في ظل نزعة جعل التربية الدينية نقيضا للتربية الوطنية تبرز أهمية الإجابة عن أسئلة مركبة ومترابطة: كيف تطورت حقائق ومفاهيم الوطن والوطنية والمواطنة في مصر؟ وهل ثمة أمة مصرية متميزة; أي ليست مجرد جزء من أمة عربية أو إسلامية؟ وما هي سمات الشخصية الوطنية المصرية؟ وهل تملك الأمة المصرية جدارة إعلاء قيم التقدم الشامل وفي مقدمتها الحرية والعدل والتسامح؟ ويقدم طاهر عبد الحكيم اجتهادات مهمة تسهم في الإجابة عن هذه الأسئلة في كتابه: الشخصية الوطنية المصرية.. قراءة جديدة لتاريخ مصر. وفي دحض فرية أن المصريين مجرد جزء من أمة عربية أو إسلامية, نقرأ في الكتاب المذكور أنه إذا كانت أوروبا لم تعرف قد اضطرت الدولة القومية المركزية حتي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر, حين قضت الرأسمالية الناشئة علي التجزئة الإقطاعية, فإن القضاء علي التجزئة الإقليمية كان مهمة أنجزتها الدولة المركزية في مصر منذ آلاف السنين. وكان المصريون أمة في ذاتها عبر العصور, لها لغة مشتركة تغيرت لهم جميعا حين تغيرت, وكانت لهم ثقافتهم المشتركة وطابعهم القومي المشترك, اللذان أعطيا تكوينهم النفسي والذهني سمات مشتركة, في ظل وحدة قومية اقتصادية واجتماعية راسخة. وكان الشعور المشترك بالأخطار الخارجية منذ فجر التاريخ قوة لاحمة بلورت شعور المصريين بالذات وطنيا. ومنذ تكونت الدولة المركزية الفرعونية كان عشرات الآلاف من الفلاحين المصريين يتعرفون من بعضهم البعض علي النواحي المختلفة من الوطن الذي يجمعهم; حين كانوا يحشدون من مختلف أنحاء البلاد في مشاريع السيطرة علي النهر وتنظيم الري, أو بناء المعابد والقصور والأهرامات, أو في جيوش للدفاع عن البلاد. وكانت هناك حياة قومية شارك فيها عامة الشعب وطابع وطني عام تمثل في وحدة أساليب الزراعة ومواسمها وبعض الحرف, والديانة والطقوس والمراسيم والعادات والملبس والمسكن. وقد عبرت الشخصية الوطنية المصرية عن نفسها في صورة نضال من أجل علاقات اجتماعية وسياسية أكثر عدلا كما في الهبات الفلاحية التي بدأت في الأسرة السادسة, وفي شكل نضال للحفاظ علي الكيان القومي في مواجهة سلطة أجنبية وثقافات أجنبية كما في الثورة المسيحية ضد الحكم الروماني ومحاولات الانقضاض علي الدولة المركزية لوضع حد لنهبها للفلاحين. وحينما نمت العناصر الرأسمالية في مصر أصبح النضال السياسي القومي يستهدف إقرار الحكم النيابي الدستوري. وفي دحض فرية خنوع الشخصية الوطنية المصرية للسلطة الغاشمة, يبرز عبد الحكيم رأي عباس محمود العقاد بأن موقف الإنسان المصري من السلطة يقوم دائما علي أساس من الشك والريبة وليس علي أساس من التقديس والخوف, وأن الفلاح كان دائما متحفزا للتغيير. غير أن الفلاح في ثورته يريد أن يري الصفوف حوله ولا يحب أن يخاطر وحده; وانطلاقا من هذا كانت جماعية العقل المصري, وليس الخضوع والميل للاستسلام, سبب فترات الاستقرار الطويلة نسبيا التي نلحظها في التاريخ المصري, رغم العسف والاضطهاد. وبالمثل فإن عمق الثورة, حينما تقوم, واتساعها وشمولها, يمكن رده إلي السبب نفسه, أي إلي جماعية العقل المصري التي هي النتاج الطبيعي لنمط الحياة المصرية عبر التاريخ, حيث لم يكن المصري ليستطيع أبدا أن يعيش حياة فردية. وفي دحض فرية خضوع الشخصية الوطنية المصرية للاستعمار والحكم الأجنبي, يشير عبد الحكيم الي أن حرب أحمس ضد الهكسوس كانت ثورة تحرر وطني رائدة, وكذلك كانت حرب بساماتيك لتحرير مصر من الآشوريين, وثورات التحرير بقيادة أمراء طيبة طوال حكم البطالمة الإغريقيين لمصر. وبينما كانت المسيحية المصرية ثورة وطنية دائمة ضد حكم الرمانيين والبيزنطيين كادت إحداها تقضي علي حكم الرومانيين, شهدت فترة الولاة الأمويين ثورات فلاحية شاملة كادت تقضي إحداها علي جيش عبد الملك بن مروان, وتعددت ثورات الفلاحين تحت حكم العباسيين واضطر الخليفة المأمون للقدوم بنفسه إلي مصر للإشراف علي إخماد واحدة من أخطر تلك الثورات, كما كانت للمصريين ثورات ضد الفاطميين حينما تكشف أن دولتهم ليست بأفضل من دولة الإخشيديين الذين استعان المصريون بالفاطميين عليهم, وهددت الدولة الأيوبية أكثر من ثورة. وفي دحض فرية خنوع الشخصية الوطنية المصرية للظلم الاجتماعي ينقل عبد الحكيم عن برستد وإرمان النصوص المنسوبة الي الملوك الفراعنة وإلي كبار موظفيهم, والتي تفيد بأنهم كانوا حريصين علي إقامة العدل ونصرة الضعيف ومعاقبة الظالم والمعتدي علي حقوق غيره ومقاومة الفساد وخاصة بين موظفي الدولة. ونقرأ في خطاب أشبه بخطاب العرش كان كل ملك من ملوك الدولة الحديثة يوجهه إلي كل وزير أعظم- أي رئيس الوزراء- يتولي الإدارة, تحذير الفرعون له من أن يستغل منصبه ليتخذ له عبيدا من الشعب, ويأمره بأن يطمئن إلي أن كل شيء يجري وفق القانون, وأن يعطي كل ذي حق حقه, وأن يحكم بالعدل وألا يتواني في إقامة العدل, وأن يعامل من يعرفه معاملة من لا يعرفه. وبقراءة الأدبيات الشعبية المقابلة, يستطيع المرء أن يستنتج أن الأدبيات الملكية لم تكن سوي بيانات رسمية تهدف إلي استرضاء ضمير قومي عام كان قد تشكل لدي الشعب, ووعي اجتماعي قد نضج بحقوق الشعب علي حكامه وبواجبات هؤلاء الحكام إزاء الشعب. وفي دحض فرية خلط الشخصية الوطنية المصرية بين الدين والسياسة, يشير عبد الحكيم الي أن عباس محمود العقاد كان من أوائل المفكرين المصريين الذي عالجوا موقف الإنسان المصري من الدين معالجة عقلانية وعلمية, معتبرا أن الذهن المصري ذهن عملي واقعي مع استمرار تدينه وإيمانه, وكان هذا سبب خلو العقيدة الدينية عند المصري من التعصب, وخلو تاريخ مصر الديني من المذابح الطائفية. ثم يستعرض عبدالحكيم دور القيادة الدينية في الحركة الوطنية المصرية الحديثة, أو حلقات إنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية; بدءا بالثورة العرابية ومرورا بالنضال الوطني بقيادة مصطفي كامل ومحمد فريد, ثم ثورة1919, وانتفاضات1935 و1946 و1950, ثم ثورة يوليو.1952 وفي مجري النضال الوطني الديمقراطي اعتبر المصري موقفه الديني علاقة خاصة وفردية بينه وبين الله, ورفض مزاعم الوساطة في هذه العلاقة, وفقدت القيادة الدينية موقعها كقيادة سياسية. وقد التف المصريون بقوة حول القيادة العلمانية للثورة العرابية, التي نص أول برامجها في بيان الحزب الوطني الأول علي أن هذا الحزب حزب سياسي غير ديني, كما التف المصريون حول حزب الوفد وقيادته العلمانية, وعجز تحالف السراي الملكي مع القيادة الدينية التقليدية( مشايخ الأزهر) والقيادة الدينية السياسية السلفية الجديدة( الإخوان المسلمين) عن النيل من شعبية حزب الوفد وبخاصة بين الفلاحين, وتقديم نفسه كبديل منافس للوفد في قيادة الأمة. ولم تهتز شعبية جمال عبد الناصر لدي الغالبية العظمي من الشعب رغم العنف الذي تعامل به مع الإخوان المسلمين وتحويله الأزهر من جامعة دينية إلي جامعة حديثة, وإلغائه للمحاكم الشرعية وتحويله قضايا الأحوال الشخصية إلي القضاء المدني. وللحديث بقية. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم