سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
قصة الجهاز السري لثورة 19.. أسسه «زغلول» وترأسه «فهمي» ولعب دورا مهما في نضال المصريين ضد الإنجليز.. حافظ على الثورة ومنع فشلها بعد حبس «سعد».. ومأمور قسم شرطة بأسيوط فتح مخازن السلاح للأهالي
تظل الكواليس السرية للثورات غائبة عن الوعي العام، فصولا لم يشأ التأريخ الرسمي للدول، وخاصة في المنطقة العربية التعرض لها، ربما لأن إعادة إنتاجها قد يذهب بالدولة كلها إلى الجحيم، إذا ما تكررت على نحو لا يجوز استدعاؤه، ومن التفاصيل التي لا يعلمها الكثير عن ثورة 1919، والتي نعيش ذكراها هذه الأيام «الجهاز السرى». عبد الرحمن فهمي لم يحظ عبد الرحمن فهمي بك، أحد أهم الأبطال المجهولين في ثورة 19 بقيمته المعنوية حتى الآن، في كل ما ذكر عن الثورة، التي حصرها البعض في سعد زغلول ورفاقه، وما تيسر من معرفة التاريخ، رغم دور فهمي الكبير في الثورة، وقيادته للجهاز السري لها. ولد عبد الرحمن فهمي، في القاهرة في 30 مارس 1870 م، وتخرج في المدرسة الحربية عام 1898، وشارك في حملة الجيش المصري بالسودان عام 1898 م، وكون علاقات قوية بالحركة الوطنية السودانية، التي دعمت الثورة، وهي أيضا أحد الأدوار الخفية حتى الآن، والتي لم تأخذ حقها المعنوي بعد. ساعد عبد الرحمن فهمي، عمله مديرًا لمديرية الجيزة عام 1911 في معرفة التفاصيل الجغرافية للعاصمة، توجس فيه الاحتلال بسبب التقارير التي رصدت اشتراكه في أعمال عدائية للمصالح الإنجليزية، فأبعد عنوة عن عمله بمديرية الجيزة، ونقل إلى «الأوقاف» لتهميشه، وإبعاده عن مصادر المعلومات، ورغم ذلك لم تمنعه شخصيته من العناد، والتصدي للخديو عباس، عندما أراد الاستيلاء على قطعة أرض تابعة للأوقاف المصرية، فكان الرد قاسيا، وأصدر قرارًا بإحالته إلى المعاش عام 1913. نواة الجهاز السري حمّل «فهمي» صدره بالغضب من أجواء الفساد، ساهم ذلك في تمكنه من إنشاء طبقات بوليسية، أصبحت نواة للجهاز السري للثورة، واستطاعت الدفاع عنها بكل قوة، رغم القبض على سعد زغلول يوم 8 مارس 1919، أي قبل اندلاع الثورة، والمثير أن الزعيم التاريخي لها، لم يكن يعلم عنها أي شيء، ولكن الجهاز استطاع بحرفية بالغة تأجيج مشاعر الكرة في المواطنين ضد الإنجليز، لاستمرار موجات الثورة باقية، وتحمّى يوميا من شروق الشمس إلى غروبها. الخطة التي اعتمدها عبد الرحمن فهمي، كانت تتوقع بحرفية القبض على سعد زغلول، لذا كوّن خلايا عنقودية، منفصلة عن بعضها البعض، ولا تعرف كل منها أي شيء عن الأخرى، تكون مهمتها جميعًا استدراج المواطنين البريطانيين، وحتى الموظفين المدنيين وقتلهم، نهاية بإرهاب الساسة المصريين المعروفين بتعاونهم مع الاحتلال الإنجليزي، وبجانب هذه المجموعات العنيفة، وضع عبد الرحمن فهمي خطة عمل لمجموعات أخرى، تقود المظاهرات، وتوزع المنشورات، وتنسحب بطريقة احترافية، تمكنهم من العمل سريعا دون ضبطهم. المكاتبات السرية أحد أخطر مراحل الثورة، وأكثرها مخاطرة، المكاتبات السرية التي تبادلها عبد الرحمن فهمي مع سعد زغلول، وكانت جميعها بالحبر السري، واستمرت أشهر طويلة بفضل مهارة «فهمي»، واطلاعه على أحدث الأساليب الأمنية، وكانت ضمن الخطة الموضوعة، وضع آليات شراء الأسلحة والقنابل، لتقديمها للجماعات الفدائية، ورعاية أسر المقبوض عليهم، وبعد عشرات العمليات الفدائية الناجحة، توصلت الأجهزة الأمنية للاحتلال الإنجليزي إلى عبد الرحمن، وتم القبض عليه، ودخل السجن، ولم تستطع المحاكمة إثبات تهمة الإرهاب عليه، ليخرج بعدها وينخرط في دعم الحركات العمالية، ثم طوي كما غيره في سجلات النسيان، رغم دوره الكبير في الثورة، كما يحكي مصطفى عبيد الباحث والأديب، في كتابه الصادر قبل عام باسم "هوامش التاريخ". محمد كامل بخلاف فهمي، كان محمد كامل، مأمور بندر أسيوط، أحد أهم رموز الجهاز السري لثورة 1919، وله قصة مثيرة، ساهمت الأحداث في نسج تفاصيلها وتصاعدها، ربما بسبب المنطقة التي كان يخدم فيها، وأهلها المعروفين بحميتهم، وردة فعلهم العنيفة على تجاوز الخطوط الحمراء، وعلى رأسها «الوطن». يحكي الكاتب والأديب جمال بدوي في كتابه «كان وأخواتها» كيف تصرف أهالي الصعيد، فور علمهم بوقوع ضحايا برصاص الإنجليز في القاهرة، كانوا يفتكون بجنود الاحتلال البريطاني، بعد إجبار القطارات على التوقف بالقوة، وإنزال الإنجليز منهم وإعدامهم على الفور، ما سبب لهم هيستريا، جعلتهم يضربون قرى ومراكز أسيوط بالطيران، وكانت فاجعة بكل المقاييس، ولم يستسلم الصعايدة، بل بحثوا في كل مكان للتسلح والأخذ بالثأر، وكانت وقتها أنباء استقلال زفتى بعد مقاومة عنيفة، تتردد في جميع أنحاء مصر، فسارعت المحافظة إلى إعلان استقلالها هي الأخرى، ورد الاحتلال بتسيير كتائب كبرى إلى المحافظة لوأد التمرد، فانطلق الأهالي قبل وصول الكتائب إلى قسم بندر أسيوط، وطلبوا منه الحصول على السلاح، في محاولة لم يكن يتوقع أكثرهم تفاؤلا استجابة مؤسسة أمنية لها، وتعريض أفرادها وقياداتها للمحاكمة العسكرية التي يمكن أن تنتهي بإعدامهم رميا بالرصاص. مخازن الأسلحة استجاب البكباشي محمد كامل مأمور البندر للطلب فورًا، وفتح لهم المخازن على مصراعيها، ووزع عليهم ما لديه من سلاح، وأعلن الجهاد ضد الاحتلال، وكان يعلم في قرارة نفسه، مدى ضعف فرصة الاستمرار في التمرد، ولكنه فضل المقاومة، متسلحا بقوة كبيرة من الخفراء والضباط والجنود، الذين قرروا الاستشهاد دفاعا عن كرامتهم الوطنية. أقام كامل سريعا معسكر تدريب للأهالي على استعمال السلاح، وكانت الروح الوطنية تسري في عروق الصعايدة، ما مثل قوة دفع رهيبة للضباط، الذين لم ينتظروا قدوم كتائب التعزيز الإنجليزية، وذهبوا على الفور لمهاجمة الحامية البريطانية في أسيوط، واشتبكوا بالسلاح معها، ونجحوا في قتل أكبر عدد ممكن من أفرادها. جن جنون بريطانيا، وأمرت باستهداف الثوار والضباط والجنود في كل مكان يمكن أن تطالهم أيدهم فيه، فسقط العشرات من الشهداء، وبعد معارك طالت جميع الشوارع المحيطة بالبندر والحامية، استطاع الإنجليز القبض على البكباشي محمد كامل ومعاونيه، ورفضت السلطات الإنجليزية بسبب الكم الهائل من القتلى الإنجليز، التفاوض على إطلاق سراح «كامل» ولم تفلح وساطات السياسيين المصريين في الإفراج عنه، بسبب غضب الحاكم الإنجليزي منه، لكل ما سببه له من متاعب مرعبة، وصدق على الحكم بإعدامه رميا بالرصاص في 10 يونيو من نفس العام، وحتى يحرق قلب الأهالي، أمر بتنفيذ الحكم وسط بندر أسيوط، وعلى مسمع ومرأى من المارة، الذين ودعوه بالدموع، وبقى خالدا في سجلات سرية، نادرا ما يتحدث عنها أحد. البوليس المصري يمكن القول إن البوليس المصري، كان صاحب دور عظيم في الجهاز السري لثورة «1919»، وخاصة ضباط مديرية أمن أسيوط تحديدا، التي اشتركت جميع وحداتها من مراكز ونقاط في تعقب ثلاثة من كبار الضباط الإنجليز، شاركوا في قتل المصريين، على رأسهم القائم مقام بوب أو «السفاح» الذي تتبعه اليوزباشي أبو المجد الناظر، نائب مأمور مركز ديروط، ومصطفى حلمي ملاحظ شرطة بنقطة دير مواس، وبدلا من حمايته، وتشديد الحراسة قبل وصوله إلى المحطة، أبلغ الثوار أن الضباط الإنجليز في طريقهم إلى المدينة، وسيكون من العار عليهم، أن يمر السفاح من أسيوط، ويعود إلى القاهرة حيا ليمارس القتل في أهلها، فاندفع أهالي ديروط إلى عربات القطار يحملون السكاكين والفؤوس والعصى، وأحكموا السيطرة على السفاح، وقتلوه شر قتلة. ووصلت سيرة السفاح إلى السلطات الإنجليزية، التي انتقمت له، بالقبض على الضباط المصريين من مختلف الرتب والأفراد في أسيوط والمنيا، وحكمت عليهم بأحكام عديدة، تراوحت بين الإعدام والسجن، والطرد من الخدمة، بسبب مشاركتهم المصريين في أعمال العنف، ليوارى بعضهم الثرى في شموخ وعزة، ويدفع من عاش منهم ثمن وطنيته غاليا، من السجن والطرد، ورغم ذلك لم تخلد بطولاتهم إلا مراجع قليلة، أغلبها ظهرت للنور منذ تسعينيات القرن الماضي، ولكنها تبقى خير شاهد على التحام المؤسسات الأمنية بالشعب في أحلك لحظات الوطن ولحظاته الفارقة. "نقلا عن العدد الورقي..."