بعد هزيمة 5 يونيو سنة 7691، والكل ممزق، يسأل: ماذا جرى؟.. ولماذا جرى؟.. وكيف النجاة؟.. أحسست أنه لا سبيل إلى تشخيص الحاضر إلا بدراسة تاريخنا القومى القريب، أو ما يسمى عادة «تاريخ مصر الحديث»، الذي يبدأ رسميًا وفعليا منذ نحو مائتى عام، بدخول مصر لأول مرة في علاقات مباشرة مع الحضارة الأوربية نتيجة لمجىء بونابرت إلى مصر عام 8971، ولقيام دولة محمد على عام 5081.. وقد كان هناك نوع من الاجماع بين المثقفين على أن تواتر الإحباط المصرى - والعربى عامة - في مواجهات أعوام 8491 و6591 و7691، ليس مجرد ظاهرة سياسية أو عسكرية، وانما له جذور حضارية كأمنة في تاريخنا القومى، إذا لم ندركها ونتداركها فلا ضمان لشيء في المستقبل. وهكذا جمعت أوراق المؤرخين وأوراق المفكرين الرواد وتأملتها ثم نشرت على صفحات «أهرام الجمعة» كتابى عن «تاريخ الفكر المصرى الحديث»: من الحملة الفرنسية إلى عصر إسماعيل، وهو من جزءين: جزء عن «الخلفية التاريخية». وجزء عن «الفكر السياسي والاجتماعى». وقد وجدت من العبث أن أبحث في مقومات الفكر المصرى الحديث بين 7691و 3691، إلا بعد استقصاء حقيقة ما حدث في تاريخنا القومى خلال تلك الفترة. ولهذا جاء الجزء الخاص بالخلفية التاريخية أشبه شىء بوصف مصر العثمانية والبونابرتية والعلوية، من حيث نشأة المؤسسات القومية والديمقراطية وتطورها. أما الجزء الخاص بتاريخ الفكر السياسي والاجتماعى، فقد جاء أشبه شىء بوصف عقل مصر من خلال كتابات مفكريها الرواد: الجبرتى وحسن العطار ورفاعة الطهطاوى وأحمد فارس الشدياق. وقد كان واضحا منذ البداية أن من يتصدى لفترة التكوين في تاريخ مصر الحديثة، لا يستطيع أن يتوقف عند فترة التكوين، بل عليه أن يتابع تطور تاريخنا عبر الأجيال حتى يصل إلى أعتاب ثورة 2591. كان واضحا منذ البداية أن هناك ما يشبه الالتزام الأدبى باستكمال ما بدىء بنفس المنهج وعلى نفس القرار، بكتابة جزءين يغطيان الفترة من عصر إسماعيل أي من 3681 حتى ثورة 9191 من حيث الخلفية التاريخية، ومن حيث الفكر السياسي والاجتماعى، ثم بكتابة جزءين آخرين يغطيان الفترة من ثورة 9191 حتى ثورة 2591. أما فترة ثورة 2591 حتى الآن، فلا أحسب أن تدوين تاريخها أو تحليل فكرها من شأن معاصريها، لأنهم أطراف فيها أيا كان موقعهم، وبالتالى فلا ضمان لموضوعية موقعهم، وبالتالى فلا ضمان لموضوعية رؤيتهم لها أو أحكامهم عليها. إنما دورهم مقصور على الادلاء بشهادات الأحياء التي يمكن أن «تنتفع» منها الأجيال القادمة. ولم يكن هذا الشعور الذي تملكنى بضرورة إطالة النظر في تاريخنا القومى الحديث. مجرد شعور فردى، فقد لاحظت أن عديدين من علمائنا وباحثينا قد اتجهوا منذ 7691 إلى نبش تاريخ مصر السابق على ثورة 32 يوليو، بعد أن كان هناك ما يشبه الانصراف العام عن دراسة أي شىء حدث قبل 2591، بل بعد أن كان هناك ما يشبه الإدانة الضمنية والعلنية احيانا لأى شىء حدث قبل 2591. فمنذ 7691 ظهر غير تحقيقات محمد عمارة للأعمال الكاملة للافغانى والكواكبى ومحمد عبده، أبحاث محمد أنيس حول «حريق القاهرة» و«مذكرات مدام دى روشبران» عن جهاد محمد فريد، و«مذكرات للورد كيليرن» عن حادث 4 فبراير، وكتاب رفعت السعيد عن «تاريخ الحركة الاشتراكية في مصر» و«اليسار المصرى»، وكتاب طارق البشرى عن «الحركة السياسية في مصر بين 5491 و2591. وكتاب عبد العظيم رمضان عن «تاريخ الحركة الوطنية المصرية من 9191 إلى 5491، «جزءان»، وكتاب مصطفى النحاس جبر عن «سياسة الاحتلال البريطانى تجاه الحركة الوطنية من 6091 إلى 4191 وكتابه «دراسة في مذكرات سعد زغلول»، وكتاب عبدالخالق لاشين وسعد زغلول ودوره في الحياة السياسية المصرية «جزءان»، وكتاب «سلاح عيسى عن «الثورة العرابية» وكتاب محسن محمد «تاريخ للبيع» وكتاب فتحى رضوان عن إعلام فترة ما بين الحربين العالميتين... إلخ. كل هذا إن دل على شىء فهو أن علماءنا وباحثينا ومفكرينا قد أخذوا منذ 7691 يبحثون عن شىء ضائع في تاريخنا الحديث، أو يفتشون فيه عن معان ضائعة وأيا كانت انحيازاتهم أو مناهجهم أو نتائجهم، فيجب أن ننظر إلى هذا المجهود الجماعى اللا إرادى على أنه جزء لا يتجزأ من محاولة التفتيش في أعمال النفس المصرية، ومحاولة للاجابة على هذه الأسئلة الخطيرة التي استجدت منذ 7691، وهى: ماذا جرى؟ ولماذا جرى؟ وكيف النجاة؟ وقد أتيح لى خلال العام الماضى أن اتفرغ فنسيت كل شىء، وأقبلت على اتمام حلقة جديدة من كتابى عن «تاريخ الفكر المصرى الحديث» بتغطية الخلفية التاريخية للفترة الواقعة بين الخديو إسماعيل وثورة 9191، أملا أن يتاح لى في أجل قريب أن أتدارس مع قرائى أثار على مبارك وجمال الدين الأفغانى ومحمد عبده ويعقوب صنوع وعبدالله النديم وأديب إسحاق وسليم نقاش وقاسم أمين وفتحى زغلول والكواكبى ورشيد رضا وولى الدين يكن وشمبلى شميل وأحمد لطفى السيد والمويلحي وغيرهم من قادة الفكر الذين تبلور فيهم الفكر المصرى من 3681 إلى 9191، وبهذا أكون قد رصدت الفكر السياسي والاجتماعى في هذه الفترة الخطيرة من تاريخ البلاد. وقبل أن يكتب «تاريخ الفكر» يجب أن يكتب تاريخ الناس الذين نبع فيهم هذا الفكر، لا اقصد تاريخ المفكرين الأفراد، ولكن أقصد تاريخ المجتمع المصرى، فبرغم كل ما نعرفه عن سطوة الفكر والفلسفات في توجيه مسار التاريخ، تبقى حقيقة واحدة ثابتة وهى أن فكر الإنسان وفلسفاته ليست إلا تعبيرًا عن حركة التاريخ وأداة المجتمع في التغيير عن متناقضاته وعن غاياته، ومن هنا فأنا لم أكتب تاريخ مصر الحديث ولا تاريخ ملوك مصر الحديثة كما يفعل المؤرخون عادة، وانما كتبت تاريخ المجتمع المصرى وكتبت عن عوامل البناء والهدم فيه، فالكتاب إذن كتاب تأريخ ولكنه تأريخ قضايا وظواهر وعوامل وليس تأريخ أشخاص. وقد كانت أكبر عقبتين اعترضتا طريقى هما عبدالرحمن الرافعى واللورد كرومر فكل منهما كتب عن مصر كتابا شامخا ترك بصماته على أجيال وأجيال، وكل منهما له رؤية خاصة أشبه بمرايا اللونابارك المقعرة والمحدبة ومع ذلك فكل منهما شاهد شهادته تستحق الاصغاء اليها مهما تكن غير ملزمة للمؤرخ الموضوعى فمن يقرأ الرافعى يحس بأن مصر الحديثة لم تلد عبر المائتى سنة الأخيرة غير ثلاثة رجال هم: عمرمكرم في عصر بونابرت، ومحمد على، ومصطفى كامل. ومحمد فريد في عصر عباس الثاني، وكل من عدا هؤلاء مجرح في وطنيته أو في شرفه أو في نزاهته، حتى شريف باشا رغم تمجيده اياه، كان فارسا شيخا يدافع عن قضية كريهة هي قضية الدستور والحكم النيابى اللذين جرا الخراب على البلاد،ولولا الحياء لخرج توفيق الخائن من صفحات الرافعي، كما خرج من صفحات مصر الحديثة، للورد كرومر بطلا قوميا. وفى تاريخ الحركة القومية من عصر إسماعيل إلى ثورة 9191، كتب الرافعى خمسة مجلدات هي: عصر إسماعيل «جزءان» والثورة العرابية والاحتلال البريطانى ومصطفى كامل، ومحمد فريد وقد كانت هذه المجلدات الخمسة مدرسة عظيمة في الوطنية تخرج عليها الآلاف من شباب مصر الوطنى لأنها تفيض بالحقيقة الصادقة وتنبض بالوطنية كانت أيضا مدرسة سيئة في التشكيك الوطنى لم تترك مجاهدا من أي فلسفة غير فلسفة الرافعى إلا وجرحته وشوهته ومسخته وقرأت في فكره أو نواياه أو سلوكه ما يجلب العار على المجاهدين. ذلك أن عبدالرحمن الرافعى كان يكتب تاريخ مصر الحديثة من وجهة نظر الحزب الوطنى الذي كان ينتمى إليه شخصيًا ويجاهد في طليعته جهادا شريفا منذ الحرب العالمية الأولى، ولنقل أن الرافعى لم يكتب تاريخ الحركة القومية المصرية وإنما كتب تاريخ الحزب الوطني، والخط مستقيم من عمر مكرم إلى محمد فريد عبر أكثر من مائة عام. لقد كان شرطا من شروط الوطنية المصرية ومقياسا عند الرافعى الولاء لمصر تحت سلطة العرش وداخل الإطار العثمانى الكبير، وكل ما خرج عن هذا يستحق منه نظرة شزراء، فلم يكن مصادفة إذن أن يلتقى الرافعى مع اللورد كرومر في تقييمه لشخصية الخديو توفيق ودوره في تاريخ مصر، رغم أن الرجلين كانا على طرفى نقيض. أما اللورد كرومر فهو الوجه الآخر من المشكلة، ومثله السير اوكلاند كولثن واللورد زيتلاند وجمهرة الانجليز الذين كتبوا عن تاريخ مصر تحت حكم إسماعيل وتوفيق وعباس الثانى هو أيضا مثل الرافعى، في الطرف المقابل لم يكتب تاريخا فقط وإنما كتب شهادته كذلك، لأنه كان مثل الرافعى طرفا من أطراف الصراع في الناحية الأخري، ماذا نفعل بكتابيه «مصر الحديثة» و«عباس الثاني» نقبل ما فيهما من تاريخ ونرفض ما فيهما من شهادة، وهذا ما ينبغى أن نفعله مع الرافعي ومشكلة الشاهد أنه «أحد ممن رأوا وأنه ليس الشاهد الوحيد» ليس في التاريخ، ولا في الحياة، شاهد وحيد، والمؤرخ لايبرئ أو يدين بناء على شهادة شاهد وحيد.