تهل علينا هذه الأيام ذكرى ميلاد النبي الكريم، حيث يحتفل به المسلمون من جميع طوائفهم كل بطريقته، ومن بين تلك الاحتفالات يجب ألا نغفل دور الكاتب توماس كارليل والذي خصص فصلًا في كتابه "الأبطال" لنبي الإسلام محمد «صلى الله عليه وسلم» تحت عنوان (البطل في صورة رسول: محمد الإسلام) والذي ترجمه المعرِّب إلى (محمد المثل الأعلى)، وقد عدَّ فيه فيلسوف الغرب النبي «صلى الله عليه وسلم» واحدًا من أعظم العظماء الذين أنجبهم التاريخ. " كارليل " يعتبر من أكثر المؤلفين المسيحيين الذين شهدوا على طهارة وصدق ونبل أخلاق الرسول محمد، كما أشاد بأخلاقه وحسن تعامله مع المحيطين به، وأكد على حسن نبوءته وأن الإسلام لم ينتشر بحد السيف كما يفتري البعض. كما أنه أراد من وراء كتابه أن يحق به حقا ويبطل باطلا، حيث هاله ما تعرضت له شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم من تجن وظلم، فبحث وتقصى حتى أدرك جانب العظمة ومواطن التقدير والإبهار في ذلك الذي "أدبه ربه فأحسن تأديبه" فعرض لها في موضوعية وحيدة جديرة بالتقدير. تجدر الإشارة هنا إلى أن توماس كارليل كاتب إسكتلندي وناقد ساخر ومؤرخ، وكان لأعماله تأثير كبير بالعصر الفكتوري، وهو من عائلة كالفينية صارمة أملت أن يصبح واعظًا إلا أنه فقد إيمانه بالمسيحية أثناء دراسته بجامعة إدنبرة ومع ذلك بقيت القيم الكالفينية تلازمه طوال حياته. تآلف المسحة الدينية مع فقدان الإيمان بالمسيحية التقليدية جعل أعمال كارليل تبدو جذابة لعديد من الفيكتوريين المناهضين للتغييرات السياسية والعلمية التي هددت نظام الحياة الاجتماعي. وبالعودة ل"كارليل" نجد أنه قال أيضا: لقد أصبح من أكبر العار على كل فرد متمدن من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يدعيه المدعون من أن دين الإسلام كذب وأن محمدًا خداع مزور، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثنى عشر قرنًا لنحو مائتى مليون من الناس أمثالنا، خلقهم الله الذي خلقنا، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائتة الحصر والإحصاء، أكذوبة وخدعة؟ وأكمل قائلا: أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدًا، ولو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج ويصادفان منهم (أي الملايين) هذا التصديق والقبول، فما الناس إلا حمقى مجانين، وما الحياة إلا سخف، وعبث وضلال، كان الأولى بها ألا تخلق!، هل رأيتم قط معشر الناس، أن رجلًا كاذبًا يستطيع أن يوجد دينًا وينشره؟ عجب والله. إن الرجل الكاذب لا يقدر أن يبني بيتًا من الطوب، وعلى ذلك فلسنا نعد محمدًا قط رجلًا كاذبًا متصنعًا يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغيته أو يطمح إلى درجة ملك أو غير ذلك من الحقائر والصغائر، وما الرسالة التي أداها إلا كانت حقًا صريحًا، وما كانت كلمته إلا صوتًا صادقًا صادرًا من العالم المجهول (يعنى الغيب) كلا! ما محمد بالكاذب ولا بالملفق، وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة، فذا هو شهاب قد أضاء العالم أجمع، ذلك أمر الله. ومضى "كارليل" قائلا: ثم علينا ألا ننسى شيئًا آخر، وهو أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يتلق دروسًا عن أستاذ أبدًا، وكانت صناعة الخط حديثة العهد، إذ ذلك، في بلاد العرب، ويظهر لى أن الحقيقة هي أن محمدًا لم يكن يعرف الخط والقراءة، وكل ما تعلمه هو عيشة الصحراء وأحوالها، وكل ما وفق إلى معرفته هو ما أمكنه أن يشاهد بعينيه، ويتلقى بفؤاده من هذا الكون عديم النهاية، وعجيب والله أمية محمد! نعم إنه لم يعرف من العالم ولا من علومه إلا ما تيسر له أن يبصره بنفسه أو يصل إلى سمعه في ظلمات صحراء العرب، وإني لأعرف عنه أنه كان كثير الصمت، يسكت حيث لا موجب للكلام، فإذا نطق فما شئت من لب وفضل وإخلاص وحكمة، لا يتناول عرضًا فيتركه إلا وقد أنار شبهته وكشف ظلمته، وأبان حجته واستنار دفينته، هكذا يكون الكلام وإلا فلا!، وقد رأينا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم قد طوى حياته رجلًا راسخ المبدأ صارم العزم بعيد الهمة كريمًا برًا تقيًا فاضلًا حرًا أبيًا. وأضاف كارليل: أيزعم الكاذبون أن الطمع وحب الدنيا هو الذي أقام محمدًا وآثاره؟ وهذا الزعم حماقة، وأيم الله وسخافة وهوس! أي فائدة لمثل هذا الرجل في جميع بلاد العرب، وفى تاج قيصر وصولجان كسرى، وجميع ما في الأرض من تيجان وصوالج؟، وأين تعبير الممالك والتيجان والدول جميعها بعد حين من الدهر؟ أفي مشيخة مكة وقضيب مفضفض الطرف أو في ملك كسرى؟، كلا! إذن فلنضرب صحفًا عن مذهب الجائرين القائل: (إن محمدًا كاذب) ونعد موافقتهم عارًا وسبة وسخافة وحمقا، فلنربأ بنفوسنا عنه ولنترفع!، ولقد قيل كثيرًا في شأن نشر محمد دينه بالسيف، فإذا جعل الناس ذلك دليلا على كذبه، فشد ما أخطأوا وجاروا! إنهم يقولون ما كان الدين ينتشر لولا السيف، ولكن ما هو الذي أوجد السيف؟ هو قوة هذا الدين وأنه حق. وفى الختام قال كارليل: لقد كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم زاهدًا متقشفًا في مسكنه ومأكله ومشربه وملبسه وسائر أمور حياته وأحواله، وكان طعامه عادة الخبز والماء وربما كان يصلح ويرفو ثوبه بيده، فهل بعد ذلك مكرمة ومفخرة؟ فحبذا محمد من نبي خشن اللباس، خشن الطعام، مجتهد في الليل، قائم النهار، ساهر الليل، دائب في نشر دين الله، غير طامح إلى ما يطمح إليه أصاغر الرجال من رتبة أو دولة أو سلطان، وهو بحق النبى ذو الخلق العظيم.