«الشيخ الرئيس»، «أمير الأطباء»، و«أبو الطب الحديث»، هذه الألقاب وغيرها، عُرف بها «ابن سينا»، أول من كتب عن الطب فى العالم، ويشهد كتاباه: «القانون فى الطب» و»الشفاء»، ونحو 450 كتابا أخرى، على نبوغه فى الطب والفلسفة وفنون أخرى كثيرة. اسمُه: أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، وكُنيتُه: «ابن سينا», اشتهر بالطب والفلسفة واشتغل بهما، حتى أطلق عليه الغرب لقب «أبو الطب الحديث». في «بخارى»، بدأ الصبى الصغير «ابن سينا» رحلته فى تلقي العلوم, فحفظ القرآن بأكمله، ولم يكن تجاوز العاشرة من عمره, ثم تلقي علوم الفقه والأدب والفلسفة والطب. برز نبوغ «ابن سينا» منذ صغره, إذ يُحكي أنه قام وهو لم يتجاوز الثامنة عشر عاما، بعلاج السلطان «نوح بن منصور الساماني», ما مكنه من الالتحاق ببلاط السلطان، الذى وضع مكتبته الخاصة تحت تصرفه، فنهل منها جميع صنوف العلم، حتى صار أحد أهم نوابغ المسلمين. التقيتُه فى عالمه، وحاورتُه فى أمور شتى، كان فى صدارتها فكره الفلسفى، فأفاد «ابن سينا»، بأن فكره الفلسفى، يعتبر امتدادا لفكر الفارابي، وقال: «أخذتُ عن الفارابي فلسفته الطبيعية، وفلسفته الإلهية، أي تصوره للموجودات وللوجود، كما أخذتُ عنه نظرية الصدور». قلتُ له: أعلم أن أهميتك الفلسفية تكمن في نظريتك في النفس وأفكارك في فلسفة النفس، وأن مقدماتك في النفس هي مقدمات أرسطية.. لذا دعنا نبدأ بتعريفك ل»النفس»، فأجاب: «النفس.. كمالٌ أولُ، لجسم طبيعي آلي، ذي حياة بالقوة، أي من جهة ما يتولد، وهذا مبدأ القوة المولدة، ويربو، وهذا مبدأ القوة المُنميّة، ويتغذى، وهذا مبدأ القوة الغاذية، وذلك كله ما أسميتُه بالنفس النباتية». قاطعتُه مبتسما: عذرا سيدى، فالتعريف يحتاج إلى تعريف آخر!! فابتسم ابتسامة، أدركت فحواها، ولكنى تغاضيتُ عنها، ثم استطرد: «النفس.. كمالٌ أول، من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة، وهذا ما أسميتُه ب«النفس الحيوانية»، وهي.. كمالٌ أول، من جهة ما يدرك الكليات ويعقل بالاختيار الفكري وهذا ما أسميتُه: النفس الإنسانية»، وعندما أدرك عدم استيعابى لهذا الكلام،أتبعه موضحا: النفس ..ثلاثة، نباتية، حيوانية، وإنسانية، و»كمال أول».. تعني «مبدأ أول»، و«ذي حياة بالقوة».. يعني: «لدينا جسم مستعد وطبيعي لتقبل الحياة»، ومبادئ النفس النباتية: تنمو وتتوالد وتتغذى ولا يفعل النبات أكثر من ذلك، ومبادئ النفس الحيوانية: تدرك الجزئيات، ويتحرك بالإرادة أي: فيه إرادة توجهه، فالأسد بإرادته، يمكنه أن يقفز على إنسان ويبتلعه». أردتُ أن أخرج من هذا المأزق الذى وضعتُ نفسى فيه، فسألتُه سؤالا ظننتُه عشوائيا، إلا أنه جاء هذه المرة موفقا، وهو: من أين أتت النفس؟ ففاجأنى بقوله: «النفس جاءت من محل أرفع، أي من فوق، وأتت رغما عنها وكارهة لذلك، ثم تتصل بالبدن وهي كارهة، لكنها بعد ذلك تألف وجودها بالبدن، وتألف البدن، لأنها نسيت عهودها السابقة، ثم رجعت من حيث أتت وانتهت رحلتها»، فقاطعته: «ولماذا هبطت إذن؟»، فأجابنى: «هبطت لحكمة إلهية، هبطت لا تعلم شيئا، لتعود عالمة بكل حقيقة ولكنها لم تعش في هذا الزمن إلا فترة» ،ثم أنشد: هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع محجوبة عن كل مقلة عارف وهي التي سفرت ولم تتبرقع لم أجد مفرا من الخروج من هذا المأزق الفكرى، الذى لا يحتمله مثلى، سوى بسؤاله عن كتابه الأشهر: «القانون»، فقال «ابن سينا: «هذا الكتاب، جمعتُ فيه ما عرفه الطب القديم، فضلا عما ابتكرتُه من نظريات واكتشفتُه من أمراض، وقد جمعتُ فيه أكثر من سبعمائة وستين عقارا مع أسماء النباتات التي يستحضر منها العقار، كما اشتمل الكتاب على نتائج أبحاثى في أمراض شتى، أهمها: السكتة الدماغية، والشلل العضوي، والشلل الناجم عن إصابة مركز في الدماغ، وعدوى السل الرئوي، وانتقال الأمراض التناسلية، والشذوذ في تصرفات الإنسان، والجهاز الهضمي، والتمييز بين مغص الكلى ومغص المثانة، وكيفية استخراج الحصاة منهما، والتمييز بين التهاب البلورة والتهاب السحايا الحاد والتهاب السحايا الثانوي، كما إننى أول من كشف عن طفيل «الإنكلستوما» وسميتُها «الدودة المستديرة»، وبذلك سبقتُ الإيطالي «دوبيني» بنحو 900 سنة، وأنا أول من وصفتُ الالتهاب السحائي، ووصفتُ السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم، مخالفا بذلك ما استقر عليه أساطين الطب اليوناني القديم، كما كشفتُ لأول مرة عن طرق العدوى لبعض الأمراض المعدية كالجدري والحصبة المجردة». قلتُ: أعلم أنك رغم ما حققته من شهرة عريضة فى مهنة الطب، إلا أنك لم تسع يوما إلى استنزاف مرضاك، مثلما يصنع أطباؤنا الآن، فقاطعنى: «بل كنتُ أعالج مرضاى بالمجان، وكثيرا ما كنتُ أقدم لهم الدواء الذي أعده بنفسي، فرسالة الطبيب هى تخفيف ألم المريض، وليس الإثراء على حسابه». قلتُ: ولعل ذلك وغيره كثيرا، ما خلّد ذكرك الذى طبّق الآفاق، فعقّب قائلا: الحمد لله، قلتُ: هل تعلم ما قيل عنك وعن علمك وفكرك؟ فنهض من جلسته وأمرنى بالنهوض فنهضتُ، ثم طاف بى على أرفف مكتبته الواسعة، التى حشد عليها آلاف المراجع والكتب العلمية والفكرية، ثم أبرز لى بعضا مما كُتب عنه، فها هو البروفسور «جورج سارطون»، يصفه قائلا:» ابن سينا هو أعظم علماء الإسلام ومن أشهر مشاهير العالمين»، أما البروفسور سارطون فكتب: «إن فكر ابن سينا يمثل المثل الأعلى للفلسفة في القرون الوسطى»، ثم تصفح كتاب «الطب العربى» للدكتور خيرالله، حتى توقف عند صفحة مكتوب فيها: «ويصعب علينا في هذا العصر أن نضيف شيئاً جديداً إلي وصف ابن سينا لأعراض حصى المثانة السريرية». لم يرق لى دور المتلقى، فنقلتُ له ما قاله أوبرفيك عنه، عندما امتدحه بقوله: «لقد كانت قيمة ابن سينا قيمة مفكر ملأ عصره... وكان من كبار عظماء الإنسانية على الإطلاق»، كما ذكرتُ له ما قاله «جورج ساتون» عنه: «ابن سينا ظاهرة فكرية عظيمة ربما لا نجد من يساويه في ذكائه أو نشاطه الإنتاجي.. وفكره يمثل المثل الأعلى للفلسفة في القرون الوسطى»، فقاطعنى «ابن سينا» بقوله: ولا تنس ما كتبه «دي بور» عنى: «كان تأثير ابن سينا في الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى عظيم الشأن، واعتبر في المقام كأرسطو»، فقلت: بالطبع، لم أنس، كما لا أنسى ما ذكره «أوبرفيل» عنك، عندما قال: «ابن سينا اشتهر في العصور الوسطى، وتردد اسمه على كل شفة ولسان، ولقد كانت قيمته قيمة مفكر ملأ عصره.. وكان من كبار عظماء الإنسانية على الإطلاق»، ولا ما قاله «هولميارد»: «إن علماء أوربا يصفون «ابن سينا» بأنه أرسطو طاليس العرب، ولا ريب في أنه عالم فاق غيره في علم الطب وعلم طبقات الأرض، وكان من عادته إذا استعصت عليه مسألة علمية أن يذهب إلى المسجد لأداء الصلاة، ثم يعود إلى المسألة بعد الصلاة بادئا من جديد؛ فيوفق في حلها»، ثم استطردت: وأؤكد لك سيدى أن صورتك لا تزال تزين كبرى قاعات كلية الطب بجامعة «باريس» حتى الآن؛ تقديرا لعلمك واعترافا بفضلك وسبْقك.. فارتسمت على وجهه علامات الرضا والامتنان.. قلتُ: أعلم أنك وضعت نحو 200 كتاب فى الطب والفلسفة والجيولوجيا والنبات، فما أقربهم إلى قلبك؟ فابتسم مرددا تعبيرا تقليديا، هو: «كلهم أولادى»، ثم استدرك مؤكدا اعتزازه البالغ بكتاب «القانون»، الذى تحدثنا عنه آنفا، خاصة أنه كان سببا قويا فى ذيوع اسمه فى الغرب، حتى إن «وليم أوسلر» قال عن الكتاب: «إنه كان الإنجيل الطبي لأطول فترة من الزمن، كما ترجمه إلى اللاتينية «جيرارد من كريمونا»، وطُبع نحو 15 مرة في أوربا ما بين عامي (1473م، 1500م) ثم أعيد طبعه نحو عشرين مرة في القرن السادس عشر، وظل المرجع الأساسي للطب في أوربا طوال القرنين الخامس والسادس عشر، حتى بلغت طبعاته في أوربا وحدها أكثر من 40 طبعة، كما ظل الكتاب يُدرَّس في جامعات إيطاليا وفرنسا وبلجيكا حتى أواسط القرن السابع عشر، كان خلالها هو المرجع العلمي الأول بها، وقبل أن أنتقل به إلى محور آخر فى الحديث، فاجأنى بقوله: دعنى أصحح لك معلومة؟ سألته: ما هى؟ فأجاب بكل تواضع: وضعتُ أكثر من 450 كتابا ومؤلفا، ولكن ربما لم يصل إليكم منها سوى 200 فقط، كما لم تقتصر كتاباتى على ما ذكرته أنت آنفا، بل يمتد أيضا إلى الموسيقى وغيرها. قلتُ: أعلم أنك تبنيت منهجا مختلفا فى بحوثك ودراساتك، فهل تحدثنى عنه؟ فاعتدل «ابن سينا» فى جلسته، ثم قال: «نزعتُ إلى الاستقلال في الرأي، والتحرُّر من أي فكرة لا يُؤَدِّي إليها نظرٌ عقلي، ولم أتقيَّد بآراء مَنْ سبقونى، بل كنت أبحث وأدرس وأُعمل العقل والمنطق والخبرة التي اكتسبتُها، فإن أوصلتنى إلى تلك الآراء الصحيحة أخذتُ بها، وإن أوصلتنى إلى غير ذلك نبذتُها وبيَّنتُ فسادها، وبذلك فقد خالفتُ أرسطو وأفلاطون، وغيرهما من فلاسفة اليونان في كثير من الآراء؛ ولم أتقيَّد بها، بل أخذت منها ما ينسجم مع تفكيرى»، قاطعتُه، وأعترف بأننى لم أكن موفقا عندما صنعتُ ذلك، لأسأله عن التجربة وقيمتها فى دراساته، لأنه كان سوف يعرج إليها وحده، فأجاب: «كان للتجربة مكان عظيم ومنزلة سامقة في دراساتى وبحوثى، خاصة الطبية منها، فقد توصَّلتُ عن طريقها إلى ملاحظات دقيقة ونتائج جديدة مبتكرة، في تشخيص الأمراض واكتشاف العلاج وتحضير الأدوية.. كما تعهَّدتُ المرضى؛ فانفتح عليَّ من أبواب العلاجات المقتبسة من التجربة ما لا يُوصف». قلتُ له على طريقة «مفيد فوزى»: دعنى أسألك سؤالا مستفزا، فقال مندهشا: ما هو؟ فقلتُ: هل ألحدت وشككت فى وجود الله، كما اتهمك معاصروك؟ فأجابنى: «هذا سمت الإسلاميين فى كل زمان ومكان، يقذفون بالتهم فى وجوه معارضيهم، وأنا لم ألحد ولم أكفر بالله، بل كنتُ على اتصال دائم به، فكل حُجَّة كنتُ أنظر فيها أُثبت مقدِّمات قياسية، وأُرَتِّبُها في تلك الظهور، ثم أنظر فيما عساها أن تُنْتِج، وراعيتُ شروط مقدِّماته، حتى تحقّق لي حقيقة الحقّ في تلك المسألة، وكلما كنتُ أتحيَّر في مسألة ولم أكن أظفر بالحدِّ الأوسط في قياسٍ تردَّدْتُ إلى الجامع، وصلَّيْتُ وابتهلتُ إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق، وتيسَّر المتعسِّر.. فبالله عليك هل هذه حال ملحد أو كافر؟»، فأجبتُ: بالطبع لا، غفر الله لى ولك. عندما حاولت الانحراف ب«ابن سينا» إلى الإبحار ولو قليلا فى عالم السياسة، رفض رفضا قاطعا، مبررا ذلك بأنه قضى حياته عالما، مفكرا، لا شأن له بالسياسة ولا بأهلها، فتفهمتُ الأمر، غير أنه باغتنى بقوله: انقل عنى هذه الرسالة إلى حاكم مصر وإلى كل حاكم مسلم، وهى: «نصرة الحق شرف، ونصرة الباطل سرف.. وهذا يكفى، فعقّبت: نعم.. ولكن لمن يعى ويفهم! ثم قلتُ: لا ينبغى أن أدع فرصة لقائك دون أن تنصحنى، فبم تنصحنى؟ فتبسم «ابن سينا» ابتسامة وقورة مثله، ثم قال: سوف أنصحك ب3 نصائح مهمة، الأولى: «الوهم نصف الداء، والاطمئنان نصف الدواء، والصبر أول خطوات الشفاء»، والثانية: «احذر البطنة، فإن أكثر العلل إنما تتولد من فضول الطعام»، والثالثة: «العقل البشري قوة من قوى النفس لا يُستهان بها»، قلت: وكيف جاءت النهاية؟ حينئذ.. تنهد «ابن سينا»، ثم أجاب: اعتل جسدى وسكنه المرض، وأنا فى الثامنة والخمسين من عمرى، ولم تفلح كل محاولات العلاج، فعلمتُ أن أجلى قد حان، فتصدقتُ بمالى على الفقراء، وأعتقتُ غلمانى طلبا للمغفرة، وكنتُ أختم القرآن الكريم، كل ثلاثة أيام، حتى قضيتُ نحبى فى شهر يونيو عام 1037م، و دفنتُ، كما ترى، في «همذان». قلتُ: وكيف تقضى وقتك الآن فى عالم الموت؟ فأجاب «ابن سينا»: أحيانا أظل ميتا، وأحيانا أستيقظ أقرأ جديد الكتب العلمية والفلسفية، ومؤخرا تلقيتُ عرضا، لتقديم برنامج طبى، على شاشة إحدى الفضائيات، قاطعتُه: وهل ستوافق؟ فأجاب «أبن سينا»: «لم أحسم أمرى بعدُ».