كان عطاءُ سلمان الفارسي خمسة آلاف، وكان أميرًا على نحو ثلاثين ألفًا من المسلمين «ولاه عمر بن الخطاب على المدائن»، وكان يخطب الناس في عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها، فإذا خرج عطاؤه أمضاه، ويأكل من سفيف يديه. لما حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: «عهدٌ عهده إلينا رسول الله قال: (ليكن بلاغُ أحدكم كزاد الراكب). قال: فلما مات نظروا في بيته فلم يجدوا في بيته إلا إكافًا ووطاءً ومتاعًا قُوِّمَ نَحْوًا من عشرين درهمًا. وقد كان سلمان الفارسي من المعمّرين، توفي بالمدائن في خلافة عثمان ، قيل: سنة اثنتين وثلاثين. يقول سلمان الفارسي فيما رواه للصحابي عبد الله بن العباس رضي الله عنهما: «كنت رجلاً فارسيا من أهل أصبهان من أهل قرية منها يقال لها: جي، وكان أبي دِهْقَانَ قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تُحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية، وكانت لأبي ضَيْعَةٌ عظيمة، قال: فشغل في بنيان له يومًا فقال لي: يا بُنَيّ، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فَاطَّلِعْها. وأمرني فيها ببعض ما يريد، فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الذي نحن عليه. فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي ولم آتها، فقلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام. ويضيف سلمان في روايته لقصته ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أي بني، أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال: قلت: يا أبت، مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس. قال: أي بني، ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه. قلت: كلا، والله إنه لخير من ديننا. قال: فخافني فجعل في رجلي قيدًا ثم حبسني في بيته. قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجارًا من النصارى فأخبروني بهم. قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، فأخبروني بقدوم تجار، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم. فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم ألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأُسْقُفُّ في الكنيسة. فجئته، فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك وأصلي معك. قال: فادخل. فدخلت معه، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها فإذا جمعوا إليه منها شيئًا اكتنزه لنفسه، ولم يعطها المساكين حتى جمع سبع قِلال من ذهب، وأبغضته بغضًا شديدًا لما رأيته يصنع. قال: ثم مات، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعطِ المساكين منها شيئًا. قالوا: وما علمك بذلك؟ قلت: أنا أدلكم على كنزه. قالوا: فدلنا عليه. قال: فأريتهم موضعه، فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وورقًا، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا. فصلبوه ثم رجموه بالحجارة، ثم جاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً يصلي الخمس أَرَى أنه أفضل منه، وأزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهارًا منه. قال: فأحببته حبًّا لم أحبه أحداً من قبله، فأقمت معه زمانًا، ثم حضرته الوفاة، قلت له: يا فلان، إني كنت معك فأحببتك حبًّا لم أحبه أحدًا من قبلك، وقد حضرتك الوفاة، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم أحدًا اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصل وهو فلان، وهو على ما كنت عليه، فَالْحَقْ به. ويقول سلمان فلما مات وغَيَّبَ لحقت بصاحب الموصل، فكان معه ما كان من سابقه، قال: فلما مات وغَيَّب، لحقت بصاحب نصيبين، فجئت فأخبرته بما جرى وما أمرني به صاحبي، قال: فأقم عندي. فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبيه، قال: فلما مات وغَيَّبَ لحقت بصاحب عمورية، وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي. فأقمت عند رجل على هدي أصحابه وأمرهم، وكنت اكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة. ويواصل سلمان قائلاً: ثم مات وغَيَّبَ، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كلب تجار، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟ قالوا: نعم. فأعطيتهم إياها وحملوني، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني فباعوني لرجلٍ من يهود، فكنت عنده ورأيت النخل، ورجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يَحِقْ لي في نفسي، فبينما أنا عنده قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة فابتاعني منه، فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي فأقمت بها، وبعث الله رسوله فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر، مع ما أنا فيه من شغل الرِّقِّ، ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عِذْقٍ لسيدي، أعمل فيه بعض العمل وسيدي جالس، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، فقال فلان: قاتلَ اللهُ بني قَيْلَة! والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي. فلما سمعتها أخذتني العُرَواء حتى ظننت أني ساقط على سيدي، ونزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه: ماذا تقول؟ قال: فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، وقال: ما لك ولهذا؟! أقبل على عملك. قال: قلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبته عما قال. وقد كان شيء عندي قد جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح معك أصحاب لك غرباء ذو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم. قال: فقربته إليه، فقال رسول الله لأصحابه: «كلوا». وأمسك يده هو فلم يأكل. قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة. ثم انصرفت عنه فجمعت شيئًا، وتحوّل رسول الله إلى المدينة، ثم جئته به فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها. فأكل رسول الله منها وأمر أصحابه فأكلوا معه. قال: فقلت في نفسي: هاتان اثنتان. ويضيف سلمان قائلاً: ثم جئت رسول الله وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة من أصحابه عليه شَمْلَتان وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله استدبرته، عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، قال: فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أُقَبِّله وأبكي. فقال رسول الله: «تَحَوَّلْ». فتحولت، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك ابن عباس، فأعجب رسول الله أن يَسْمَعَ ذلك أصحابُه، ثم شغل سلمان الرِّقُّ حتى فاته مع رسول الله بدر وأحد. وننتقل من حديث سلمان عن نفسه الي ما قاله عن الامام الحسن بن علي رضي الله عنه فيقول : كان عطاءُ سلمان الفارسي خمسة آلاف، وكان أميرًا على نحو ثلاثين ألفًا من المسلمين «ولاه عمر بن الخطاب على المدائن»، وكان يخطب الناس في عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها، فإذا خرج عطاؤه أمضاه، ويأكل من سفيف يديه. عن أبي ليلى الكندي قال: قال غلام سلمان لسلمان : كاتبني. قال: ألك شيء؟ قال: لا. قالمن أين؟ قال: أسأل الناس. قال: «تريد أن تطعمني غُسَالة الناس». وعن عبد الله بن بريدة قال: «كان سلمان إذا أصاب الشيء اشترى به لحمًا، ثم دعا المجذومين فأكلوا معه». وعن أبي الأحوص قال: افتخرت قريشا عند سلمان الفارسي ، فقال سلمان: «لكني خلقت من نطفة قذرة، ثم أعود جيفة منتنة، ثم يؤدى بي إلى الميزان، فإن ثقلت فأنا كريم، وإن خفت فأنا لئيم». لما حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: «عهدٌ عهده إلينا رسول الله قال: (ليكن بلاغُ أحدكم كزاد الراكب). قال: فلما مات نظروا في بيته فلم يجدوا في بيته إلا إكافًا ووطاءً ومتاعًا قُوِّمَ نَحْوًا من عشرين درهمًا. وقد كان سلمان الفارسي من المعمّرين، توفي بالمدائن في خلافة عثمان ، قيل: سنة اثنتين وثلاثين.