هذا الفراغ السياسي والعبث الدستوري الذي نعيشه منذ ثلاثين عاماً أو أكثر يوحي للبعض بحداثة التجربة الديمقراطية والدستورية لمصر.. لكن الحقيقة التاريخية تناقض هذا الظن تماماً.. فمصر صاحبة ثاني برلمان في تاريخ العالم وهو مجلس شوري النواب الذي أنشأه الخديو إسماعيل عام 1886 وبدأ هذا البرلمان قوياً منذ لحظة ميلاده إلي درجة أنه اختلف مع منشئه الخديو إسماعيل حول بعض سياساته وأراد "الأعيان" أعضاؤه أن يمارسوا دوراً رقابياً حقيقياً علي أداء الخديو وحكومته فاصطدموا به فأصدر فرماناً بحله فرفضه الأعضاء فأغلق إسماعيل مقر المجلس في وجوههم فلم يمتثلوا له وذهبوا إلي فندق الكونتننتال وظلوا يعقدون جلساتهم هناك حتي انتهت مدتهم القانونية!! ومصر التي لم يكن فيها دستور حقيقي وقوي يعصم الشعب من عنفوان الحاكم علي مدي الأعوام الأربعين الماضية وظل هذا الدستور خاضعاً لأهواء كل من السادات وحسني مبارك يغيران فيه ويبدلان كلعبة من طين في يد كل منهما.. مصر هذه صاحبة تاريخ عريق وعميق في المجال الدستوري والتشريعي يمتد إلي أكثر من قرنين من الزمان كما يذكر كتاب ضخم جليل أصدرته مكتبة جزيرة الورد ويقع في 864 صفحة من القطع الكبير بعنوان "قصة الدستور المصري.. معارك ووثائق ونصوص" لمحمد حماد. هذا المرجع المهم اعتبر تجربة مصر مع الدستور معركة ممتدة ومستمرة بين الشعب العظيم العريق المتحضر وبين الطغاة الذين حكموه واستذلوه وأهانوه. ابتداء من الحاكم التركي الوالي خورشيد باشا الذي ثار عليه الشعب وأنزله من القلعة عام 1805 وطرده وأجبر الخليفة العثماني علي تعيين محمد علي بدلاً منه.. وانتهاء بخلع الشعب للحاكم العميل الصهيوني حسني مبارك عام ..2011 مروراً بتصادمات هذا الشعب مع الإنجليز الذين ألغوا دستور 1882 بعد احتلالهم لمصر. والضغط الشعبي والوطني علي الملك فؤاد لإعادة دستور .1923 ذكر محمد حماد أن مصطلح "دستور" ليس عربياً. بل هو فارسي يعني "الدفتر" أو "السجل" ومنه ما هو عرفي كالدستور الإنجليزي والأكثر شهرة هو الدستور المكتوب والريادة فيه تعود إلي دولتين هما الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا.. الدستور بدأ في أمريكا عام 1781. وحمل اسم دستور "الدول المتعاهدة" وبعده صدر "الدستور الاتحادي" عام 1787. وهو المستمر حتي الآن. مع تعديلات كثيرة جرت عليه.. والتعديلات الدستورية تتم غالباً من خلال البرلمان أو السلطة التنفيذية. ثم يجري التصويت عليها مباشرة من الشعب. وربما تم تشكيل هيئة تأسيسية يصوت عليها الشعب لهذا الغرض. يستعرض الكتاب تجربة مصر مع الدستور. التي بدأت بإرهاصات لما سمي "السياستنامة" عام 1837. وسبقت هذه السياستنامة تجربة دستور أو "بروفة" عام ..1795 ثم وضع دستور متكامل عام 1882 أثناء الثورة العرابية. وألغاه الإنجليز بعد احتلالهم لمصر. حتي صدر في 19 أبريل 1923 دستور جديد. وعلي أساسه أقيم برلمان 1924. وهذا الدستور يمثل نموذجاً جيداً للدستور الراقي والمتطور. ويعد أشهر الدساتير المصرية. وقد أسفر عنه تشكيل برلمان جديد. وهذا هو الأمر المنطقي: أن يصدر الدستور أولاً. ثم تعقبه أية انتخابات برلمانية أو غيرها.. فتعرف كل سلطة من سلطات الدولة الحديثة: التنفيذية والتشريعية والقضائية حدودها وحقوقها وواجباتها. بدلاً من تنازع السلطان وتصارعها فتغرق الديمقراطية والدولة كلها في بحر المطامع والمصالح الخاصة. وفي عام1930 أنشئ دستور جديد وما لبث أن تم إلغاؤه ثم مارست القوة السياسية والوطنية ضغوطاً شديدة علي الملك فؤاد أجبرته علي إعادة دستور 1923 وظل معمولاً به حتي ثورة يوليو .1952 بعد ثورة يوليو مررنا بمرحلة شبيهة بما يحدث الآن فظهرت "بدعة" الإعلان الدستوري وكان أول إعلان في ديسمبر 1952 ورد فيه إسقاط دستور ..1923 وفي 13 يناير بدئ في تكوين لجنة لوضع مشروع دستور جديد.. وفي 15 يناير حددت الفترة الانتقالية بثلاث سنوات وفي 10 فبراير 1953 صدر إعلان دستوري ثان. ينص علي ضوابط الحكم في الفترة الانتقالية.. وفي 16 يناير 1956 كان الإعلان الدستوري الثالث وظل العمل به سارياً حتي 23 يونيو 1956 حين بدأ العمل بدستور 1956 حتي عام 1958 إثر قيام الوحدة بين مصر وسوريا وإنشاء دستور الوحدة الذي ظل سارياً حتي 25 مارس 1964 أي بعد انقضاء الوحدة بأكثر من ثلاث سنوات وصدر دستور مؤقت وتلاه الدستور الدائم 11 سبتمبر 1971 بقرار من مجلس الشعب.. وبدأ العبث بالدستور وإعادة تفصيل بعض مواده علي شخص الحاكم وطبقاً لأهوائه.. ففي سنة 2005 عدل الدستور وفي مارس 2007 عدل مرة أخري بعد أن حذفت كل الإشارات إلي النظام الاشتراكي وضعت المادة 179 التي تحصن أي قانون يصدر عن الإرهاب. ومن الطريف في زمن العبث بالدستور الذي تحول طوال الأعوام الأربعين الماضية إلي وثيقة توظف ضد الشعب. وتؤكد علي مصالح "لصوص المال العام" المحيطين بالحاكمين: السادات ومبارك. أن السادات قبيل وفاته طمع في الحكم. وأراد الاستقرار فالقي المادة التي تحدد فترة الرئاسة بمدة واحدة قابلة للتجديد مرة واحدة. فحذف جملة "مرة واحدة" وبعدها قتل. ليترك لنا أسوأ حاكم في تاريخ مصر وأقل الناس كفاءة لهذا الموقع. وجدارة به.. ورغم ذلك ربض علي قلب الوطن مدة تفوق حكم جمال عبدالناصر والسادات معاً!!