هل كانت مصر أطول المستعمرات عمرا, أم أكثر الأوطان استقلالا؟ أو بكلمات أخري ما هي الحقيقة حول استقلال واستعمار مصر؟ الإجابة علي هذا السؤال الجوهري. نجدها لدي حسين فوزي في مؤلفه الرائد سندباد مصري, ولدي جمال حمدان في مؤلفه الموسوعي شخصية مصر. ولنبدأ من الآخر, من حيث ما خلص اليه كل من السندباد ثم الباحث: يحق للمصريين الفخر بأنهم أبناء أمة ألفية, أطول الأمم تاريخا, عاشت أكثر من ثلثي تاريخها مستقلة, أو علي وجه الدقة عاشت مستقلة ما يعادل سبعين في المائة من تاريخها! ولنفصل ما بدأنا به, حيث يتوقف السندباد حسين فوزي, بعد أن جال وصال في رحاب تاريخ مصر, ليقول: أرجو أن يكون الوقت قد حان لنجري حساب سنوات الاستقلال المصري بالنسبة لسنوات الاستعباد! ثم يستدرك قبل الحساب ليعلن أنه يجب الاتفاق علي أن مصر لا تفقد استقلالها حين تقوم علي حكمها أسرة أجنبية, وإنما تفقد مصر استقلالها عندما تنزل إلي مرتبة الولاية والإيالة والإقليم, ويحكمها ملوك أو أباطرة أو خلفاء أو سلاطين, يعيشون في عواصم خارج مصر. ويري السندباد أن يسقط من حساب سنوات الاستقلال حكم الهكسوس, الذين حكموا الدلتا وامتد نفوذهم الي شمال مصر الوسطي, رغم أن حكم الصعيد قد استمر بأيدي أسر وطنية مصرية امتد نفوذها الي جنوب مصر الوسطي. ويبدأ السندباد حسابه من عام3200 قبل الميلاد, حين يتوحد الوجهان البحري والقبلي وتتكون الدولة المصرية( بحدودها الراهنة من رفح الي حلفا), وحتي ضم مصر إلي الأملاك الرومانية في عام30 قبل الميلاد, فيكون قد انقضي علي مصر نحو2800 عام كانت فيها دولة مستقلة. ومن الدولة الطولونية حتي الغزو العثماني عاشت مصر دولة مستقلة نحو600 سنة, ثم صارت مصر تابعة للدولة العثمانية. ويخلص الي ما يستحق الفخر بأن الأمة المصرية: أمة تحيا خمسة آلاف عام, تستقل فيها3500 سنة, أي ما يعادل سبعين في المائة من تاريخها, أمة ألفية, أطول الأمم تاريخا, تعيش في أكثر من ثلثي تاريخها مستقلة, تنتقل بين الحضارات: من حضارة مصرية صميمة, إلي حضارة مصرية يونانية, ومصرية بيزنطية, ومصرية إسلامية. ومشيرا الي الانقلاب الخطير الذي تحولت به مصر من إمبراطورية عظمي إلي مستعمرة أو شبه مستعمرة, يسلم جمال حمدان بأن مصر قد تجمدت وتخلفت إلي حد أو أخر لمدة طويلة منذ الفراعنة وحتي محمد علي, بعد قرون وقرون من المجد والتألق والقوة والحضارة! وإنه حتي بمقياس الشرق العربي كانت مصر متراجعة متنحية نسبيا, وتخلفت عن الصدارة في الأعم الأغلب! ولا شك أن السبب هو أن الغزوات قد بدأت تتدفق بعنف وإلحاح بعد الفراعنة, مما اضطر مصر لأن تتفرغ للصراع من أجل البقاء, بأكثر مما كافحت من أجل التقدم, وإلي إنفاق أغلب طاقتها للاستمرار أكثر منها للاستقرار! ولقد أعطي هذا للبعض مادة لنقد شخصية مصر الاستراتيجية, وقد يتطرفون إلي حد اعتبار عصر المستعمرة أكبر' نقطة سوداء' في تاريخ مصر! ويتصدي جمال حمدان لنظرية أطول مستعمرة, فيقول إنه ما من بلد لم يتعرض أو يخضع للغزو والاحتلال طويلا أو قليلا في تاريخه. وقد عاشت في مصر دولة مستقلة أو إمبراطورية نحو من2400 سنة( ابتداء من3400 إلي1000 ق. م تقريبا), ثم تلت700 سنة منصفة تقريبا بين الاستقلال والاحتلال(1000 332 ق. م) أعقبتها نحو1000 سنة أخري من الاستعمار الكامل(332 ق.م 640م). وتلك2700 سنة من الاستقلال مقابل1300 من التبعية. بل إننا إذا أضفنا- كما فعل علماء المصريات الباحثون في تاريخ ما قبل توحيد مصر, فان عصر الاستقلال يمتد إلي4000 سنة كاملة لم تخضع مصر فيها لغاز أجنبي! وكانت دولة مصر مستقلة تماما في ذاتها, بل وذات إمبراطورية وقوة حربية, علي الأقل طوال الفترة من الفاطمية حتي المملوكية, أي نحو6 قرون(969 1517 م), قل نحو نصف العصر الإسلامي! ويخلص باحثنا الي أن حسابه لا يختلف كثيرا عن حساب حسين فوزي بأن عصر الاستقلال يمثل70% من تاريخها, مؤكدا وبحق أن ذاك أو هذا ليس بالشئ القليل! وتزيد دلالة هذه الحقيقة كما يلاحظ جمال حمدان إذا نحن نظرنا إلي طبيعة موقع مصر مقارنا ببلد متطوح وجزيرة منفصلة كبريطانيا, نصف تاريخها المعروف علي الأقل وعلي قصره قد خضع للغزو والحكم الأجنبي! وكل تاريخ بريطانيا حتي العصور الحديثة مستعمرة, فلقد استعمرت علي التتابع وبلا انقطاع, وحتي وقت قريب جدا في القرن الماضي كان ملوكها, المستوردون' من القارة, لا يعرفون الإنجليزية. وبالمثل, ما أكثر في أوروبا الحالات التي كان الملوك والحكام يستوردون من بلاد أو دول أخري, إما بالوراثة أو الغزو أو المصاهرة أو المعاهدة.. الخ. وهناك بلاد كثيرة عرفت الاستعمار والسيطرة الأجنبية طوال عمرها تقريبا, دون أن تعرف بالمقابل لمحة واحدة من عالم إمبراطوريات مصر العظمي, ومنها الهند, مثلا. ويقولFairgrieve في موجز تاريخ إفريقية معبرا عن دهشته من ضخامة الإنجاز المصري في تواريخ كل الدول في العالم.. ما من واحدة استمرت لنصف الوقت وهي متحررة من الغزو. ويضيف صاحب شخصية مصر قائلا: هكذا, تسقط نظرية أطول مستعمرة, أو علي الأقل تتعدل جوهريا لأن طول عصر التبعية في تاريخ مصر يجب الا أن يعزل عن طول تاريخ مصر.. أطول تاريخ معروف علي الأرض تقريبا, وإذا كان البعض قد عد نحوا من أربعين أمة سيطرت عليها, فإن هناك إن صح الرقم من يعد هذا قليلا بالنسبة لطول تاريخها السحيق, وبالقياس إلي سائر بلاد الدنيا! وكثيرا من تلك الأمم نفسها التي حكمت مصر قد خضعت طويلا ومرارا لمصر, كما أن ثورات التحرير الوطنية والشعبية لم تنقطع طوال تلك الفترات ابتداء من الإثيوبيين والفرس وحتي المماليك والترك. بل إن مصر هي التي انفردت بالزعامة الإقليمية في المنطقة لأطول مدي معروف أو ممكن: معظم العصور القديمة ونصف العصور الوسطي تقريبا! وإذا كانت رؤية مؤلف السندباد المصري تتفق مع رؤية مؤلف شخصية مصر بشأن نظرية أطول مستعمرة عمرا, فانهما يختلفان مع فروعها المتشعبة: النضج المبكر والشيخوخة المبكرة! المقاومة السلبية والشعب غير المحارب! وإذا كان السندباد في جولاته التاريخية يري أن مقاومة المصريين للحملة الفرنسية كانت ظاهرة فذة في تاريخ مصر, لم تعرفها منذ ألفي عام إلا نادرا, ألا وهي خروج الشعب المصري إلي الحرب والثورة, فان دارس شخصية مصر يسجل أن الشعب المصري لم يستكن ولا استسلم أبدا في مواجهة الاستعمار, لا.. ولا انقطعت مقاومته الإيجابية قبل السلبية! وتبقي هذه المناظرة موضوعا يستحق تناولا لاحقا!