أوذى النبى صلى الله عليه وسلم وأوذى أيضًا معه الصحابة، ومنهم أبو بكر قام خطيبًا فى المسجد الحرام، فضربه المشركون ضرباً عنيفاً وممن ضربه عتبة بن ربيعة، جعل يضربه بالنعل على وجهه، حتى سال الدم فلم يعرف وجهه من كثرة الدماء. وممن ضُرب من الصحابة عبد الله بن مسعود، وكان أول من جهر بالقرآن بين أظهر المشركين، وحذره النبى صلى الله عليه وسلم من عدوان المشركين عليه، وعندما فعل ذلك ضربوه على وجهه حتى أثروا فيه، فقال له الصحابة: هذا ما خشينا عليك، فقال: ما كان أهون أعداء الله عز وجل منهم الآن، والله لئن شئتم لآتينهم غداً بمثلها. وممن أوذى آل ياسر و خباب بن الأرت، وبلال بن رباح وسلمان الفارسى وصهيب الرومى، ونتناول بعض هذه الابتلاءات. صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة *** عمَّار بن ياسر -رضى الله عنه، كان هو وأبوه ياسر وأمه سمية بنت خياط من أوائل الذين دخلوا فى الإسلام، وكان أبوه قد قدم من اليمن، واستقر بمكة، ولما علم المشركون بإسلام هذه الأسرة أخذوهم وعذبوهم عذابًا شديدًا، فمر عليهم الرسول وقال لهم: (صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة). «الطبرانى والحاكم». هاجر عمار إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة، وشارك مع النبى صلى الله عليه وسلم فى جميع الغزوات، حتى إنه قال ذات يوم: قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن والإنس فسأله الصحابة: وكيف؟ فقال: كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم، فنزلنا منزلاً، فأخذت قربتى ودلوى لأستقى، فقال:أما إنه سيأتيك على الماء آت يمنعك منه، فلما كنت على رأس البئر إذا برجل أسود، فقال: والله لا تستقى اليوم منها، فأخذنى وأخذته وتشاجرنا فصرعته ثم أخذت حجرًا، فكسرت وجهه وأنفه، ثم ملأت قربتى وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:هل أتاك على الماء أحد؟ قلت: نعم، فقصصت عليه القصة فقال: أتدرى من هو؟ قلت: لا، قال: ذاك الشيطان.«ابن سعد». وذات يوم استأذن عمار - رضى الله عنه - الرسول ليدخل فقال: من هذا؟ قال: عمار، فقال: مرحبًا بالطيب المطيب «الترمذى والحاكم». وذات يوم حدث بين عمار وخالد بن الوليد كلام، فأغلظ خالد لعمار، فشكاه إلى النبى ، فقال: من عادى عمارًا عاداه الله، ومن أبغض عمارًا أبغضه الله «النسائى وأحمد»، فخرج خالد من عند الرسول وما من شىء أحب إليه من رضا عمار، وكلمه حتى رضى عنه. وقال النبى صلى الله عليه وسلم: إن عمارًا مُلئ إيمانًا إلى مشاشه (أى إلى آخر جزء فيه) «النسائى والحاكم». وأمر النبى (المسلمين أن يتبعوا عمارًا ويقتدوا به، فقال: اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر واهتدوا بهدى عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد (عبد الله ابن مسعود) «أحمد». وبعد وفاة النبى، اشترك عمار مع الصديق أبى بكر - رضى الله عنه - فى محاربة المرتدين، وأظهر شجاعة فائقة فى معركة اليمامة حتى قال ابن عمر - رضى الله عنه - فى شجاعته: رأيت عمار بن ياسر - رضى الله عنه - يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أمن الجنة تفرون؟! أنا عمار بن ياسر، أمن الجنة تفرون؟! أنا عمار بن ياسر، هلمَّ إليَّ، وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهى تذبذب (تتحرك) وهو يقاتل أشد القتال. وبعد أن تولى عمر بن الخطاب الخلافة، ولى عمارًا على الكوفة ومعه عبد الله بن مسعود وبعث بكتاب إلى أهلها يقول لهم فيه: أما بعد، فأنى بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرًا وابن مسعود معلمًا ووزيرًا، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمد، من أهل بدر، فاسمعوا لهما وأطيعوا، واقتدوا بهما. وكان عمار متواضعًا زاهدًا سمحًا كريمًا فقد سبَّه رجل وعيَّره ذات مرة بأذنه التى قطعت فى سبيل الله، وقال له: أيها الأجدع، فقال لها عمار: خير أذنى سببت، فإنها أصيبت مع رسول الله. وكان يقول: ثلاثة من كن فيه فقد استكمل الإيمان: الإنفاق فى الإقتار، والإنصاف من النفس، وبذل السلام للعالم. وفى يوم صفين كان عمار فى جيش على، وقبل بداية المعركة شعر عمار بالعطش، فإذا بامرأة تأتيه وفى يدها إناء فيه لبن فشرب منه، وتذكر قول الرسول له: آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن. ثم قال فى جموع المقاتلين: الجنة تحت ظلال السيوف، والموت فى أطراف الأسنة، وقد فتحت أبواب الجنة، وتزينت الحور العين، اليوم ألقى الأحبة محمدًا وحزبه، ثم تقدم للقتال فاستشهد سنة (37ه)، وكان عمره آنذاك (93) سنة، ودفنه الإمام عليُّ. فكانت أسرة عمار بن ياسر يضرب بها المثل فيما لاقاه المستضعفون من الابتلاء فى أول تاريخ الإسلام، وقد كان بنو مخزوم وهم أسياد آل ياسر يخرجون بهم إذا حميت الظهيرة، فيعذبونهم برمضاء مكة، ومر بهم النبى صلى الله عليه وسلم ذات مرة وهم يعذبون، فنظر إليهم، وقال لهم: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة، وكانت أول شهيدة فى الإسلام هى سمية بنت خياط أم عمار وزوجة ياسر، طعنها أبو جهل عليه من الله ما يستحق، مر عليها وهى مقيدة بيديها وأرجلها فى الرمضاء وهى تقول: أحد أحد، فطعنها بالرمح فى قلبها وماتت، وكانت أول من أريق دمه وأول شهيدة نالت شرف الشهادة فى سبيل الله فى الإسلام، وأيضاً مات زوجها ياسر، مات شهيداً من شدة العذاب، ورمى ابنه عبد الله بسهم فمات، وتفننوا فى إيذاء عمار بن ياسر ولد سمية ، حتى أجبروه فى يوم من الأيام على أن يتلفظ بكلمة الكفر بلسانه، وقد ذكر جمهور المفسرين، أن سبب نزول قول الله عز وجل:چچ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ڈ ڈ ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ چ «النحل:106» أنها نزلت فى عمار؛ لأنهم عذبوه حتى انتهى صبره، ثم قالوا له: والله لا نتركك من هذا العذاب حتى تسب محمداً، وتكفر بمحمد، فقال كلمة الكفر مضطراً، ثم لما جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم شكا إليه وقال: (يا رسول الله! والله ما تركونى حتى نلت منك وسببتك، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال: (إن عادوا فعد)، ونزل قول الله عز وجل:چ? ? ? ? ? ڈچ «النحل:106». **** بلال بن رباح هو الصحابى الجليل بلال بن رباح الحبشى أبو عبد الله، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخازنه على بيت ماله، وأحد السابقين للإسلام، من مولدى السراة، شهد المشاهد مع رسول الله، ولما توفى رسول الله أذن بلال، ولم يؤذن بعد ذلك، توفى بدمشق سنة 20 هجرية. فهذا بلال بن رباح رضى اللّه عنه كان يعذبه أمية بن خلف على توحيده وإيمانه بالله تعالى وقد عذبه أشد العذاب، ومن ذلك أن أمية كان يُخرجُ بلالًا إذا حميت الشمس فى الظهيرة، فيطرحه على ظهره فى بطحاء مكة، ثم يأمر بالصّخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو فى ذلك البلاء: أَحدٌ أَحدٌ، فمر به أبو بكر فاشتراه. وهذه الكلمة التى زعزعت كيان أمية بن خلف فهذا الموقف العظيم منه-رضى الله عنه- فيستفيد منه المحتسب عدة دروس مهمة تعينه على القيام بأمر الحسبة، فالصبر خلق رفيع جليل به يأتى الفرج وهو خلق الأنبياء جميعا عليهم السلام والله عزوجل خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم مرات كثيرا موصياً إياه بالصبر..فقال: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ قام النبى صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة بإسناد وظائف كثيرة إلى بلال، نظراً لما لمِس منه من كفاءة وأمانة وتضحية واقتدار، وأعظم هذه الوظائف أنه جعله أميناً على الأذان، ذلك النداء العُلْوِى الذى يتكرر فى اليوم خمس مرات، يعلن تعظيم الله تعالى وتمجيده، ويجمع الناس لأداء أعظم العبادات فى الإسلام، بما تتضمنه من تآلف وطاعة ووحدة كلمة، وقام بلال أول مؤذن فى الإسلام بهذه المسئولية خير قيام، مع نداوة صوت، وحلاوة حسٍّ، وعذوبة كلمات. كما أسند النبى صلى الله عليه وسلم إلى بلال مسئوليات أخرى ومن ذلك: تولى نصب خيمته صلى الله عليه وسلم، والإشراف على نفقة البيت النبوي، وجباية الصدقات، ورعاية الغنائم والقيام على حفظها، وتقديم الجوائز والأعطيات للوفود والزائرين، والإشراف على إطعام الجيش فى السفر. وقد حدث خلاف بين أبى ذر الغفارى العربى الأرومة، وبلال بن رباح الحبشى الأصل، فقام أبوذر يُعيِّر بلالاً بأمه السوداء الحبشية حمامة ويقول: يابن السوداء، وفكَّر بلال فيما سمع، وقدَّر أنَّ هذا جرم خطير لا ينبغى السكوت عليه، مخافة أن يستشرى بين أفراد المجتمع الواحد فيمزق الصف الداخلي، ويحرق الأخضر واليابس، لكنَّه لم يردَّ على أبى ذر، بل عمد إلى النبى صلى الله عليه وسلم صاحب الشأن والقرار، وذكر له ما قاله أبوذر. وطلب النبى صلى الله عليه وسلم من أبى ذر أن يحضر إليه، ولما تأكد له ما فعله خاطبه معنفاً:«أعيَّرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية ثم أوضح له ذلك المعنى الخالد بما يشرح صدر كل إنسان ويزيده إعجاباً بالإسلام: «إخوانُكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليُطعمْه مما يأكل وليُلبسه مما يلبس، ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم» فلما سمع أبو ذر هذا الكلام تأثر به أيّما تأثر، وألقى بنفسه على الأرض ووضع خدَّه عليها، وطلب من بلال أن يطأ خدَّه الآخر بقدمه، معتذراً إليه عمَّا فعل، راداً إليه اعتباره أمام الناس، لكنَّ بلالاً أبى ذلك، وأمسك بيد أبى ذر يرفعه إليه قائلاً: غفر الله لك يا أخى.. وظلَّ بلال ملازماً للنبى صلى الله عليه وسلم فى حضره وسفره، يشهد معه جميع الرحلات والغزوات، ناشراً للإسلام ومدافعاً عنه وحامياً لأهله حضر بدراً، وأحداً، والخندق، وصلح الحديبية، وفتح مكة، وغيرها من المشاهد وكان شجاعاً مقداماً، تقرُّ به عينا النبى صلى الله عليه وسلم وعيون أصحابه، يتولى شئون الجيش فى طعامه وشرابه وغنائمه. بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم وتولِّى أبى بكر الخلافة، رأى بلال أن تكون له مشاركة فى إيصال الإسلام إلى بلاد الشام وتبليغه للناس، فجاء إلى أبى بكر مستأذناً فى أن يخرج مع الدعاة المجاهدين فى جيش أبى عبيدة، فأراد أبوبكر أن يستبقيه إلى جانبه، فقال له: يا أبا بكر، إن كنت أعتقتنى لنفسك فاستبقنى عندك، وإن كنت أعتقتنى لله فدعنى أخرج فى سبيل الله، فأذن له أبوبكر فخرج وقد جاوز الستين مع أبى عبيدة، وكان له خير عضد ونعم المعين. شارك بلال فى نشر الإسلام والدعوة إليه والتعريف به فى بلاد الشام، فطاف فلسطين داعياً مجاهداً، ثم قصد دمشق مع الفاتحين واستقر بها فترة، ثم رحل إلى حلب وأقام بها، ثم عاد إلى دمشق عازفاً عن الدنيا وما فيها، يروى الأحاديث التى سمعها من النبى صلى الله عليه وسلم ويعلِّم الناس أينما حلَّ وارتحل. استمر بلال يقيم فى دمشق حتى داهم المسلمين فى تلك الديار مرضٌ عُرِف ب «طاعون عمواس»، نسبة إلى البلد التى استفحل فيها وانتشر، وذلك فى خلافة عمر رضى الله عنه وكان بلال ممن أصيب بذلك المرض، وكان كلما اشتد عليه الوجع قالت له زوجته: وا كرباه، فيقول لها: بل وا طرباه، غداً ألقى الأحبة، محمداً وصحبه، ثم توفى رضى الله عنه وقد جاوز السبعين من عمره، وقيل توفى فى مدينة حلب ودفن فيها. **** خباب بن الأرت خباب بن الأرت هو خباب بن الأَرَتّ بن جندلة التميمى، ويقال الخزاعى أبو عبد الله، سُبِى فى الجاهلية فبيع فى مكة، فكان مولى أم أنمار الخزاعية، حالف بنى زهرة، وكان من السابقين الأولين دفعت أم أنمار غلامها إلى أحد الحدادين فى مكة ليعلمه صناعة السيوف، فما أسرع أن أتقن الغلام الصنعة، وتمكّن منها أحسن تمكن. ولما اشتد ساعد خباب وصلب عوده استأجرت أم أنمار دكانًا، واشترت له عدة، وجعلت تستثمر مهارته فى صنع السيوف. لم يمضِ غير قليل على خباب حتى شهر فى مكة، وجعل الناس يقبلون على شراء سيوفه؛ لما كان يتحلى به من الأمانة والصدق وإتقان الصنعة. وكان خباب - على حداثة سنِّه - يتحلى بعقل الكلمة وحكمة الشيوخ؛ فكان كثيرًا ما يفكر فى هذا المجتمع الجاهلى الذى غرق فى الفساد من أخمص قدميه إلى قمة رأسه، راجيًا أن يرى بعينه مصرع الظلام، ومولد النور. فقد روى البخارى عن قيس قال: أتينا خباب بن الأرت - رَضِى اللهُ عَنْهُ - نعوده وقد اكتوى سبعًا، فقال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به. لم يكتم خباب إسلامه عن أحد، فما لبث أن بلغ خبره أم أنمار فاستشاطت غضبًا وتميزت غيظًا، وصحبت أخاها «سباع بن عبد العزى» ولحق بهما جماعة من فتيان خزاعة ومضر جميعًا إلى خباب، فوجدوه منهمكًا فى عمله، فأقبل عليه «سباع» وقال: لقد بلغنا عنك نبأ لم نصدقه. فقال خباب: وما هو؟ فقال سباع: يشاع أنك صبأت، وتبعت غلام ابن هاشم. فقال خباب فى هدوء: ما صبأت، وإنما آمنت بالله وحده لا شريك له، ونبذت أصنامكم، وشهدت أن محمدًا عبد الله ورسوله. فما أن لامست كلمات خباب مسامع «سباع» ومن معه حتى انهالوا عليه، وجعلوا يضربونه بأيديهم ويركلونه بأقدامهم، ويقذفونه بما يصلون إليه من المطارق وقطع الحديد، حتى هَوَى على الأرض فاقد الوعى والدماء تنزف منه.ومع كل ما تعرض له من التعذيب الشديد على يد مشركى مكة، فإنه - رَضيَ اللهُ عَنْهُ - ثبت على الحق كالجبال، ورفض جميع أنواع الإغراءات ليرتد عن دينه؛ يروى البخارى بسنده عن خباب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: كنت قَيْنًا بمكة، فعملت للعاص بن وائل السهمى سيفًا، فجئت أتقاضاه، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد. قلت: لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى يميتك الله ثم يحييك. قال: إذا أماتنى الله ثم بعثنى ولى مال وولد. فأنزل الله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} «مريم: 77، 78». ومر رسول الله به ذات يوم وهو يعذب، فرفع كفيه إلى السماء وقال: اللهم انصر خبابا واستجاب الله لدعاء رسوله، فقد أصيبت أم أنمار بسعار غريب فجعلها تعوى مثل الكلاب! ونصحها البعض بأن علاجها هو أن تكوى رأسها بالنار! وهكذا ذاقت من نفس الكأس التى أذاقته لخباب بن الأرت.وتفرغ خباب للعبادة وحفظ القرآن الكريم حتى قال عنه عبد الله بن مسعود: من أراد أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل، فليقرأه بقراءة أبن أم عبد». وقد اغتنى خباب فى الشطر الأخير من حياته بعد فقر، وملك ما لم يكن يحلم به من الذهب والفضة، غير أنه تصرف فى ماله على وجه لا يخطر ببال أحد؛ فقد وضع دراهمه ودنانيره فى موضع بيته، يعرفه ذوو الحاجات من الفقراء والمساكين، ولم يشدد عليه رباطًا، ولم يحكم عليه قفلاً، فكانوا يأتون داره ويأخذون منه ما يشاءون دون سؤال أو استئذان. ومع ذلك فقد كان يخشى أن يحاسب على ذلك المال وأن يعذب بسببه. عن عبد الله بن خباب بن الأَرَتّ عن أبيه -وكان قد شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه راقب رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة كلها حتى كان مع الفجر، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، جاءه خباب فقال: يا رسول الله، بأبى أنت وأمي، لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل، إنها صلاة رغب ورهب، سألت ربى فيها ثلاث خصال، فأعطانى اثنتين ومنعنى واحدة، سألت ربى أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا فأعطانيها، وسألت ربى أن لا يظهر علينا عدوًّا من غيرنا فأعطانيها، وسألت ربى أن لا يلبسنا شيعًا فمنعنيها». دخل خباب بن الأرت على عمر بن الخطاب فأجلسه على متكئه وقال: ما على الأرض أحد أحق بهذا المجلس من هذا إلا رجل واحد. قال له خباب: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: بلال. فقال خباب: ما هو بأحق مني؛ إن بلالاً كان له فى المشركين من يمنعه الله به، ولم يكن لى أحد يمنعني، فلقد رأيتنى يومًا أخذونى فأوقدوا لى نارًا، ثم سلقونى فيها، ثم وضع رجل رجله على صدري، فما اتّقيت الأرض إلا بظهري. قال: ثم كشف عن ظهره، فإذا هو قد برص. كان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن، فخرج عمر يومًا متوشحًا سيفه يريد قتل رسول الله فذكروا له أنهم اجتمعوا فى بيت عند الصفا، فلقيه نعيم بن عبد الله فأخبره بإسلام أخته فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد بن عمرو، فرجع عمر عامدًا إلى أخته وزوجها وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها «طه» يقرئهما إياها، فلما سمعوا صوت عمر تغيَّب خباب فى بعض البيت، فأخبرهما بما سمع وبطش بزوج أخته سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجَّها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وزوجها: نعم، لقد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع، وطلب من أخته الصحيفة ليقرأها، فأمرته أن يغتسل حتى تعطيه الصحيفة، فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها «طه» فقرأها، فلما قرأ منها صدرًا، قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه!فلما سمع ذلك خباب بن الأرت خرج إليه فقال له: والله يا عمر، إنى لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فإنى سمعته أمسِ وهو يقول: «اللهم أيد الإسلام بأبى الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب»، فقال عند ذلك: فدلنى يا خباب على محمدٍ حتى آتيه فأسلم. فقال له خباب: هو فى بيت عند الصفا، وذهب عمر وأسلم. تُوفِّى خباب بالكوفة سنة سبع وثلاثين، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وصلى عليه على بن أبى طالب حين منصرفه من صفين، ثم وقف أمير المؤمنين على بن أبى طالب على قبره قائلاً: رحم الله خبابًا، فلقد أسلم راغبًا، وهاجر طائعًا، وعاش مجاهدًا. *** سلمان الفارسى .. الباحث عن الحقيقة ومن بلاد فارس، عانق الإسلام مؤمنون كثيرون فيما بعد، فجعل منهم أفذادا لا يلحقون فى الايمان، وفى العلم.. وفى الدين، وفى الدنيا.. وإنها لإحدى روائع الاسلام وعظمائه، ألا يدخل بلدا من بلاد الله أحد إلا ويجد إعجاز باهرًا، يقف خلف نبوغها ويحرك كل طاقاتها، ويخرج خبء العبقرية المستكنّة فى أهلها وذويها.. فإذا الفلاسفة المسلمون.. والأطباء المسلمون.. والفقهاء المسلمون.. والفلكيون المسلمون.. والمخترعون المسلمون.. وعلماء الرياضة المسلمون. وكان سلمان الفارسى شاهدا.. وكان له بما حدث علاقة وثقى. كان ذلك يوم الخندق. فى السنة الخامسة للهجرة. اذ خرج نفر من زعماء اليهود قاصدين مكة، مؤلبين المشركين ومحزّبين الأحزاب على رسول الله والمسلمين، متعاهدين معهم على أن يعاونوهم فى حرب حاسمة تستأصل شأفة هذا الدين الجديد. ووضعت خطة الحرب الغادرة، على أن يهجم جيش قريش وغطفان «المدينة» من خارجها، بينما يهاجم بنو قريظة من الداخل، ومن وراء صفوف المسلمين، الذين سيقعون آنئذ بين شقّى رحى تطحنهم، وتجعلهم ذكرى..! وفوجىء الرسول والمسلمون يوما بجيش لجب يقترب من المدينة فى عدة متفوقة وعتاد مدمدم. وسقط فى أيدى المسلمين، وكاد صوابهم يطير من هول المباغتة. وصوّر القرآن الموقف، فقال الله تعالى: (اذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم واذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا) أربعة وعشرون ألف مقاتل تحت قيادة أبى سفيان وعيينة بن حصن يقتربون من المدينة ليطوقوها وليبطشوا بطشتهم الحاسمة كى ينتهوا من محمد ودينه، وأصحابه.. وهذا الجيش لا يمثل قريشا وحدها.. بل ومعها كل القبائل والمصالح التى رأت فى الاسلام خطرا عليها انها محاولة أخيرة وحاسمة يقوم بها جميع أعداء الرسول: أفرادا، وجماعات، وقبائل، ومصالح.. ورأى المسلمون أنفسهم فى موقف عصيب.. وجمع الرسول أصحابه ليشاورهم فى الأمر..وطبعا، أجمعوا على الدفاع والقتال.. ولكن كيف الدفاع؟ هنالك تقدم الرجل الطويل الساقين، الغزير الشعر، الذى كان الرسول يحمل له حبا عظيما، واحتراما كبيرا. تقدّم سلمان الفارسى وألقى من فوق هضبة عالية، نظرة فاحصة على المدينة، فألفاها محصنة بالجبال والصخور المحيطة بها.. بيد أن هناك فجوة واسعة، ومهيأة، يستطيع الجيش أن يقتحم منها الحمى فى يسر. وكان سلمان قد خبر فى بلاد فارس الكثير من وسائل الحرب وخدع القتال، فتقدم للرسول صلى الله عليه وسلم بمقترحه الذى لم تعهده العرب من قبل فى حروبها.. وكان عبارة عن حفر خندق يغطى جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة. والله يعلم، ماذا كان المصير الذى كان ينتظر المسلمين فى تلك الغزوة لو لم يحفروا الخندق الذى لم تكد قريش تراه حتى دوختها المفاجأة، وظلت قواتها جاثمة فى خيامها شهرا وهى عاجزة عن اقتحام المدينة، حتى أرسل الله تعالى عليها ذات ليلة ريحًا صرصرًا عاتية اقتلعت خيامها، وبدّدت شملها.. ونادى أبو سفيان فى جنوده آمرا بالرحيل الى حيث جاءوا.. فلولا يائسة منهوكة..!! خلال حفر الخندق كان سلمان يأخذ مكانه مع المسلمين وهم يحفرون ويدأبون.. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحمل معوله ويضرب معهم. وفى الرقعة التى يعمل فيها سلمان مع فريقه وصحبه، اعترضت معولهم صخور عاتية. كان سلمان قوى البنية شديد الأسر، وكانت ضربة واحدة من ساعده الوثيق تفلق الصخر وتنشره شظايا، ولكنه وقف أمام هذه الصخرة عاجزا.. وتواصى عليها بمن معه جميعا فزادتهم رهقا! وذهب سلمان الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه فى أن يغيّروا مجرى الحفر تفاديا لتلك الصخرة العنيدة المتحدية. وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم مع سلمان يعاين بنفسه المكان والصخرة.. وحين رآها دعا بمعول، وطلب من أصحابه أن يبتعدوا قليلاعن مرمى الشظايا.. وسمّى بالله، ورفع كلتا يديه الشريفتين القابضتين على المعول فى عزم وقوة، وهوى به على الصخرة، فاذا بها تنثلم، ويخرج من ثنايا صدعها الكبير وهجا عاليا مضيئا. ويقول سلمان لقد رأيته يضيء ما بين لا بتيها، أى يضيء جوانب المدينة.. وهتف رسول الله صلى الله عليه وسلم مكبرا: «الله أكبر.. أعطيت مفاتيح فارس، ولقد أضاء لى منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وان أمتى ظاهرة عليها»، ثم رفع المعول، وهوت ضربته الثانية، فتكررت الظاهرة، وبرقت الصخرة المتصدعة بوهج مضيء مرتفع، وهلل الرسول عليه السلام مكبرا: «الله أكبر.. أعطيت مفاتيح الروم، ولقد أضاء لى منها قصورها الحمراء، وان أمتى ظاهرة عليها»، ثم ضرب ضربته الثالثة فألقت الصخرة سلامها واستسلامها، وأضاء برقها الشديد الباهر، وهلل الرسول وهلل المسلمون معه.. وأنبأهم أنه يبصر الآن قصور سورية وصنعاء وسواها من مدائن الأرض التى ستخفق فوقها راية الله يوما، وصاح المسلمون فى ايمان عظيم: هذا ما وعدنا الله ورسوله. وصدق الله ورسوله..!! كان سلمان صاحب المشورة بحفر الخندق.. وكان صاحب الصخرة التى تفجرت منها بعض أسرار الغيب والمصير، حين استعان عليها برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قائما الى جوار الرسول يرى الضوء، ويسمع البشرى.. ولقد عاش حتى رأى البشرى حقيقة يعيشها، وواقعا يحياه، فرأى مداءن الفرس والروم.. رأى قصور صنعاء وسوريا ومصر والعراق.. رأى جنبات الأرض كلها تهتز بالدوى المبارك الذى ينطلق من ربا المآذن العالية فى كل مكان مشعا أنوار الهدى والخير..!! وها هو ذا، جالس هناك تحت ظل الشجرة الوارفة الملتفة أما داره «بالمدائن» يحدث جلساءه عن مغامرته العظمى فى سبيل الحقيقة، ويقص عليهم كيف غادر دين قومه الفرس الى المسيحية، ثم الى الاسلام.. كيف غادر ثراء أبيه الباذخ، ورمى نفسه فى أحضان الفاقة، بحثا عن خلاص عقله وروحه! كيف بيع فى سوق الرقيق، وهو فى طريق بحثه عن الحقيقة؟ كيف التقى بالرسول صلى الله عليه وسلم.. وكيف آمن به؟ تعالوا نقترب من مجلسه الجليل، ونصغ الى النبأ الباهر الذى يرويه. [كنت رجلا من أهل أصبهان، من قرية يقال لها «جى»..وكان أبى دهقان أرضه.وكنت من أحب عباد الله اليه.. وقد اجتهدت فى المجوسية، حتى كنت قاطن النار التى نوقدها، ولا نتركها نخبو.. ثم دخلت دين النصارى وهربت معهم للشام من بطش والدى بى بعد تركى لدين أبائى ..وهناك سألت عن عالمهم، فقيل لى هو الأسقف، صاحب الكنيسة، فأتيته وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدم، وأصلى وأتعلم..وكان هذا الأسقف رجل سوء فى دينه، ثم مات..وجاءوا بآخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلا على دينهم خيرا منه، ولا أعظم منه رغبة فى الآخرة، وزهدا فى الدنيا ودأبا على العبادة..وأحببته حبا ما علمت أنى أحببت أحدا مثله قبله.. فلما حضر قدره قلت له: انه قد حضرك من أمر الله تعالى ما ترى، فبم تأمرنى والى من توصى بى؟ قال: أى بني، ما أعرف أحدا من الناس على مثل ما أنا عليه الا رجلا بالموصل..فلما توفي، أتيت صاحب الموصل، فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، ثم حضرته الوفاة، سألته فأمرنى أن ألحق برجل فى عمورية فى بلاد الروم، فرحلت اليه، وأقمت معه، واصطنعت لمعاشى بقرات وغنمات..ثم حضرته الوفاة، فقلت له: الى من توصى بي؟ فقال لي: يا بنى ما أعرف أحدا على مثل ما كنا عليه، آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبى يبعث بدين ابراهيم حنيفا.. يهاجر الى أرض ذات نخل بين جرّتين، فان استطعت أن تخلص اليه فافعل.وان له آيات لا تخفى، فهو لا يأكل الصدقة.. ويقبل الهدية. وان بين كتفيه خاتم النبوة، اذا رأيته عرفته. ومر بى ركب ذات يوم، فسألتهم عن بلادهم، فعلمت أنهم من جزيرة العرب. فقلت لهم: أعطيكم بقراتى هذه وغنمى على أن تحملونى معكم الى أرضكم؟.. قالوا: نعم.واصطحبونى معهم حتى قدموا بى وادى القرى، وهناك ظلموني، وباعونى الى رجل من يهود.. وبصرت بنخل كثير، فطمعت أن تكون هذه البلدة التى وصفت لي، والتى ستكون مهاجر النبى المنتظر.. ولكنها لم تكنها.وأقمت عند الرجل الذى اشتراني، حتى قدم عليه يوما رجل من يهود بنى قريظة، فابتاعنى منه، ثم خرج بى حتى قدمت المدينة!! فوالله ما هو الا ان رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التى وصفت لي..وأقمت معه أعمل له فى نخله فى بنى قريظة حتى بعث الله رسوله وحتى قدم المدينة ونزل بقباء فى بنى عمرو بن عوف. وانى لفى رأس نخلة يوما، وصاحبى جالس تحتها اذ أقبل رجل من يهود، من بنى عمه، فقال يخاطبه: قاتل الله بنى قيلة اهنم ليتقاصفون على رجل بقباء، قادم من مكة يزعم أنه نبي..فوالله ما أن قالها حتى أخذتنى العرواء، فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي!! ثم نزلت سريعا، أقول: ماذا تقول.؟ ما الخبر..؟ فرفع سيدى يده ولكزنى لكزة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا..؟ أقبل على عملك..فأقبلت على عملي.. ولما أمسيت جمعت ما كان عندى ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء.. فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت له: انكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندى طعام نذرته للصدقة، فلما ذكر لى مكانكم رأيتم أحق الناس به فجئتكم به.. ثم وضعته، فقال الرسول لأصحابه: كلوا باسم الله.. وأمسك هو فلم يبسط اليه يدا..فقلت فى نفسي: هذه والله واحدة .. انه لا يأكل الصدقة..!!ثم رجعت وعدت الى الرسول عليه السلام فى الغداة، أحمل طعاما، وقلت له عليه السلام: انى رأيتك لا تأكل الصدقة.. وقد كان عندى شيء أحب أن أكرمك به هدية، ووضعته بين يديه، فقال لأصحابه كلوا باسم الله.. وأكل معهم..قلت لنفسي: هذه والله الثانية.. انه يأكل الهدية! ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته، فوجدته فى البقيع قد تبع جنازة، وحوله أصحابه وعليه شملتلن مؤتزرا بواحدة، مرتديا الأخرى، فسلمت عليه، ثم عدلت لأنظر أعلى ظهره، فعرف أنى أريد ذلك، فألقى بردته عن كاهله، فاذا العلامة بين كتفيه.. خاتم النبوة، كما وصفه لى صاحبي.. فأكببت عليه أقبله وأبكي.. ثم دعانى عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه، وحدثته حديثى كما أحدثكم الآن..ثم أسلمت.. وحال الرق بينى وبين شهود بدر وأحد.. وفى ذات يوم قال الرسول عليه الصلاة والسلام:» كاتب سيدك حتى يعتقك»، فكاتبته، وأمر الرسول أصحابه كى يعونوني. وحرر الله رقبتي، وعشت حرا مسلما، وشهدت مع رسول الله غزوة الخندق، والمشاهد كلها. ويوم الخندق، وقف الأنصار يقولون: سلمان منا.. وقف المهاجرون يقولون بل سلمان منا.. وناداهم الرسول قائلا:» سلمان منا آل البيت» وكان على بن أبى طالب رضى الله عنه يلقبه بلقمان الحكيم سئل عنه بعد موته فقال: (ذاك امرؤ منا والينا أهل البيت.. من لكم بمثل لقمان الحكيم..؟ أوتى العلم الأول، والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرا لا ينزف). لقد عاش سلمان مع الرسول منذ التقى به وآمن معه مسلما حرّا، ومجاهدا وعابدا. وعاش مع خليفته أبى بكر، ثم أمير المؤمنين عمر، ثم الخليفة عثمان حيث لقى ربه أثناء خلافته. وفى الأيام التى كان فيها أميرا على المدائن، لم يتغير من حاله شيء. فقد رفض أن يناله من مكافأة الامارة درهم.. وظل يأكل من عمل الخوص.. ولباسه ليس الا عباءة تنافس ثوبه القديم فى تواضعها.. وفى مرض موته وفى صبيحة اليوم الذى قبض فيه، نادى زوجته:«هلمى خبيّك التى استخبأتك»..!! فجاءت بها، واذا هى صرة مسك، كان قد أصابها يوم فتح «جلولاء» فاحتفظ بها لتكون عطره يوم مماته. ثم دعا بقدح ماء نثر المسك فيه، ثم ماثه بيده، وقال لزوجته:انضجيه حولي.. فانه يحصرنى الآن خلق من خلق الله، لا يأكلون الطعام، وانما يحبون الطيب». فلما فعلت قال لها:» اجفئى على الباب وانزلى».. ففعلت ما أمرها به..وبعد حين صعدت اليه، فاذا روحه المباركة قد فارقت جسده ودنياه. *** ربح البيع أبا يحيى «صهيب الرومى» هو صهيب بن سنان بن مالك ويقال: خالد بن عبد عمرو بن عقيل، ويقال: طفيل بن عامر بن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد بن أسلم بن أوس بن زيد مناة بن النمر بن قاسط النمري، أبو يحيى وأمه من بنى مالك بن عمرو بن تميم، وهو الرومى قيل له ذلك؛ لأن الروم سبوه صغيرًا قال ابن سعد: وكان أبوه وعمه على الأبلة من جهة كسرى، وكانت منازلهم على دجلة من جهة الموصل، فنشأ صهيب بالروم فصار ألكن، ثم اشتراه رجل من كلب فباعه بمكة، فاشتراه عبد الله بن جدعان التميمي، فأعتقه. لقد كان والده حاكم (الأبلة) ووليًّا عليها لكسرى، فهو من العرب الذين نزحوا إلى العراق قبل الإسلام بعهد طويل، وله قصر كبير على شاطئ الفرات، فعاش صهيب طفولة ناعمة سعيدة، إلى أن سبى بهجوم رومي، وقضى طفولته وصدر شبابه فى بلاد الروم، وأخذ لسانهم ولهجتهم، وباعه تجّار الرقيق أخيرًا لعبد الله بن جدعان فى مكة وأعجب سيده الجديد بذكائه ونشاطه وإخلاصه..ونتيجة إعجاب سيده بذكائه ونشاطه وإخلاصه أعتقه وحرره وأخذ يتاجر معه حتى أصبح لديه المال الكثير. يقول عمار بن ياسر : لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم، ورسول الله فيها، فقلت له: ماذا تريد؟ فأجابني: ماذا تريد أنت؟ قلت له: أريد أن أدخل على محمد، فأسمع ما يقول. قال: وأنا أريد ذلك..فدخلنا على رسول الله فعرض علينا الإسلام، فأسلمنا ثم مكثنا على ذلك حتى أمسينا، ثم خرجنا، ونحن مستخفيان فكان إسلامهما بعد بضعة وثلاثين رجلاً.وروى ابن سعد، عن أبى عثمان النهدى ورواه الكلبى فى تفسيره، عن أبى صالح، عن ابن عباس وله طرق أخرى، ورواه ابن عدى من حديث أنس والطبرانى من حديث أم هانئ ومن حديث أبى أمامة عن رسول الله : «السباق أربعة: أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبشة، وسلمان سابق الفرس». أثر الرسول فى تربية صهيب الرومى: عندما همّ الرسول بالهجرة، علم صهيب به، وكان من المفروض أن يكون ثالث الرسول وأبى بكر، ولكن أعاقه الكافرون، فسبقه الرسول وأبو بكر، وحين استطاع الانطلاق فى الصحراء، أدركه قناصة قريش، فصاح فيهم: «يا معشر قريش، لقد علمتم أنى من أرماكم رجل، وأيم الله لا تصلون إلى حتى أرمى بكل سهم معى فى كنانتى ثمّ أضربكم بسيفي، حتى لا يبقى فى يدى منه شيء، فأقدموا إن شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالى وتتركونى وشأني»..فقبل المشركين المال وتركوه قائلين: أتيتنا صعلوكًا فقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت بيننا ما بلغت، والآن تنطلق بنفسك وبمالك. فدلّهم على ماله وانطلق إلى المدينة، فأدرك الرسول فى قباء، ولم يكد يراه الرسول حتى ناداه متهللاً: «ربح البيع أبا يحيى.. ربح البيع أبا يحيى»، فقال: يا رسول الله، ما سبقنى إليك أحدٌ، وما أخبرك إلا جبريل. فنزل فيه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]. - وروى ابن عيينة فى تفسيره وابن سعد من طريق منصور، عن مجاهد أول من أظهر إسلامه سبعة فذكره فيهم، وروى ابن سعد من طريق عمر بن الحكم قال: كان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدرى ما يقول، وكذا صهيب وأبو فائد، وعامر بن فهيرة وقوم، وفيهم نزلت هذه الآية: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} [النحل: 110]. كان صهيبًا جوادًا كريم العطاء، ينفق كل عطائه من بيت المال فى سبيل الله، يعين المحتاج ويغيث المكروب، ويطعم الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا، حتى أثار سخاؤه المفرط انتباه عمر بن الخطاب فقال: «أراك تُطعم كثيرًا حتى أنك تسرف»، فأجابه صهيب: لقد سمعت رسول الله يقول: «خياركم من أطعم الطعام ورد السلام», فذلك الذى يحملنى على أن أطعم الطعام. بعض مواقف صهيب الرومى مع الرسول : يتحدث صهيب عن ولائه للإسلام فيقول: «لم يشهد رسول الله مشهدًا قط، إلا كنت حاضره، ولم يبايع بيعة قط إلا كنت حاضره، ولم يسر سرية قط إلا كنت حاضره، ولا غزا غزاة قط، أول الزمان وآخره، إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله، وما خاف -المسلمون- أمامهم قط، إلا كنت أمامهم، ولا خافوا وراءهم، إلا كنت وراءهم، وما جعلت رسول الله بينى وبين العدو أبدًا حتى لقى ربه».وكان إلى جانب ورعه خفيف الروح، حاضر النكتة، فقد رآه الرسول يأكل رطب، وكان بإحدى عينيه رمد، قال له الرسول ضاحكًا: «أتأكل الرطب وفى عينيك رمد» فأجاب قائلاً: «وأى بأس؟ إنى آكله بعينى الأخرى!!». بعض ما روى صهيب الرومى عن النبي: فعن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن صهيب عن النبى قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم، فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار، قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم «. عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن صهيب قال: قال رسول الله : «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له».. عن ابن عمر عن صهيب قال: مررت برسول الله وهو يصلى فسلمت عليه فرد إلى إشارة وقال: لا أعلم إلا أنه قال إشارة بإصبعه. مات صهيب فى شوال سنة ثمان وثلاثين، وهو ابن سبعين. وكانت وفاته فى المدينةالمنورة. ودفن فيها.