في ليلة كان القمر يراقبه جلس وحيدا أمام «حقيبة» جمع بها ذكريات الماضي وأوجاع الحاضر وأمل المستقبل، سقطت منه دمعة على سنوات العمر المتواطئة ضده، أحب وطنه لكن ظروف الحياة قاسية، كانت الشمس لا تزال تشق طريقها وسط الظلام، خرج بعد أن أدى صلاة الفجر وودع غرفته، ثم أدار ظهره لمنزل يجمع أحباب وتركهم والدموع تحاصر وجوه الجميع.. مشاهد متكررة من قصة كربونية لمئات الغازين لأمواج البحر على أمل الوصول إلى الشاطئ الآخر حيث فرص العمل والمال. الطريق طويل إلى «المكان المحدد»، تحدث إلى نفسه قائلا أيام ربما ساعات وسندخل عالم آخر، يتعامل معنا الناس هناك ك«بني آدمين»، يعترفون بحقنا في العيش والحرية والكرامة الإنسانية، عالم آخر يعرف أن الجميع «سواسية» لا يوجد في قاموسهم «محسوبيات»، لا يعرف الفرق بين ولاد «الباشا» و«العبيد». في الموعد المحدد كان هناك، فكل رفيق له حلم على متن المركب، ألقوا جميعًا نظرة الوداع على أرض الوطن، شردوا بخيالهم متسائلين: «ماذا لو وفرت لنا حياة أقل من العادية»، قاطعهم صوت قائد المركب يطالبهم بالإسراع فالرحيل يقترب، أخذ كل منهم طريقه نحو «مركب الموت». عند الفجر ذهب الشباب دون أن يشعر بهم أحد، مرت دقائق ومن خلفها ساعات ليستيقظ أهالي مدينة رشيد على فاجعة «غرق مركب للهجرة غير الشرعية يحمل ما يزيد على 300 شخص»، لتتوجه مراكب الصيد بالتعاون مع القوات البحرية لتمشيط المنطقة بحثا عن الركاب ليكتشفوا فقدان العشرات وإنقاذ أكثر من 160 شخص، بينما ظلت جثث أخرى طافية على المياه تنتظر من يعيدها إلى حضن تراب الوطن في «أكفان مؤقتة»، ما أن تصل إلى البر حتى تحملها سيارات الإسعاف إلى مثواها الأخير.. قصص مأساوية روتها أسر الشباب الذي دفع ثمن حياته بحثا عن مستقبل أفضل في بلاد ما وراء «المتوسط». 1 صرخة متولى: ارجع يا أدهم يتكرر مشهد الطفل السوري الشهير إيلان عقب غرقه، ولكن تلك المرة على شاطئ رشيد عندما ظهر جثمان أحد ضحايا المركب الغارقة إنه الطفل «أدهم متولي أحمد» لتتعالى صيحات وصرخات المنتظرين جميعًا على البر في انتظار الضحايا. حاول والد الطفل «أدهم – عامان» الهروب وزوجته من الظروف المعيشية الصعبة التي يتعرضون لها خلال إقامتهم بمدينة فاقوس التابعة لمحافظة الشرقية، فالأب «28 عامًا» يعمل حدادًا مسلحًا ويوميته 100 جنيه لكن المشكلة أنه يعمل باليومية كعمال التراحيل وتمر أيام بلا عمل ولا مال ليعود إلى المنزل بخفي حنين. لسنوات انتظر «متولي» فرصة الهروب وأسرته إلى القارة العجوز من أجل معيشة أفضل ليتعرف على أحد السماسرة للهجرة غير الشرعية ويحلم بحياة أفضل مع أسرته، كل ذلك مقابل 55 ألف جنيه حتى يتاح له استقلال المركب التي تساعده على تحقيق مستقبل أفضل له ولطفله وزوجته، لكن بعد إبحار المركب اكتشف أعدادا لا يتحملها المركب لتبدأ عملية الغرق وكأنها مرتبة مسبقًا. تعالت الصرخات هذا يفقد صديق العمر وذاك يودع الحياة برمتها وهؤلاء أدركهم الجنون فباتوا يتحدثون إلى الأمواج، وفي النهاية فاق «متولي» على فقدان زوجته وطفله اللذين لقيا مصرعهما وبقي هو على قيد الحياة يذوق مرارة غيابهما بمفرده. الآن يخضع الأب الشاب لتحقيقات النيابة وفي كل كلمة ينطقها يصرخ على أدهم وأمه، تلك القصة حولتها مواقع التواصل الاجتماعي إلى أيقونة «المركب الغرقانة»، فكل شيء ضاع يا أدهم. 2 «الأحمدان».. فرقهما البحر وجمعهما الموت بعيدًا عن صخب الدلتا وصرخات الأمهات، ودع الصعيد ابني الخالة القريبين من بعض لدرجة اتخاذهما قرارًا واحدًا بالسفر معًا فقرر الموت اصطحابهما معًا كتوءم إلى القبر.. ابنا الخالة «أحمد عثمان» و«أحمد عبده» ولدا وأقاما معًا بقرية أبنوب التابعة لمحافظة أسيوط ورغم أن عمرهما «16 عامًا» ويدرسان بالثانوية العامة إلا أن قرارهما النهائي كان التوجه إلى المحطة الثانية بالكيلو 45 بمحافظة الإسكندرية للسفر إلى روما عاصمة الثراء السريع. جمع الشابان كل ما يمتلكان وأسرتهما من مال للهروب من ضعف الدخل إلى الفرصة الذهبية هروبًا عبر «مركب الموت» إلى الشاطئ المقابل من «المتوسط»، ومع مرور شهر على تغيب «الأحمدين» خارج أسيوط فاجأ كل من هما الأسرة بقرار اقتراب سفرهما إلى إيطاليا بحرًا عبر مدينة رشيد بمحافظة البحيرة التي تقترب من محافظة الإسكندرية وكأنهما كتبا شهادة وفاتهما بنفسيهما. غرقت مركب إيطاليا ورحل معها أحمد عثمان وتم انتشال جثته ونقلها إلى مشرحة المستشفى العام برشيد، بينما لا يزال صديق العمر «أحمد عبده» مفقودًا، ولا يزال البحث عنه مستمرًا، والآن جميع ما تبقى لأسرته شهادة ميلاده التي عثر عليها بجوار شهادة ميلاد أحمد عثمان عند انتشال جثته. في حسرة وحزن أمام المشرحة انتظرت أسرة الأحمدين استلام جثمان «أحمد عثمان»، وعلى سلالم المشرحة قهر الحزن عمهما سلمان الهلالي فتحدث وهو فاقد السيطرة على دموعه، قائلا: «مافيا الهجرة غير الشرعية ضحكوا على ولادنا وخلاهم يركبوا المركب لحاجتهما الشديدة للعمل والظروف المعيشية الصعبة التي مر بها جعلتهما يفكران في السفر». العم سلمان أكد أن التوءمين ظلا رفيقين حتى في موتهما اجتمعا على كلمة واحدة، فتم العثور على أحمد عثمان، ولا يعرف أحد مصير ابن خالته، سواء كان لا يزال في المياه أم تم انتشال جثته وتوجد في أحد المستشفيات، البحث عنه يتم بأوصاف ملابسه «بنطلون جينز أزرق وقميص كاروهات». «الهلالي» أضاف: «فوجئنا باتصال الأجهزة المختصة بنا لإبلاغنا بالعثور على شهادتي ميلادهما بحوزة جثمان أحمد عثمان بعد أن تركها ابن خالته معه قبل أن يتفارق جسديهما غرقا ولا يزال البحث جاريًا في عرض البحر». 3 المكالمة الأخيرة ل«نملة» الغربية وسط عشرات القصص لشباب شق طريق البحر بحثًا عن عمل مستقلين «مركب إيطاليا»، انفرد «صابر سعد نملة – 18 عاما – أحد أبناء الغربية» لاستكمال تعليمه هناك، مستغلا فرصة وجود شقيقه الأكبر هناك لكن بطريقة شرعية سفرًا بالطيران. سيطر الحزن على كل شبر بمنزل أسرة نملة، فعقب حصول الابن «صابر» على الثانوية العامة، قرر أن يكمل حلم تعليمه عند شقيقه بالالتحاق بإحدى الجامعات الإيطالية، ليبدأ رحلة الغربة مبكرًا، دون الاستجابة لطلب شقيقيه القريبين منه سنًا بعدم السفر بهذه الطريقة. ضرب «صابر» بتوسلات شقيقيه عرض الحائط، وانتهى به الموقف في مركب رشيد، وهي المحاولة الثانية له للسفر بحرًا، ففي المرة الأولى فشلت عملية التهجير لكنه أصر على الذهاب إلى شقيقه بإيطاليا واستكمال تعليمه وأمام إصرار رفض أسرته ذهب منفردًا وقبل استقلال المركب اتصل بشقيقيه هاتفيا مؤكدًا لهما أن المركب على وشك التحرك. بدأ حلم الطالب «نملة» أمامه ضخمًا تتقاذفه الأمواج، وما إن وقعت الواقعة ضاع كل شيء وتلقت الأسرة الخبر الأخير بغرق الشقيق مع طلب بالحضور لاستلام الجثة والحزن الشديد يسيطر عليهما، وبدلا من اجتماع الأشقاء هذه المرة للعب معًا كان اللقاء ناقصًا أحدهم، والحضور لغسله قبل دفنه. تحدث شقيقا «صابر» عن مجموعة الصدمات المتلاحقة التي فاجأهما شقيقهما الراحل بها، بداية من قراره باستكمال تعليمه في الخارج، ثم قرار السفر بطريقة غير شرعية إلى المكالمة المفاجئة بأنه على وشك استقلال المركب للسفر، وأخيرًا الصدمة الكبرى بغرقه والحضور لاستلام جثته، وأكدا أن الضحكة الحلوة لمنزلهم غابت برحيل هذا الأخ. 4 مولودة طلخا في «اليُتم» مبكرًا في منزل بسيط بقرية طلخا التابعة لمحافظة الدقهلية، لم تكتمل فرحة أسرة «محمد سعد – 28» بالمولودة الجديدة، فالابتسامة التي كانت منتشرة في أرجاء البيت ابتهاجًا بوصول المولودة الجديدة تحولت إلى بكاء بعد أسبوعين، فالأب الشاب الذي خرج بحثا عن رزق في أوروبا اختفى تمامًا. «محمد» واحد من أبناء قرية طلخا طمح في العمل بالخارج حتى وإن كان الأمر عبر الهجرة غير الشرعية، لما لا ونيران ارتفاع الأسعار تكوي جيوب أسرته في وقت تسيطر البطالة على كل شبر بمحافظته، ودخل أسرته بسيط للغاية فلم يجد أمامه سوى العمل سائقا لتوك توك قام بتأجيره من صاحبه في محاولة للحصول على دخل يساعد على توفير الطعام والشراب لأسرته البسيطة. مع حمل الزوجة وفرحة الشاب الراحل بمولودته الجديدة قرر السفر متعهدًا لأسرته بحياة «النغنغة»، وبدأ محمد رحلة البحث عن مزيد من السماسرة المتخصصين في الهجرة غير الشرعية إلى إيطاليا ليصبح واحدًا من ركاب «مركب الموت» مع غيره من الشباب الحالم بالبحث عن فرصة ذهبية خارج البلاد، ولكنه ذهب في سكة «اللي يروح ما يرجعش»، ودون أن يلقي ولو نظرة واحدة على مولودته أو تمر سنين لترتوي أذنيه بكلمة «بابا» وتكبر طفلته «يتيمة الأب». وقف أقارب «محمد» أمام المشرحة والحزن يخيم عليهم بينهم زوج شقيقته منتظرين انتهاء تراخيص الأوراق حتى يتم استلامه والذهاب به إلى منزله، حيث زوجته لتلقي النظرة الأخيرة لكنها ستختلف عن نظرة الوداع قبل سفره حاملا معه كل الأمل في مستقبل أفضل له ولها ولمولودتهما، لكن كلمة القدر كانت أقرب لإغراق كل تلك الأحلام في عمق البحر. 5 عندما يكون الحزن بقرار جمهورى «لسه بندور» مع اقتراب فيلم «مركب رشيد» من النهاية لم يضع القدر خاتمة حاسمة بل ترك المشهد الأخير مرفقًا بعبارة «لا يزال البحث جاريًا» عن المفقودين، وهي جملة يتشبث أهالي الغائبين بحروفها بين حلم العودة سالمين أو على الأقل جثث تقلل نزيف دموعهم. هذا المشهد الأخير يعرف تفاصيله فقط البحر الأبيض المتوسط بعد أن أعطى ساحل رشيد جزءًا من الحقيقة لمركز رشيد فالمركب الغارقة كانت تحمل أسرار نحو 500 شخص، بين نساء وأطفال ورجال، كانوا يحلمون بحياة تمنحهم قدرًا من آدميتهم المفقوده، وانسانيتهم المهدرة، وليس دليلًا على ذلك من أن الحكومة المصرية لم تعلن الحداد الرسمي على فقدانهم الأليم، وكأن هذا الحداد لا يجب أن يتم إعلانه على الفقراء والمعدومين والباحثين عن الحياة، وكذا وسائل الاعلام بشقيها الرسمي والخاص، إصابةا الخرس، وكأن الضحايا ليسوا مصريين، وكأن إعلان الحداد يحتاج قرارًا جمهوريًا. وتخطىء حكومة شريف إسماعيل عندما تظن انها قادرة بمشروعات قوانينها البائسة أن تقاوم ظاهرة الهجرة غير الشرعية طالما لم تقاوم أسبابها اصلا. مات من مات في مركب رشيد وبقيت «الهجرة غير الشرعية» على قيد الحياة في قلب البحيرة وكفر الشيخ ودمياط، تاركة في كل شبر من تراب مصر ألم الفراق والحسرة لأسر الضحايا، اليوم محافظاتالدقهليةوأسيوطوالغربية وكفر الشيخ والإسكندرية، وغدًا تنضم محافظات أخرى للقائمة السوداء.