الآن، وبعد أن تم الاستفتاء، فلا أحد يعتقد بأن ما هو آت في المراحل المقبلة، سيكون صورة لما فات. فمصر دخلت مرحلة أخرى من تاريخها، بتغيير المادة 76 من الدستور، مادام لا أحد يختلف على أن التغيير هو استجابة لتطلعات شعبية. كما لا يمكن أن يغيب عن فطنة أحد أن أي خطوة أولى في عمليات التحول التاريخي في حياة الشعوب، هي قاطرة تجر وراءها بقية العربات، والغاية من القطار هي العربات ذاتها وليست القاطرة التي تظل مجرد أداة تحريك أو دفع لما بعدها. ثم إن التحولات التاريخية في حياة الشعوب هي دائماً دورة كاملة، ما إن تبدأ حتى تندفع لتستكمل دورتها. وما دام هناك اتفاق عام بين الذين دعوا للاستفتاء والذين عارضوه، على أن تعديل المادة 76 إنما هو تصحيح لوضع سياسي، يمنع اكتمال الديمقراطية، تحقيقاً لرغبة الشعب، عندئذ تكون رغبة الشعب هي القوة المحركة لهذه التحولات، وليس الأشخاص. إن رغبة الشعب لم تأت بين يوم وليلة أو أنها كانت خلية ضامرة في الضمير العام، هذا لو افترض أحد -خطأ- أن مصر بلا تاريخ ليبرالي، أو أنها لم تعرف الديمقراطية والدستور في العصر الحديث، منذ تكوين مجلس شورى النواب في نوفمبر/تشرين الثاني ،1866 وتفاعلات الحياة في مصر برغبات ومطالب شعبية ناضجة كانت قوة دافعة لكثير من التطورات السياسية والاجتماعية الهائلة منذ بدايات القرن العشرين، وتصاعدها في عشرينات وثلاثينات وأربعينات القرن الماضي. لأن رغبة الشعب هي نبض لا يتوقف في جسد الوطن، وهي مثل موجات تلحق كل موجة بسابقتها تدفعها وتعلو بها، بحيث حين فتح لها منفذ تتدفق منه (بتعديل المادة 76)، فليس متصوراً أن تعبر الموجة الأولى منسلخة كما في إثرها، لأنها كلها اختلطت وامتزجت، وتداخلت، وتفاعلت، وتوحدت كياناً واحداً، وليس وحدات منفصلة. بمعنى أن حركة التغييرات والتحولات صارت مثل جريان الماء لا بد أن يمضي في مجراه إلى أن يكمل شوطه، ويصل إلى مبتغاه. والصحيح كذلك أن هذه المسألة لا تتعلق بالداخل وحده، وإلا لكنا نفترض أن مصر حالة قائمة بذاتها في المجتمع الدولي، وهذا غير جائز وغير صحيح، لأن مصر جزء من مجتمع عالمي تغيرت أيضاً قواعد إدارته وعلاقاته، وقوانينه، ومنها ان الديمقراطية بمعاييرها المتفق عليها عالمياً، أصبحت هوية من يحمل عضوية النظام العالمي الجديد والمتغير. وهذا شيء بعيد عن موضوع التدخلات الخارجية، ولكن الأمر هنا يتعلق بمعايير لنظام دولي خرجت من إطارها النظري، إلى وضعها موضع التطبيق، في قرارات، وإجراءات، وسياسات، أصبحت موضع تأييد من أوروبا، فضلاً بالطبع عن الولاياتالمتحدة وقبول واستجابة من الأممالمتحدة. وما دام المستقر والمتفق عليه أن إرادة الشعوب هي القوة المحركة للأحداث الكبرى والتحولات الهائلة في حياة الأمم، فإن إرادة الشعوب في الوقت نفسه هي القوة الحاكمة في كون الدساتير مازالت تعبر عنها، وتعكس الأوضاع القائمة أم أن الدساتير القائمة انفصلت عن الواقع القائم، خاصة وأن الدول في فترات التحول التاريخية لا بد وأن تجري مراجعة لدساتيرها حتى لا تفقد الدساتير المعمول بها تعبيرها عن الأوضاع القائمة، فما بالنا وبلادنا محاطة بتفاعلات تحولات هائلة سواء في الخارج- في العالم كله من حولها الذي تغير واختلف وانقلبت أوضاعه وموازينه وحساباته- أو في الداخل الذي تغير نظامه السياسي، والاقتصادي، واقتحمته مؤثرات اجتماعية، وثقافية، لم تكن فيه، وصار الدستور يخاطب ما فات وليس ما هو كائن أو ما هو آت. أضف إلى ذلك أن مراحل التحولات التاريخية صار لها مدى زمني أقصر كثيراً مما كان طول القرون الطويلة السابقة، وأصبح إيقاع التغيير والتطور فيها أسرع، بسبب الطفرة الهائلة في السنوات القليلة الماضية، في وسائل التكنولوجيا الحديثة وثورة المعلومات، وبالتالي فإن استجابة الدساتير لطبيعة العصر، لم تعد تحتمل الإيقاع البطيء. إن التعديل الذي أدخل على المادة 76 من الدستور يظل موصوفاً بأنه مجرد خطوة.. وخطوة أولى، جاءت مدفوعة بقوة دفع تاريخية صنعتها مطالب شعبية لا تهدأ ولا تكل، للانتقال من وضع سياسي هو بكل المقاييس وضع استثنائي وليس وضعاً قابلاً للبقاء أبداً، وهو الوضع الذي افترض من صاغوه أن اختيار رئيس الدولة، لا يصح أن يترك خلال مرحلة زمنية موقوتة، للاختيار الديمقراطي من جانب جماهير الشعب. ولما كان الاستثناء ليس بقاعدة وتحت كثافة مطالب الشعب بالأخذ بالقاعدة، بالعودة إلى طبيعة الأشياء، فلم يكن أحد يملك أن يحول الاستثناء إلى قاعدة، ويعوق العودة بالأوضاع إلى طبيعتها، حتى ولو ظل هناك من لا يرتضي إلا بالاستثناء، فسيبقى واقفاً بطوله في وجه حركة التاريخ، التي هي قبل أي شيء التعبير الفعلي عن إرادة الشعوب. ما نحن بصدده اليوم ليس حدود المادة ،76 فقد تجاوزها الحال، فنحن اليوم- الجميع- يتعامل مع إرادة شعب، وهي الإرادة التي أزاحت الحجر من الجدار (حجر المادة 76)، وهي ذاتها التي ستزيح بقية الأحجار. وحتى لو كان الأمر هو تغيير مادة في الدستور، فإن المعنى الحقيقي لما تم أنه تصحيح لواقع سياسي كان قائماً، وإذن فنحن قد انتقلنا إلى فترة ما بعد المادة 76. وليس بخاف على أحد أن لحظة تغيير المادة 76 قد أطلقت أملاً لشعب كان قد أدار ظهره للتصويت لعشرات السنين الماضية، متخلياً عن ممارسة حق دستوري له، حين اقتنع أن رأيه لا يقدم ولا يؤخر، أما وقد تحول بوجهه مرة أخرى إلى ما كان قد أدار له ظهره، مدفوعاً بالأمل الذي أعطته له لحظة تغيير هذه المادة، على أساس تسليمه بأنها مجرد خطوة وليست نهاية المطاف، فإن هذا الأمل قد غير تشكيل الوضع السياسي في مصر تغييراً كاملاً. إن الأمل الذي بعث في الأفق الذي ظل يخلو منه لعشرات السنين قد جذب إليه الأنظار التي تتطلع إليه عن بعد، لا تفارقه العيون، تتطلع وتترقب، وتتأمل، وتتوقع أن يكون ما يأتي به الغد، هو ما ترتضيه كاملاً غير منقوص. والأمل هو المولود الذي خرج للحياة يوم 26 فبراير/شباط ،2005 أي أنه الآن ليس في عداد الأمنيات والمطالب، لكنه كيان صارت له حياة ووجود وقوة دفع.