في إعادة قراءة تاريخ مصر والمصريين, وبعد دحض النظريات الخائبة والمتهافتة والمغرضة بأن مصر أطول المستعمرات عمرا, وأن المصريين شعب غير محارب. وأن المصريين ينقادون لحكامهم وإن كانوا ظالمين, يأتي الدور علي نظرية أخري لا تقل بهتانا تدعي عبودية وخنوع الفلاحين المصريين, أي غالبية المصريين الساحقة, منذ فجر التاريخ! حيث يتكرر اللغو حول خنوع أو خضوع المصري, ليس فقط من جانب مؤرخين أجانب بسوء فهم أو بسوء قصد, بل ولم ينج من ترديد النغمة ذاتها مؤرخون وطنيون رصدوا المظهر ولم يدركوا الجوهر. ويبرز جمال حمدان ما تردد من مزاعم: فالشعب المصري, كما يزعمون, لا يستثيره إلا أكل العيش, بينما يتحاشي أن يتصدي للحاكم في أخطر أمور مصيره, مستشهدين بما يقوله المثل المصري:' إذا وجدتهم يعبدون العجل, حش برسيما وأعطه'؟ وهنا يستدعي جمال حمدان ما قاله العقاد من أن هذه أمة لا يعينها صلاح الحاكم كما يعنيها صلاح الأرض والسماء والعوارض والأجواء, أما إذا ظهر لها الجور علي أرزاقها ومرافقها, فهناك يستعصي قيادها كأشد ما يستعصي قيادة أمة! ثم يورد من خطب جمال الدين الأفغاني:' إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد, وربيتم في حجر الاستبداد, وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتي اليوم وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين, تسومكم حكوماتكم الحيف والحور وتنزل بكم الخسف والذل وأنتم صابرون بل راضون'! ويبرز ما كتبه عبد الرحمن الكواكبي في مؤلفه' طبائع الاستبداد ومصائر الاستعباد' مؤكدا أن' داء الشرق هو الاستبداد. والاستبداد هو أن تتصرف الحكومة في شئون الرعية كما تشاء بلا رقيب أو حسيب. وإذن فمبعث الاستبداد هو غفلة الأمة. فالأمة التي لا تقيم من نفسها رقيبا علي الحكام, تحاسبهم عن كل صغيرة وكبيرة أشد حساب, سيستبد بها حتما وكلاؤها, إذ أن الاستبداد أمر طبيعي في السلطان, وما من حكومة عادلة تأمن المسئولية والمآخذة بسبب غفلة الأمة أو إغفالها إلا وتسارع إلي التلبس بصفة الاستبداد, وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه'. ثم يتصدي جمال حمدان لدحض نظرية خنوع المصريين ورضاهم بالظلم والقهر, بدءا من عصور مصر الفرعونية: حيث خاض المصريون غمار أول ثورة إجتماعية في عهد الدولة القديمة, وقاوم المصريون الطغيان بروح التحدي والحق كما سجلت خطب' الفلاح الفصيح' المأثورة في عهد الدولة الوسطي, وقام المصريون بأول إضراب عمالي في التاريخ حين أضرب عمال' جبانة' طيبة الملكية بسبب الجوع والفساد في عهد الدولة الحديثة. ويسجل أنه في العصر الحديث تنبه الوعي الاجتماعي وبدأ الحس الثوري بين جماهير الشعب, ونقل الطهطاوي مثل الثورة الفرنسية في الحرية والليبرالية والجمهورية والديموقراطية, وحمل الأفغاني ثم الكواكبي علي الاستبداد والطغيان وحملا لواء الدعوة إلي الثورة علي الظلم الاجتماعي والطبقي والحاكمي. وأما علي مستوي العمل الثوري, فمن ثورة مسلحة وطنية طبقية كادت تصل إلي فكرة الجمهورية وأوشكت أن تنجح لولا الاحتلال الاستعماري1882, إلي ثورة شعبية تاريخية عارمة1919, إلي1952 آخر' الثورات' تاريخا ويراها جمال حمدان أولها نجاحا إلي حد أو آخر. وجاءت في الخمسينيات انتفاضات الفلاحين الدموية ضد الإقطاع الزراعي الذي قمعها بوحشية في بهوت( غربية) والغراقة والسرو( دقهلية) وكفور نجم( شرقية) في معاقل الإقطاع والملكيات الضخمة في شمال الدلتا, وكانت إرهاصا ونذيرا بالثورة الشعبية الكاسحة لولا أن سبقت ثورة يوليو فقطعت عليها الطريق. وينبري حسين فوزي في سندباد مصري للخرافة التي أطلقها هيرودوتس, وتصور المصريين عبيدا للفرعون, موضحا كيف قضي عليها المؤرخون المحدثون. فأهرام مصر القديمة وآثارها وما تدل عليه من براعة في التصميم, ودقة في التنفيذ, وما تحتويه من فن رفيع, لا يمكن تصور تحقيقها علي شعب من الأذلاء, لأن جو الاستعباد الخانق يقضي علي الملكات, ويعرقل تفتح العبقريات. تأمل- كما كتب السندباد- حياة الشعب المصري علي جدران الآثار المصرية القديمة تحس بحب الحياة, حياة شعب مطمئن هانئ, لا شعب يعيش كما صوره هيرودوتس في زمان رأي الشعب ذليلا مستعبدا تحت أقسي حكم عاناه في تاريخه القديم وهو حكم الفرس. وإمحوتب العظيم, الذي ألهه المصريون في الدولة الحديثة وهو من رجال الدولة القديمة- لم يكن ملكا ولا أميرا, وإنما كان من آحاد الشعب المصري, ارتفع بنبوغه, وساد بعبقريته في الخلق والتصميم والتنفيذ. ثم يوضح حسين فوزي كيف تحولت الملكية المستبدة إلي دولة القانون, حيث كان سلطان الملك في الدولة القديمة عقيدة منزلة من السماء, نفذها الفراعنة في دقة وصرامة, ورضي بها المحكومون دون تردد. ولكن هذه العقيدة تتحول تحت حكم الأسرة الثانية عشرة في الدولة الوسطي إلي مبدأ ومذهب في الحكم, أي إلي تعاليم تحاول أن تكون إنسانية, تقوم علي حكم العقل والقانون. ولم يكن القانون مجرد قانون تعاقدي, يطبق في العلاقات السياسية والتجارية, حيث سنت بابل في هذا تشريعا أكثر أصالة من التشريع المصري, وإنما هو قانون اجتماعي, ينشئ العلاقات بين الشعب والملك علي أساس من العدالة, فلا يحسب الملك أنه مضعف من سلطانه إذا أشرك الشعب في الإدارة! ويظل الفرعون مالكا للأرض وما عليها, ولكن بشرط أن يكون للجميع هدف واحد, هو' خير المجتمع'! فالملك يؤدي خدماته في الدولة, كما أن الشعب, خاصته وعامته, يعمل من أجل المجموع في الأرض وفي الحرف وفي وظائف الدولة. ويتصدي غابرييل باير للصفات السلبية التي ألصقت بالفلاح المصري رافضا إياها, وذلك في كتابه دراسات في التاريخ الاجتماعي لمصر الحديثة, الصادر عن جامعة شيكاجو. ولا يري باير, من الناحية النظرية, أن هناك دليلا علي صحة الزعم بأن سمة ما لشعب بأسره أو لطبقة بأسرها يمكن أن تنتقل بالوراثة من جيل لآخر. وتبرز الحجة القائلة بأن ظروف مصر الطبيعية بانبساط رقعتها وسهولة المواصلات فيها, واعتماد الفلاح علي الحكومة المركزية, تجعل من الصعب عليه أن يثور. فيرد عليها غابرييل باير بقوله: إن عددا صغيرا من الثورات كفيل بالتدليل علي أن التكوين النفسي للفلاح المصري لا يمنعه من الثورة, ويخلص باير إلي أنه, نظرا لأن عدد الثورات التي قام بها الفلاحون المصريون غير قليل علي الإطلاق, فلا لا أساس من الصحة للنظرية القائلة بأن' الخنوع هو سمة الفلاح المصري'. ثم يقدم باير سردا لأهم الثورات وحركات التمرد التي قام بها الفلاحون المصريون فيما بين عامي1778 و1951 للتدليل علي عدم صحة هذه النظرية. وللحديث بقية.