لست ممن يتقبلون آراء تقول, إن المصريين لم يكونوا في تاريخهم مهتمين بالأحزاب, وان انظارهم كانت معلقة أبدا بالسلطة التنفيذية بحكم تقاليد قديمة أساسها أن مصر دولة مركزية. أو القول بأن المصريين قبل ثورة25, لم يكونوا مهتمين بالعملية السياسية, بدعوي أنها كانت عبارة عن لعبة بين ثلاثة أطراف القصر والانجليز والأحزاب وكأن تاريخ المصريين قد خلا من دور لهم, ونضال من أجل قضية وطنية. كانت تستهويني وأنا في طور الطفولة, جلسات حوارية ساخنة لأقارب ومعارف من طلاب المدارس الثانوية, تعقد مساء في بيت أحدهم, ومنهم الوفدي, والإخواني, والمنتمي لمصر الفتاة, أو الحزب الوطني القديم, وغيرها من أحزاب هذا العصر. وفي نهاية الجلسة يتصافح الأصدقاء وينصرفون علي لقاءات لاحقة. وكان الانتماء للأحزاب معروفا وعلي نطاق واسع. ورغم اختلاف التوجهات, إلا أنهم جميعا, كانوا مجتمعين حول قضية مشتركة, وهي المسألة الوطنية, والتخلص من الاحتلال, واحترام الدستور. وحين أبدأ بتأمل الآراء التي لم أتفق معها, فلننظر بداية إلي موقف الناخبين في آخر انتخابات نيابية قبل ثورة25, حين تدفقوا علي صناديق الانتخابات بنسبة تصويت لم تبلغها أي انتخابات في مصر حتي اليوم. والتي قدرها المتابعون بما يزيد علي06%. بعض الاحصاءات قالت إنها66.96%, وأخري قدرتها ب57%, ولكن أقلها وهو ما سجله المؤرخ عبدالرحمن الرافعي استنادا إلي أرقام وزارة الداخلية, وكانت26.06% وفاز فيها الوفد بأغلبية5.17%. بعد ذلك بفترة قصيرة, قامت ثورة يوليو, وكانت هناك حركة جماهيرية تنشطها حياة حزبية منظمة, وصحافة مطلقة السراح, مقترنة بنهضة فكرية وثقافية انتعشت بقوة في الأربعينات, وهي التي مهدت المناخ لاستقبال ثورة25, باقتناع بأن الضباط الأحرار خرجوا كطليعة, لمطالب جماهيرية ترفض تدخل القصر في الحياة السياسية, وترفض أي تهاون من الحكومة في المسألة الوطنية. ولو اننا رجعنا قليلا إلي ما قبل الأربعينات بقليل, نجد تحركات شعبية جماهيرية تنتشر في مختلف المدن والقري عام5391, تطالب بإلغاء دستور0391, الذي استبدلت به حكومة إسماعيل صدقي دستور3291, ونتج عن هذا الحراك الشعبي العام ارغام الحكومة علي الكف عن العبث بالدستور, وعودة دستور.3291 وسبقت أزمة دستور3291, حياة سياسية كانت قد تأسست من حزب الوفد, وعدد آخر من أحزاب الأقلية, التي ظهرت نتيجة ثورة91, وهي الثورة الشعبية التي اشتعلت في مدن وقري مصر بأكملها في وقت واحد فكيف يقال إن الشعب كان خارج لعبة السياسة, بينما السياسة, في تعريف علم السياسة, هي شأن عام, وفاعلية مجتمعية نشطة, وهو ما كان. ان الحركة الوطنية في مصر, هي من صنع تراكمات أحداث, تشكل سلسلة متصلة الحلقات لا تنقطع صلة احداها بالأخري. فالدور الذي قام به مصطفي كامل منذ إعلانه تأسيس الحزب الوطني عام7091, كبداية للحياة الحزبية, كانت قضيته الإولي, ان يوقظ في المصريين الروح الوطنية التي قام الانجليز بكل مسعي ممكن لانكسارها, منذ هزيمة عرابي عام2881, انتقاما من المشاركة الشعبية في دعم ثورة عرابي. وأسهم مصطفي كامل في احداث نضج اجتماعي وفهم عميق للهوية الوطنية, عمل علي خلق المناخ الذي احتشد فيه المصريون وقاموا بثورة.91 وللأحزاب في مصر تاريخ قديم نشأ عمليا مع قيام الحزب الوطني لمصطفي كامل عام7091, وقيام حزبين آخرين في نفس العام هما حزب الأمة من كبار الرأسماليين, وكبار المسئولين, وبعض الشباب المثقفين, وحزب الاصلاح علي المبادئ الدستورية, معبرا عن القصر الخديوي. وتوالت الأحزاب مع تأسيس الوفد بعد ثورة91, ثم الأحرار الدستوريين(2291), وتنظيم الإخوان(8291), ومصر الفتاة(3391), والهيئة السعدية(7391), وتنظيمات يسارية في الأربعينات, ثم الحزب الوطني الجديد من شباب الحزب القديم, والكتلة الوفدية(2491). وهذه الحياة الحزبية كما يقول الكاتب البريطاني بيتر مانسفيلد في كتابه البريطانيون في مصر أفرزت موجة جديدة من قيادات وأعضاء الحركة الوطنية, التي نشطت بقوة في مصر. أما عن تناقضات العلاقة الثلاثية بين الملك والانجليز والأحزاب, فهي علاقة معقدة من بدايتها. فالملك فؤاد لم يكن يقبل تقييد البرلمان لسلطته المطلقة, ووافق علي حل البرلمان ثلاث مرات, وتأجيل الانتخابات مرارا, وهو الذي ألغي دستور3291 ليحل محله دستور0391 المرفوض شعبيا. وفاروق بدوره سعي دائما لتوسيع نفوذه السياسي, وإضعاف الأغلبية, مستعينا بأحزاب الأقلية. وحزب الوفد الأغلبية حاول من ناحيته تقليص نفوذ القصر, والحد من الحقوق السياسية للملك. فضلا عن العمل علي الحد من نفوذ الانجليز في الحياة السياسية. والانجليز من جانبهم لم يكفوا عن الضغط علي القصر مرة, وعلي الأحزاب مرة أخري, لاستمالة من يمكنهم استمالته, وإضعاف من يستعصي عليهم. أي ان الأمر لم يكن في اطار أوضاع مصر في هذه الفترة, مجرد لعبة سياسية لكنها كانت كذلك, صراعا سياسيا. ولم يكن الشعب متفرجا, أو خارج الحلبة, وإلا لما كانت هذه التحركات الشعبية التي حققت أحداثا كبري, ولما كانت هذه الانتماءات الواسعة النطاق للأحزاب القائمة, أو كانت تلك الموجات التي خلقت مزاجا نفسيا وسياسيا رحب بثورة يوليو لحظة قيامها. بصرف النظر عن اختلافات بشأنها فيما بعد. ولم يكن الشعب سلبيا غير مشارك, وكأن هذا حكم عليه, بأن هذا قدره, أو أنه تراث تاريخي مستحكم لا إفلات منه, مع إن التاريخ المعاصر يشهد بخلاف ذلك. ..أما عن الضعف العام الذي دب في أوصال الأحزاب هذه الأيام. فهذا موضوع آخر.