الذين عاشوا الحياة السياسية المصرية خلال نصف القرن الأخير سوف يجدون السنوات الأخيرة مفعمة بالحيوية والنشاط والحركة في اتجاهات متعددة, أغلبها علي السطح يمس السياسة وأوضاعها ونظمها. ولكنها عند العمق تموج بالتغيير والتبديل للحقائق الاقتصادية والاجتماعية المصرية. لم يعد هناك ذاك الركود المرتبط بالحزب التعبوي الواحد, ولا بات هناك ذلك الانتظار حتي يأتي تعيين الحكومة في واحدة من الوزارات أو الهيئات والشركات العامة, ولا بات هناك رمضان ينتظر فيه الناس الفزورة بعد الإفطار وصلاة المغرب, بل باتت الشكوي هي كثرة الاختيارات المتاحة, ولا أصبح لدي أحد رأي أو فكرة إلا ووجد لها مجالا للوصول بها إلي الرأي العام سواء من خلال الصحف التي لم تعد قومية فقط بل أصبحت حزبية ومستقلة وخاصة, وإذا لم يكن هناك مجال أو مساحة في كل ذلك فإن المواقع علي' النت' فيها ما يكفي وزيادة, ولو كان الإنسان حريصا وبارعا لفتح الله عليه بمدونة يصل بها إلي الرأي العام. ولم يحدث في تاريخ مصر الحديث أن أصبح ممكنا لشخص واحد معارض أن يحصل علي العديد من الساعات التليفزيونية المطولة لكي يطرح وجهات نظره الكاملة فيما يريد تغييره في الحياة المصرية. وعندما لم يعد لديه جديد يقدمه تراجع قليلا وبرز آخرون يطرحون ما لديهم من خطط قومية ووطنية علي الرأي العام; ولا بأس أحيانا من إعادة فحص ودراسة التاريخ المصري كله, حيث لا يستثني أحد ولا يستبعد أحد من القادة والزعماء. وبالنسبة لي فإنني لا أقف حيث توجد كثرة من المنزعجين مما يجري, والانزعاج بعضه قلق علي مصر, والآخر خوف من البلبلة والاختراق الأجنبي. وبصورة عامة فإن الحديث عن الانفلات والفوضي فيه خلط كبير مع تلك الحالة من الحيوية, والجدة, التي تجعل الخضة أحيانا لها ما يبررها بالنسبة لأجيال عاشت في حياة ساكنة لا تعرف حالة الفوران الطبيعية في أيام التغيير, ولا يجري في بالها كيف تتغير الحياة مع قدوم اقتصاد السوق وما فيه من سباق وتنافس وتغير في المقادير والأقدار, ولا يطرق عقلها تلك الحالة من الدهشة والتوتر الذي يصاحب تلك الثورة التكنولوجية التي تقلب حياتنا رأسا علي عقب. وببساطة شديدة فإن ما يجري في مصر هو ما يجري في كل البلاد الأخري التي سبقتنا علي طريق النضج والتنمية, وهو مثلها يجري بطريقة سلمية, وبرغم انتظار جمعي لثورة وفورة وانقلاب وتغيير مفاجئ فإن الحياة المصرية تسير في مسارها الذي يتواءم مع الأيام والعصور. وشهدت الشهور الماضية انشغالا مستمرا بالشخصيات المحتمل أن تدخل سباق انتخابات الرئاسة المقرر إجراؤها في الثلث الأخير من عام2011, بحيث برز شن حملات ووضع ملصقات وتجميع توقيعات لدعم هذا المرشح أو ذاك. كما ظهرت أيضا حملات مضادة لتأييد هذا ومعارضة الآخر, ونشطت الجمعية الوطنية للتغيير في المحافظات المختلفة, ورفعت شعار سنغير معا, وتركز اهتمامها علي تحقيق مطالب سبعة, بما يشير إلي أن هناك ما يمكن تسميته حرق مراحل أو القفز فوق المشهد السياسي القائم, لأن مصر مقبلة علي خطوة بالغة الأهمية وهي انتخابات مجلس الشعب لدور الانعقاد2010-2015 التي يفترض إيلاء الاهتمام المركزي بها في اللحظة الآنية. الحزب الوطني الديمقراطي من جانبه يسير بطريقته الخاصة خطوة خطوة, ومعركة بعد معركة, وهو من ناحية لديه برنامج محدد واضح التفاصيل لتغيير البلاد, ومن ثم فإن مهمته الأولي من خلال حكومته, وحركته السياسية هي التأكد من الانتهاء مما وعد به الرأي العام في الانتخابات الرئاسية السابقة. ومن ناحية أخري فإن الحزب لا يذهب بعيدا في الجدل السياسي وإنما يناضل من أجل التعامل مع الكثرة الهائلة من أعضائه الذين يريدون الترشح لعضوية مجلس الشعب والذين تراوحت التقديرات بشأنهم بين ثلاثة آلاف وأربعة عشر ألفا يريدون الأمر بشكل أو بآخر. ولكن الحزب يدرك أن عملية التدقيق بالنسبة له مصيرية, فرغم كل ما يقال عن التزوير من قبل المعارضة, والاعتراف بالتجاوزات من قبل الحزب الوطني, فإن الحقيقة تقول إن الحزب قد حصل علي38% فقط من عدد الأصوات في انتخابات عام2000, و32% في انتخابات عام2005 الأخيرة. هذا التراجع من الأمور الطبيعية عندما يكون الحزب في السلطة, وعندما يتم التخفيف من هذا التراجع بانضمام جبهة واسعة وعريضة من أعضاء المجلس التشريعي من المؤمنين بمبادئ الحزب فإن ذلك لا ينفي حاجة الحزب لتفعيل قاعدته الأساسية وهو ما يركز عليه الحزب حاليا. المسألة هكذا تلخص حال المشهد السياسي المصري الآن: المعارضة تريد تغييرا كليا وتقفز من الانتخابات البرلمانية إلي الانتخابات الرئاسية, وتعطي التغيير في النظام السياسي كله أولوية علي ما عداه من تغييرات. وفيما عدا المقترحات المقدمة للتغييرات في النظام الانتخابي وبعض مواد الدستور, فإن المعارضة لم تقدم فكرة واحدة للرأي العام حول أي من القضايا العامة الجوهرية المصرية, من أول الزيادة السكانية حتي التعليم والتنمية الاقتصادية والعمرانية إلي آخر ما يخص مسار الحياة اليومية للمواطنين. والحجة التي لا تكف المعارضة عن ترديدها هي أن كل أشكال القصور والأزمات سوف تنتهي ساعة وصولها إلي الحكم حيث يستقيم الطريق ويقوم ميزان العدل. مثل ذلك لا يوجد في بلاد أخري, فالغالبية الساحقة من مشكلاتنا تعود إلي أمور هيكلية, بعضها يعود للعلاقة بين الماضي والحاضر, والموارد والاحتياجات, وأسلوب التنمية في المجتمع ومدي تقبل الرأي العام لتغييرات جوهرية في الحياة كما جري في بلدان أخري وضعت خطوطا فاصلة بين الماضي والمستقبل. علي الجانب الآخر يمارس الحزب الوطني الديمقراطي السياسة علي طريقته حينما يضعها في أولوية منخفضة بالتأكيد عن المعارضة, وبرغم الأهمية القصوي للإعلام وما يملكه الحزب وحكومته من أدوات فإن عدد نجوم الحزب محدود علي الأقل مقارنة بالمعارضة, وعلي الأغلب فإنهم يلزمون موقفا دفاعيا, وعندما تتعقد القضايا كما هو متوقع فإنه لا يوجد من يعرف صياغتها بالطريقة التي تصل إلي الرأي العام. ولكن ما كان محدودا في المجال العام اختلف كثيرا داخل الحزب الذي أصبح أكثر تنظيما وقدرة علي جذب الشباب(65% من الحزب الآن) وتعبئتهم في اتجاه الحركة علي المستوي المحلي. وفي الوقت نفسه فإن التغيير الذي يجري في المجالات الاقتصادية والاجتماعية يتم علي قدم وساق بقدر ما يعتقد الحزب بقدرة الشعب علي تحمله. والواقع أن تراكم الخطوات خلق أوضاعا جديدة تماما للأرض التي صار التنافس عليها سباقا لم يكن متصورا منذ سنوات قليلة, والمرأة التي حققت اختراقات في مجالات القضاء وعضوية البرلمان والوظائف العامة لم يكن متصورا منذ فترة ليست بعيدة, والمواطنة باتت واحدة من الأخلاقيات العامة حتي لو كانت جماعة لا تعتقد فيها كثيرا, وبرغم استمرار الكثير من التقاليد الاشتراكية فإن تقاليد المبادرة الفردية والتنافس في السوق حفرت لنفسها طريقا موازيا خاصة لدي الأجيال الجديدة التي دخل19 مليونا منها إلي شبكات النت حتي وضعت العالم بين أصابعها. ويا للمعجزة, فإن الشعب المصري قد بات أخيرا من الشعوب التي تدفع الضرائب من الدخل إلي المبيعات إلي العقار, وعندما يحدث ذلك فإن أولي خطوات المواطنة تصبح حقيقة واقعة لأن العقد السياسي القائم علي مواطن لا يدفع شيئا مقابل وصاية الدولة عليه قد وصل إلي نهايته, وأصبح الموظف العام أجيرا عند جماعة المواطنين حيث يحصل علي مرتبه من عائد ضرائبهم. التغييرات الجارية بعد ذلك كثيرة, وبعضها لقي رفضا من أقلية واستحسانا من أغلبية, أو ربما جري العكس في أمور بعينها, كان فيها علي الدولة أن تقود, ولكن الواقع هو أن التغيير قد جري, وربما لا تظهر آثاره كلها في اللحظة, نفسها ولا يتم إدراك مفاعل التغيير التراكمي, ولكن ذلك وظيفة الزمن وقدرته علي تفعيل ذلك كله وهو ما يراهن عليه الحزب الوطني الديمقراطي ويريد استكماله خلال السنوات القادمة. ومن هنا تأتي أهمية المعركة البرلمانية المقبلة لأنها هي المجال الذي من خلاله تستطيع المعارضة تحقيق أهدافها السياسية المشروعة بما فيها تلك الأهداف الدستورية المشروعة أيضا التي تمتد المطالبات بها من القوي السياسية المعارضة إلي داخل الحزب الوطني نفسه. الفارق هنا هو أن السياسة في الدول الناضجة لا تتغير إلا من خلال المؤسسات, بل إن المؤسسات نفسها لا تتغير إلا من خلال إجراءات وتشريعات تقوم بهذه المهمة, وما عدا ذلك ينتمي إلي طريقة أخري في التفكير الثوري الذي يقلب الأمور رأسا علي عقب تهز المجتمع وتكلفه آلاما وعنتا شديدا لا يمكن تكراره مرات متعددة. وقد أخذت مصر نصيبها من الثورة وآن الأوان لكي تترسخ مسيرة المؤسسية والشرعية حتي لو كانت أكثر بطئا, وأقل استجابة لمطالبات المصلحين. وللحق فإن مصر تمتلك خبرة تاريخية عميقة في الممارسة البرلمانية, يبلغ عمرها أكثر من135 عاما, وتعاقبت علي البلاد أكثر من32 هيئة نيابية تراوح عدد أعضائها ما بين75 عضوا و454 عضوا, وذلك منذ عام1866 حينما أنشأ الخديو إسماعيل مجلس شوري النواب الذي استمر في أداء مهامه حتي مارس1882. وفي مايو1883 حينما كانت مصر خاضعة للاحتلال البريطاني أنشأ الخديو توفيق مجلس شوري القوانين والجمعية العمومية. وفي عام1913, تم إنشاء الجمعية التشريعية التي واصلت عملها النيابي حتي يونيو1914, عندما تجمدت الحياة النيابية بسبب نشوب الحرب العالمية الأولي, ثم صدر أمر بحلها في أبريل1923. ومع تبلور دستور1923, تألف البرلمان من مجلسين هما مجلس النواب ومجلس الشيوخ, وتتالت المجالس النيابية بمرور الوقت, وتعرضت غالبيتها للحل بمرسوم ملكي قبل انتهاء مدتها القانونية, وكان آخر حل حدث في أعقاب حريق القاهرة في يناير1952, وظلت مصر دون برلمان حتي قيام ثورة يوليو من العام نفسه. وفي فبراير1953, تم الإعلان عن مرحلة انتقالية مدتها ثلاث سنوات يتم خلالها ممارسة السلطة التشريعية من خلال مجلس قيادة الثورة, وساد هذا الوضع حتي صدور دستور1956. وعلي أساسه, تم انتخاب أول مجلس نيابي بعد الثورة وسمي مجلس الأمة الذي بدأ عمله في يوليو1957 واستمر حتي مارس1958. ومع حدوث وحدة اندماجية بين مصر وسوريا خلال الفترة(1958-1961), صدر الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة, وتم تشكيل مجلس الأمة للدولة الجديدة بقرار من رئيس الجمهورية علي أن يكون نصف أعضائه علي الأقل من بين أعضاء مجلس الأمة المصري ومجلس النواب السوري. وبعد الانفصال السوري في سبتمبر1961, عاشت مصر دون برلمان حتي مارس1964, حينما صدر دستور مؤقت قام في ظله مجلس الأمة, وظل هذا الوضع قائما حتي صدور الدستور الدائم لمصر في عام1971. ووفقا لدستور1971, يتمثل الاختصاص التشريعي بصفة أساسية في مجلس الشعب, الذي صار يتألف من أربعمائة وأربعة وأربعين عضوا يختارون بطريق الانتخاب المباشر في222 دائرة انتخابية, وينتخب عن كل منها عضوان أحدهما علي الأقل من العمال والفلاحين, بالإضافة إلي العشرة أعضاء الذين يعينهم رئيس الجمهورية. وتشير نصوص الدستور الحالي في المادة86 إلي أنه يتولي مجلس الشعب سلطة التشريع ويقرر السياسة العامة للدولة والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والموازنة العامة للدولة, كما يمارس الرقابة علي أعمال السلطة التنفيذية, وذلك كله علي الوجه المبين في الدستور. وعلي هذا الدستور جرت ثلاث مرات من التعديل كان أولها ما جري عام1980 الذي أطلق عدد مرات انتخاب رئيس الجمهورية, وجعل مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع, أما الصحافة فصارت سلطة رابعة. وثانيها جاء في عام2005 حينما تم تغيير المادة76 من الدستور التي جعلت انتخاب رئيس الجمهورية تنافسيا ومن الشعب مباشرة; أما ثالثها فجاء في عام2007 حينما تم تعديل34 مادة من الدستور نصت صراحة علي المواطنة كأساس للمجتمع السياسي, وأعطت النظام السياسي مرونة أكبر في التعامل مع الأوضاع الاقتصادية دون تقييد اشتراكي من نوع أو آخر. وفي الظن أن انتخابات مجلس الشعب لعام2010 يمكنها أن تكون واحدة من العلامات الفارقة في تاريخ الحياة البرلمانية المصرية, حيث إن مجلس الشعب الجديد سوف يعمل في إطار مهام سياسية تتعلق باحتمالات تحديد المرشحين لرئاسة الجمهورية, ومناقشة مشروعات قوانين تتعلق بالإصلاح السياسي والتطور الاقتصادي, وقوانين أخري تتصل بعلاقات قوي المجتمع. فالأعضاء الجدد في البرلمان الذين يفترض أنهم انتخبوا بفعل قدرتهم علي تحقيق المصالح المباشرة لأبناء دوائرهم سوف يجدون أنفسهم مهتمين ومهمومين بمهام وطنية عامة. ولكن الملاحظ علي هذه الانتخابات أنها تقع في إطار التناقض نفسه الذي شاب جميع الانتخابات البرلمانية السابقة. فمن ناحية فإن الشكوي عالية من ضعف وتهافت ضمانات النزاهة في العملية الانتخابية; ويقابلها من جانب آخر إقبال مذهل, وتنافس أحيانا مخيف, علي الترشيح لنيل المقعد النيابي. وفي عام1976 عندما جرت أول انتخابات تعددية بعد ثورة يوليو تسابق1660 مرشحا علي350 مقعدا نيابيا بمعدل تنافسي قدره4.74 لكل مقعد; وظل هذا المعدل في الارتفاع في كل الانتخابات التالية حتي وصل في انتخابات عام2000 إلي3957 مرشحا يتسابقون علي444 مقعدا بمعدل تنافسي قدره8.91; وفي انتخابات عام2005 قفز المعدل مرة أخري حينما بلغ عدد المرشحين5177 مرشحا بمعدل تنافسي قدره11.65. كيف نفسر هذا القدر من التناقض ما بين النقد الحاد لإجراءات العملية الانتخابية, والتنافسية الأكثر حدة من أجل الحصول علي المقعد النيابي, والسلبية غير العادية للمواطنين والممتدة طوال التاريخ المصري المعاصر باستثناء عدد محدود من الانتخابات؟ المسألة بالتأكيد تحتاج إلي الكثير من الاجتهادات التي أكثرها ذيوعا ما يجري في الانتخابات من تجاوزات; ولكن ما يجري إهماله في الاجتهاد دائما هو الثقافة السياسية, وعجز القوي السياسية المختلفة عن طرح أمور تهم الشعب المصري بالفعل وحاجاته الأساسية. إن الضمانة الأساسية لنزاهة الانتخابات هي المشاركة الواسعة من الشعب المصري, حيث يستحيل ساعتها تقرير نتيجة التصويت بعيدا عن الحالة الجماهيرية; وفي الانتخابات الأخيرة جرت تحسينات ملحوظة مثل الصندوق الزجاجي, والحبر الانتخابي الذي نتمني أن يكون من الأنواع الجيدة التي لا تزول بسرعة هذه المرة, بالإضافة إلي رقابة القضاء والمجتمع المدني. ومادامت المراقبة الأجنبية للانتخابات من الأمور المرفوضة من قوي سياسية كثيرة داخل وخارج الحزب الوطني الديمقراطي; فإن الإضافة هذا العام لكل ما سبق سوف تأتي من الإعلام المحلي والدولي الذي لم يحدث أن كان في مصر علي الصورة التي هو عليها الآن. المسألة الآن هي أنه آن الأوان لكي ننزل إلي الأرض مرة أخري, ونبدأ من حيث انتهينا لكي ننطلق إلي الأمام, والمهم أن يكون لدينا دائما قوة الدفع والعزيمة والفكر الذي يجعل هذه الانطلاقة ممكنة وآمنة.