلس وزراء عام ،1879 وأول مجلس نيابي عام ،1866 وأول دستور في العام نفسه (1866)، هي التي قامت بزعامة أحمد عرابي بمطالب ديمقراطية وطنية، لإيجاد نظام نيابي يشارك به المصريون في صنع القرار، وترفض الاستبداد والتبعية للأجنبي، وحملت برنامجا يتحدث عن حرية المطبوعات ونشر التعليم ونمو المعارف. وجاء الربط العضوي بين الديمقراطية، وبين الحرية والاستقلال الوطني، كلفت بريطانيا اثر احتلالها لمصر عام 1882 سفيرها في الدولة العثمانية لور دوفريين بدراسة الحالة في مصر، والتوصية بما يجب عليها عمله، فوضع تقريرا من أبرز بنودة بألا يؤخذ بالنظام النيابي في مصر. وكان القصد تجريد المصريين من المشاركة في القرار، والتعبير الحر، وحماية حقوقهم الوطنية والسياسية، وتمكين بريطانيا من السيطرة التامة على مصر. ولم تتراجع هذه القضية طوال سنين الحركة الوطنية، فمع بدء ظهور الأحزاب في بدايات القرن العشرين، ارتفعت المطالب بالدستور، ورفض تقييد حرية الصحافة. ثم كانت ثورة 19 تعبيرا عن صحوة كاملة للمجتمع المصري، تطلب الحرية وتصر عليها الحركة بجميع أشكالها وأبعادها ومكوناتها. ومن بعدها كان صدور دستور ،1923 رغم بعض الثغرات والقيود فيه الذي أقام لمصر نظام حكم ومؤسسات تعرف حدود دورها والعلاقة فيها بينها، وأقر مبدأ دولة القانون. وفي الفترة منذ ذلك الحين وحتى عام 1952 كان هناك تطابق تام بين حركة الديمقراطية والمسألة الوطنية، ثم انه رغم تجاوزات وتدخلات من الانجليز أو من القصر، فإن المصريين لم يعدموا في تلك الفترة خاصة في الأربعينات ممارسة الديمقراطية بالتصويت المحاط بضمانات الانتخاب الحر. وحتى لو كانت أمريكا تطالب بالديمقراطية وأدرجتها في اطار سياستها الخارجية، ضمن برنامج الولاية الثانية للرئيس بوش، فإن هذا الأمر جاء تعبيرا عن حسابات امريكية محضة، وعن مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة. وهذا شيء لا دخل له بحركة متصلة في عمق التاريخ الحديث للحركة الوطنية المصرية، وبقضية هي في صميم حسابات المصريين لمصالحهم الوطنية وأمنهم القومي، ولا هي نظام يبدأ من فراغ، أو ينطلق من عدم، أو أنها لتكتمل تحتاج فترة انتقالية اخرى. أو لم تكن فترة الخمسين سنة السابقة فترة انتقالية تجمدت وطالت، وحطت في زمان كان يتحرك ويتغير، بينما هي عامل توقف وتجميد. ولأن الديمقراطية في تكوين الضمير المصري، عبر مراحل تاريخه الحديث، لهذا كان تعديل المادة 76 من الدستور، مجرد بداية، لا بد ان يكتمل شوطها، والمؤكد ان مصر اليوم ليست هي مصر قبل فبراير/ شباط ،2005 فلقد انتفض نبض عروقها السياسية، وجاءها إيقاظ يصعب بالنسبة للشعوب، وعلى ضوء كل التجارب التاريخية، ان تعود الى السبات الذي كان قد أفرز ظواهر، لم يعد احد يرضى لها بأن تظل صانعة للإحباط، واللامبالاة، والانكفاء على الذات في كهوف العزلة عن مسار الحياة السياسية. وحين تعيش مصر اليوم مرحلة التحرك لاستكمال الديمقراطية بالخروج من كل ما كان حالة استثنائية نصت عليها بنود دستور ،71 ومن قبله دستور ،56 فإن هذا لا يعني ان مصر تكتب لأول مرة صفحة في تاريخ فارغ من تجارب الحياة النيابية، فلقد شهدت تجارب منها حفرت علامات في وجدان هذا الشعب وتاريخه. فإذا كانت الحرية والاستقلال وجلاء الانجليز قد شكلت المشروع القومي الذي اجتمع حوله المصريون بكل فئاتهم واتجاهاتهم طوال 70 عاما، فإن هذا المشروع قد ارتبطت به عضوياً ومصيرياً قضية الديمقراطية والدستور والحياة النيابية. -- صحيفة الخليج الإماراتية في 19 - 10 -2005