لم تشغل الناس عموما، وعلى مدى قرون عديدة، شخصية كما حدث لشخصية النبى محمد عليه السلام، ورسالته النبوية التى ظلت وستظل محورا للحوار الكثيف الذى لا يدور بين مفكرين أو ساسة أو مؤسسات، بل يدور ويحتدم بين حضارات وأمم، وعلى مدى القرون التى تلت انبعاثه الكريم، ليكون الشخص المختار من الله لتوصيل رسالته الإلهية إلى البشر والكون على مدى كل الأزمنة البشرية. وربما يكون الدرس النقدى أو الانطباعى عن أعمال ونصوص فكرية وأدبية تناولت شخص النبى محمد عليه السلام قليلا بشكل نسبى، وربما لو كان متوفرا بشكل ما، فمن الطبيعى أن يكون قد غاب عنه شىء وربما أشياء، ونحن نعلم أن الكثيرين من الكتاب والمفكرين انجذبوا لتأمل عبقرية محمد، وعلى رأسهم الكاتب الكبير عباس محمود العقاد فى كتابه الفريد «عبقرية محمد»، وكذلك الدكتور محمد حسين هيكل فى كتابه «حياة محمد»، وكذلك الدكتور طه حسين فى ثلاثيته «على هامش السيرة. وبعيدا عن هؤلاء المفكرين الكبار من الكتاب المصريين والعمالقة، صدر كتاب فى مصر وكان عنوانه الأبطال عام 1930، ومؤلفه هو الكاتب والفيلسوف الإنجليزى توماس كارليل الذى ولد فى أكتوبر عام 1795 فى أسكتلندا، ونقل الكتاب إلى اللغة العربية الكاتب والمترجم الكبير محمد السباعى، وتنطوى فكرة الكتاب على شخصية البطل، عندما يكون شاعرا أو ملكا أو فنانا أو نبيا، وفى تقديمه للكتاب يقول السباعى: وأحسن ما جاء فى ذلك الكتاب فصل عن المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وكان الرسول قبل ذلك هدفا لأقلام كثيرين من الغربيين (ولا سيما أهل القرن الثامن عشر) قرن فولتير أعنى قرن الإلحاد والكفر، يرمونه جهلا وكنودا بقواذع الهجاء وقواذف الذم، قال ريتارد جازييت: فلما كتب كارليل مقالته عن الإسلام ينافح فيها محمد ويناضل دونه لم يبق هجاء أطلق يده فى عرض محمد (عليه السلام) إلا قبضها مجذومة شلّاء، ولا فحاش يدرى ذلك الأديم الأملس وتلك الصحيفة البيضاء بسهام السباب إلا وردت سهامه فى نحره حتى راح شرف النبى فى تلك الديار بفضل الفيلسوف الأكبر صحيح الأديم موفور الجانب، فحق على عصبة الإسلام جميعا أن تشكر لذاك البطل الجليل هذه اليد البيضاء والمنة الغراء، ولعمرهم لو أنهم نصبوا له على كل مئذنة تمثالا وزينوا باسمه جدران المساجد وخطب المنابر لما كانوا فى أداء واجبه إلا مقصرين وعن القيام ببعض حقه عاجزين . وهذا الحديث الذى يسوقه السباعى، لم يكن مبالغا فيه على الإطلاق، إذ كان الإسلام ورموزه يتعرضون بشكل دائم لهجمات تترية غريبة، وجاءت بالفعل كتابة كارليل مخرسة لأفواه كثيرين، وكاسرة لأقلام آخرين، مثلما فعلت مقالة الكاتب الروسى تولستوى عن النبى محمد عند نشرها، ولكى نتبين المدى الذى تركته كتابة كارليل عن النبى عليه السلام، علينا أن نتجول قليلا فى حديقة المقال الذى جعله الفيلسوف فصله الثانى فى كتابه الأبطال ، ويبدأ كارليل مقاله بقوله: ننتقل الآن من تلك العصور الخشنة -عصور الوثنية الشمالية إلى دين آخر فى أمة أخرى- دين الإسلام فى أمة العرب وما هى إلا نقلة بعيدة وبون شاسع بل أى رفعة وارتقاء نراه هنا فى أحوال العالم العامة وأفكاره . ويعتبر هذا الاستهلال فى حد ذاته انتصارا أدبيا وفعليا لسمعة الإسلام ولدوره، فهو الذى نقل العالم كله، وليست أمة العرب وحسب، كما يكتب كارليل، إلى زمن آخر وحياة أخرى، وكان كارليل يكتب وكأنه يرد على افتراءات الغربيين المجحفة، فيقول فى ثنايا مقاله المبدع: لقد أصبح من أكبر العار على أى فرد متمدين من أبناء العصر أن يصغى إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب وأن محمدا خداع مكزور، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة . ويربط كارليل بين الرسالة التى أنزلها الله جل جلاله، وبين متلقيها ومرسلها وهو النبى عليه السلام، والذى يقول عنه فى مستهل كلامه: مثل هذا الرجل هو ما نسميه رجلا أصليا صافى الجوهر كريم العنصر، فهو رسول مبعوث من الأبدية.. ونحن نعلم أن قوله ليس مأخوذًا من رجل غيره ولكنه صادر من لباب حقائق الأشياء، نعم هو يرى باطن كل شىء لا يحجب عنه ذلك باطل الاصطلاحات وكاذب الاعتبارات والعادات والمعتقدات وسخيف الأوهام والآراء، وكيف وأن الحقيقة لتسطع لعينه حتى يكاد يغشى لنورها . ويسترسل الفيلسوف توماس فى الردّ على أبناء جلدته، إذ أن هذا الخطاب كان موجها للغربيين بشكل أساسى فيقول: وعلى ذلك فلسنا نعد محمدا هذا قط رجلا كاذبا متصنعا يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغية أو يطمح إلى درجة ملك أو سلطان أو غير ذلك من الحقائر والصغائر، وما الرسالة التى أداها إلا حق صراح، وما كلمته إلا صوت صادق... كلا ما محمد بالكاذب ولا الملفق وإنما هو قطعة من الحياة تفطر عنها قلب الطبيعة فإذا هى شهاب قد أضاء العالم أجمع ذلك أمر الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وهذه حقيقة تدمغ كل باطل وتدحض حجة القوم الكافرين ، ويسترسل توماس كارليل الكاتب والفيلسوف الكبير، ليردّ على أهله، ويقتل كل افتراءاتهم الكثيرة، وكل التقولات على الإسلام والمسلمين ونبيهم، وكان هذا الردّ البلاغى والواقعى بمثابة الطلقة المدّوية فى العالم الغربى آنذاك، والتى أخرست -كما أسلفنا- معظم الألسنة البذيئة فى ذلك الزمان.