هذا هو المغزي العميق للكتاب الرائع الذي قدمته لنا الزميلة الصحفية الباحثة القديرة عايدة العزب موسي، بعد ثورة 52 يناير. عنوان الكتاب »031 عاما علي الثورة العرابية«. وهو، كما توضح، ليس تأريخا للثورة العرابية، ففي ذلك كتب الكثير. وإنما هو تتبع لمسار ثورات الشعب المصري عبر هذه ال031 عاما، والخصائص المميزة لها، في العصر الحديث. أول خاصية هي علاقة شعب مصر بجيشها. فالثورة العرابية بدأت بتحرك للقيادات الوطنية للجيش، والتف حولها الشعب. وثورة 9191، ناصر الشعب قيادته المدنية في مواجهة جيش الاحتلال البريطاني، ولم يتحالف جيش مصر مع جيش الاحتلال، وإنما ساعدت عناصره الثورة، لأن قيادته كانت بيد المحتل. وفي ثورة يوليو 2591، قام ضباط الجيش من متوسطي وصغار الرتب بحركتهم، وفورا التف الشعب حولهم مساندا لتتحول الحركة إلي ثورة. وفي ثورة 52 يناير التي بدأها شباب مصر واجتمع حولها الشعب، ومبكرا، وقبل أن تستبين الأمور، ونزول الجيش بأمر الرئيس السابق، وهو القائد الأعلي للقوات المسلحة، نزل الجيش، وأعلنت قيادته انحيازها للشعب، ورفضها استخدام القوة لأن الجيش هو جيش الشعب، فسقط رأس النظام، ونجحت الثورة. الخاصية الثانية، التي تذكرنا بها عايدة العزب موسي في كتابها التوثيقي هي ثبات واستمرار أهداف ثورات المصريين، بداية من حوار أحمد عرابي مع الخديو توفيق: توجه أحمد عرابي إلي ميدان عابدين رافعا سيفه وخلفه ثلاثون ضابطا هم أمراء جميع آليات الجيش في القاهرة، وبعدهم أربعة آلاف جندي، تحيط بهم الجماهير تملأ الميدان وما حوله. نظر الخديو توفيق إلي الحشد مذهولا، ونزل إلي الميدان ومعه المراقب المالي البريطاني، الذي طلب منه أن يطلق عليه الرصاص لكن الخديو رفض خشية هجوم المحتشدين والفتك به. نادي الخديو علي عرابي، فتقدم منه. سأله: لماذا جئت بالجيش؟.. رد: جئنا يا مولاي لنعرض عليك مطالب الجيش والأمة كلها. عزل حكومة رياض باشا المعادية والدستور ومجلس النواب وزيادة تعداد الجيش إلي 81 ألفا. استنكر الخديو طلبات عرابي، ورد عليه: أنا ورثت هذه البلاد عن آبائي وأجدادي وما أنتم إلا عبيد احساناتنا. فتحداه عرابي قائلا: »الله خلقنا أحرارا، ولم يخلقنا تراثا أو عقارا.. فوالله الذي لا إله إلا هو أننا لن نورث بعد اليوم«. انها نفس شعارات وأهداف ثورة 52 يناير: عيش. حرية. عدالة اجتماعية. كرامة إنسانية. لقد اضطر الخديو توفيق للرضوخ، فأقال حكومة رياض باشا، واستبدلها بأخري برئاسة محمد شريف باشا، ووعد بتنفيذ بقية المطالب.. كما اضطر الرئيس حسني مبارك للرحيل. وتسجل عايدة كيف فرح الشعب عندئذ، كما عمت الفرحة ميدان التحرير. الخاصية الثالثة التي توثفها عايدة في ثورات المصريين، هي الأسلوب الحضاري الذي يطبع سلوك المصريين. فكما بهر العالم بثورة 52 يناير، بسلميتها، بوحدة شعبها الوطنية، مدنيين وجيش، مسلمين ومسيحيين، شبابا وشيبا، رجالا ونساء، وقال زعماء العالم فيها قصائد شعر.. حدث نفس الشيء في الثورة العرابية قبل 031 عاما. يقول زعيمها أحمد عرابي باشا: لقد ذهبنا بقواتنا إلي عابدين مسالمين، في هيئة عرض عسكري، جنودنا بدون ذخيرة. ويصف مستر »بلنت« وقفة عابدين وأثرها في المصريين والأجانب: »سرت في مصر رنة فرح لم يسمع بمثلها علي ضفاف النيل منذ قرون، فكان الناس في شوارع القاهرة، حتي الغرباء يستوقف بعضهم البعض يتعانقون مستبشرين بعهد الحرية العظيم. وسرت هذه الروح السعيدة إلي كل الطبقات من المسلمين والمسيحيين واليهود، وشملت رجالا من كل جنس ومنهم عدد غير قليل من الأوروبيين الذين اشتدت صلتهم بالحياة المصرية«. ويضم الكتاب التوثيقي نصوص مقالات لشخصيات ثورية كخطيب الثورة عبدالله النديم والمصلحين كالإمام محمد عبده وتلميذيه النجيبين مصطفي وعلي عبدالرازق ومحمد حسين هيكل ومحمود عزمي وعبدالرحمن الرافعي، مما يشكل تتبعا لفكر المعاصرين للثورة العرابية والذين حضروا لثورة 9191. وتسجل عايدة العزب موسي، بحسها الوطني العميق، أنه من الضروري الاحتفاء بثوارنا وشهدائنا ومفكرينا بصورة لائقة. وفي مفارقة لافتة تذكر أن حكومة سري لانكا التي نفي فيها عرابي ورفاقه، قررت عام 3891 بمناسبة مرور مائة عام علي الثورة بتحويل أول بيت نزل فيه عرابي إلي متحف تخليدا لذكراه..! وتنهي عايدة كتابها القيم بنفس الشعار الذي يرفعه الثوار اليوم: »إلا أن النصر.. بالاستمرار«.