في يوم الجمعة 5 أكتوبر 3791 كان قراء جريدة الأهرام على موعد مع المقال الأسبوعى للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، وكان هيكل قد بدأ سلسلة مقالات قبل هذا التاريخ للتحليل السياسي للعالم في ذلك الوقت، ولكنه قطع هذه المقالات للكتابة في الذكرى الثالثة لرحيل الزعيم جمال عبدالناصر، ثم عاد مرة أخرى لسياق تحليله للسياسة الخارجية لمصر في هذا الوقت بمقاله الذي نقدمه اليوم للقارئ كما كتبه أول مرة، لاحظ أن هيكل في هذا الوقت كان يعرف ميعاد الحرب وتوقيتها وكان قد كتب التوجيه الإستراتيجي من الرئيس السادات إلى القوات المسلحة، ولكن بالطبع لم يظهر أثر لأى من ذلك في هذا المقال. قد يكون ضروريا - وربما مفيدًا - أن أعيد تركيز بعض ما كنت أتكلم فيه وابتعدت عنه لألحق بموكب الذكرى الثالثة لرحيل جمال عبدالناصر. كنت قد استعرت عبارة شهيرة عن زعيم الصين «ماوتسى تونج» يقول فيها: «احملوا السلاح دفاعًا عن حدودكم، وتأملوا في نفس الوقت أحوال العالم وراء هذه الحدود... وافهموا». وعلى ضوء ما تنادى به هذه العبارة الشهيرة فقد حاولت تحليل الموقف على القمة العالمية اليوم وخلصت إلى ما يلى: 1- هناك حالة وفاق بين القوتين الأعظم «الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتى» 2- هناك تعارض تاريخى بين القوتين الأعظم بحكم المصالح والمبادئ وهذا التعارض يخضع لقانون التاريخ: الصراع والحركة والتغيير. 3- إن ما تغير بالوفاق بين القوتين الأعظم هو مجال وأسلوب التعارض بين الإثنين فلم يعد المجال هو علاقاتهما المباشرة، ولم يعد الأسلوب هو احتمال الحرب أو التلويح بها من قريب أو بعيد، لأنها بينمها أصبحت مستحيلة تماما ولو في المستقبل المرئى على أقل تقدير. وترتيبًا على ذلك فلقد حاولت البحث عن مجالات التعارض الجديدة بين القوتين الأعظم ووصلت إلى أن هناك فيما نرى اليوم وغدا مجالين: أولهما: أوربا الغربية: وهى بؤرة الاهتمام الأولى في سياسة الاتحاد السوفييتى في الظروف الراهنة. والثانية: الشرق الأوسط: وهى بؤرة الاهتمام الأولى في سياسة الولاياتالمتحدةالأمريكية في الظروف الراهنة. ثم خطوت بعد ذلك خطوة في البحث عن هدف الاتحاد السوفييتى في أوربا الغربية وكان تقديرى في النهاية هو أن الاتحاد السوفييتى يريد «فنلندة» أوربا الغربية أي فرض نوع من الحياد السلبى عليها يقبع راضيًا في ظلال القوة السوفييتية الهائلة ويمارس تحت هذا التأثير وفي حدوده، حركته وحريته بما يمكن أن يعنيه ذلك في مثل تلك الظروف. وأريد أن أضيف اليوم أنه ليس معنى ذلك أن اهتمام الاتحاد السوفييتى بالشرق الأوسط قليل، وانما معناه أن اهتمام الاتحاد السوفييتى بأوربا الغربية أكثر. وربما كان السبب أن الاتحاد السوفييتى، رغم كونه إحدى القوتين الأعظم فإنه على وجه اليقين ليس قوة إمبريالية.. أي أن استراتيجيته بالدرجة الأولى - ومن وجهة النظر العسكرية - إستراتيجية دفاعية، وهذا يجعله حساسًا بالنسبة لاعتبارات أمنه. والمداخل القاتلة إلى قلب الاتحاد السوفييتى هي على طرق الاقتراب من أوربا الغربية والوسطى، وليست من الشرق الأوسط. وبلا شك فإن الاتحاد السوفييتى له إستراتيجية هجومية، ولكن هذه الإستراتيجية الهجومية سياسية وعقائدية بالدرجة الأولى، وليست عسكرية: - وإستراتيجية الأمن والدفاع عن النفس عادة ذات طابع فورى وملح. - وإستراتيجية التأثير السياسي والعقائدى عادة ممتدة، تنضج بالوقت وليس هناك داع لاستعجالها خصوصا إذا كان من شأن ذلك أن يؤدى إلى محاذير في العلاقات مع القوة الأعظم الأخرى - الولاياتالمتحدة - التي تعتبر الشرق الأوسط بؤرة اهتمامها الأولى، دون تقليل من أهمية أوربا الغربية بالنسبة لها لأنها من ناحية تعتبر صلات أوربا الغربية بها وثيقة، ثم هي من ناحية ثانية تعتبر أن أوربا الغربية قادرة بطاقاتها المادية والحضارية على الوقوف لو أنها حزمت أمرها وتحملت مسئوليات أكثر في الدفاع عن نفسها. وقد أضيف اليوم أيضا أن هناك ظواهر محددة تشير إلى أن الشرق الأوسط ضمن مجالات التعارض بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتى - لا يأخذ أولوية في الاهتمامات السوفيتية، وليس ذلك لوما له أو حتى عتابًا، لأنى أحد الذين يؤمنون بأنه لا مجال لمثل ذلك في العلاقات الدولية، فالعلاقات الدولية ليست أمانى وعواطف، ولكنها مصالح وموازين. وتلفت نظرى في هذا الصدد ثلاث ظواهر محددة: 1- إننا ارتكبنا نصيبا من الاخطاء في حق العلاقات العربية - السوفييتية، ولكنه من الإنصاف للحقيقة أن نقول إن الاتحاد السوفييتى كان في وسعه - لو أن ذلك كان متفقا مع المصالح والموازين التي تعنيه بالدرجة الأولى - أن يساعد العرب بأكثر مما ساعدهم. إن التجارب الراهنة في العالم تقول لنا إنه ليست هناك واحدة من القوتين الأعظم يصعب عليها - إذا أرادت - أن تحول صديقا لها أو حليفا إلى قوة عسكرية لها شأنها. - الولاياتالمتحدة فعلت ذلك مع إسرائيل، وفعلته مع كوريا الجنوبية، وفعلته مع فيتنام الجنوبية.. بل وفعلته مع المارشال شيانج كاى شيك في تايوان. - الاتحاد السوفييتى فعل ذلك مع كوريا الشمالية، وفعله مع فيتنام الشمالية.. بل وفعله مع الهند وهى ليست دولة شيوعية. 2- إن مسألة هجرة اليهود السوفييت إلى إسرائيل، ظاهرة أخرى تلفت النظر، وأريد أن أقول وبمنتهى الإنصاف أننى أفهم بعض ظروف الاتحاد السوفييتى في السماح بالهجرة: - فهو يتعرض لحملة تشهير مروعة سببها صداقته مع العرب. - ثم هو لا يستطيع أن يرغم أحدًا على البقاء فيه رغم إرادته. - ثم إن في مقدروه أن يقول للائميه من العرب: «لقد بلغ عدد اليهود الذين هاجروا من يهود البلاد العربية إلى إسرائيل قرابة نصف المليون وأما عدد المهاجرين من يهود الاتحاد السوفييتى إلى إسرائيل فلم يصل حتى الآن إلى مائة ألف». 3- ظاهرة أخرى تلفت النظر وهى صفقات السلاح الهائلة التي عقدتها الولاياتالمتحدةالأمريكية مع إيران، وقد يبدو لأول وهلة أن ذلك أمر لا علاقة للاتحاد السوفيتى به، ولكن أي متتبع لقواعد اللعبة الدولية في العصر الحديث ومصالحه وموازينه، يدرك أنه ليس في استطاعة إحدى القوتين الأعظم أن تساعد على وجود مثل هذا الحشد الهائل من السلاح في بلد متاخم لحدود القوة الأعظم الثانية دون موافقتها أو دون لستئذانها. وموضوع تسليح إيران ليس هو موضوع بحثى اليوم فهو قضية أخرى متشبعة ومتداخلة ولكن النقطة التي تعنينى اليوم هي: أن الاتحاد السوفيتى - وهذه حقيقة من حقائق ممارسة القوة في العصر الحديث لا تقبل المناقشة - استؤذن في حجم ونوع التسليح الإيرانى، وقد أعطى موافقته لأن هذا التسليح يتم تنفيذه بالفعل، ودوافع إيران إلى هذا الحجم والنوع من التسليح يمكن فهمها، ودوافع الولاياتالمتحدة إلى المساعدة عليه يمكن فهمها، وأما السؤال الذي لا يجد إجابة واضحة حتى الآن هو: لماذا وافق الاتحاد السوفييتى ولماذا أعطى الإذن؟! إن هذه الظواهر كلها - إلى جانب ما سبق لى شرحه - تشير إلى أن الاتحاد السوفييتى يعطى الأولوية التي لا تقبل شكا لأوربا الغربية «وفنلدتها» وأما الشرق الأوسط فإنه يجىء في ترتيب يلى ذلك ويلحق به. وهنا أصل إلى النقطة التي أقصدها في حديث اليوم وهى الأولوية المطلقة التي تعطيها الولاياتالمتحدة الآن للشرق الأوسط وكونه بؤرة الاهتمام الرئيسية في استراتيجيتها الآن خصوصا بعد حل مشكلة فيتنام وبعد الوفاق مع موسكو وبعد الدق على أبواب بكين. لقد اتفقنا على أن الاتحاد السوفييتى يعطى الأولوية الأولى لأوربا الغربية لأنه يريد «فنلدتها» وذلك لا يعنى أن اهتمامه بالشرق الأوسط قليل فذلك مستحيل بالنسبة إلى كل ظروف وخصائص المنطقة، ثم أننا اتفقنا على أن الولاياتالمتحدة تعطى الأولوية للشرق الأوسط..وعلينا الآن أن نبحث عن مقاصدها الكبرى فيه وعن وسائلها لتحقيق هذه المقاصد في ظل الأوضاع الراهنة. وما تريده الولاياتالمتحدة - أي مقاصدها الكبرى في الشرق الأوسط - لم يتغير ويمكن تلخيصه فيما يلى: 1- السيطرة الإستراتيجية على المنطقة. 2- استمرار الحصول على ثرواتها وبالذات من البترول. 3- المحافظة على وجود وأمن إسرائيل لأسباب سياسية معنوية ترجع إلى تداخل إسرائيل بعمق في الحياة الأمريكية، وأسباب سياسية عملية ترجع إلى أن إسرائيل أثبتت نفسها كأداة ردع في يد السياسة الأمريكية في المنطقة. إذا كانت هذه هي المقاصد فما هي الوسائل التي تستعملها الولاياتالمتحدة في ظل الأوضاع الراهنة؟ إن المقاصد الكبرى هي الإستراتيجية العليا للولايات المتحدة في هذه المنطقة، والوسائل هي الإستراتيجية الأمريكية في هذه المنطقة وإذن فإن سؤالنا يصبح الآن هو: ما هي إستراتيجية الولاياتالمتحدة في هذه المنطقة وفى هذه الظروف الراهنة؟ - وهنا نجد أمامنا خطوطا إستراتيجية متعددة متوازية أحيانا متداخلة في أحيان أخرى ولكنها جميعا في نفس الاتجاه. - الخط الأول هو: إخراج الاتحاد السوفييتى من المنطقة العربية كطرف مباشر في علاقاته معها. - الخط الثانى وهو متصل بالخط الأول هو: إخراج السلاح السوفييتى من المنطقة. ولقد كان دخول السلاح السوفييتى إلى المنطقة هو بداية الدور السياسي السوفييتى النشط فيها، ويمكن أن يكون خروج السلاح السوفييتى هو نهاية الدور السياسي السوفيتى النشيط فيها. وكانت الحملة الأمريكية ضد السلاح السوفييتى ضارية، ومن سوء الحظ مرة أخرى أن الطرفين العربى والسوفييتى شاركا بنصيب في النجاح الجزئى الذي أصابته هذه الحملة حتى الآن. - الخط الثالث للإستراتيجية الأمريكية هو: تعميق التناقضات الإقليمية في المنطقة وإضافة تناقضات جديدة إلى ما هو موجود منها فعلا. لقد جرى مثلا تعميق التناقض العربى الإسرائيلى، فإن التأييد الأمريكى لإسرائيل جعل مشكلة إسرائيل أكبر من مشكلة فلسطين. لم تعد الأزمة في الشرق الأوسط - كما كانت قبل 5 يونيو 7691 - هي حقوق شعب فلسطين وإنما اصبحت الأزمة هي تراب الشعب المصرى وتراب الشعب السورى والخطر الاسرائيلى على كل تراب عربى. - الخط الرابع للإستراتيجية الأمريكية هو: إرهاق وانهاك القوى الوطنية التي تصدت للولايات المتحدة في مرحلة المد الثورى لحركة القومية العربية في السنوات المجيدة ما بين 5591 إلى 6691. إن عدوان سنة 7691 كان موجها أصلا لإصابة هذه القوى بأعمق الجراح، واستمرار العدوان سنة بعد سنة مقصود منه أن تبقى هذه الجراح العميقة نزيفا مستمرا ثم هي جراح مفتوحة قابلة للتلوث بالعفن. - الخط الخامس للإستراتيجية الأمريكية هو: الإمساك بموارد الطاقة في المنطقة بأسلوب شديد البراعة والخبث. إن الولاياتالمتحدة أول من يشعر بأزمة الطاقة، ولكن الغريب في نفس الوقت أن الولاياتالمتحدة هي أول من يبالغ في أزمة الطاقة. أزمة الطاقة موجودة، ومفاتيحها في يد العرب، والولاياتالمتحدة لا تكل من الحديث عنها، وهى لا تمل من الإشارة إلى مفاتيحها. - الخط السادس للإستراتيجية الأمريكية هو السيطرة على السيولة العربية الفادحة. إن الأرقام تتفاوت في تقديرات الدخول والودائع العربية السائلة. كانت الدخول العربية السائلة من البترول قبل سنوات شيئًا قليلًا بنسبة ما هي عليه الآن، وشيئًا لا يقارن بما ستكون عليه في المستقبل المنظور. كان دخل المملكة العربية السعودية مثلا سنة 7691 في حدود 3 بلايين دولار في السنة. دخل المملكة العربية السعودية هذه السنة 3791 - 9 بلايين دولار في السنة. والسيطرة على السيولة لها وسائل: - الخصم منها بتخفيض الدولار مثلا وليتحمل الآخرون تكاليف الحماقات الأمريكية. - الرهن عليها بالاستثمار في الولاياتالمتحدة. - أكثر من ذلك محاولة مصادرتها تقريبا بنظم نقدية تضع قيودًا على حركتها تحت دعاوى تأمين نظام النقد العالمى. - الخط السابع للإستراتيجية الأمريكية وهو الخط الثانى من خطوطها هو: ضمان التفوق العسكري لإسرائيل. إذا لم ينجح ما سبق كله.. فإن العصا الإسرائيلية الغليظة موجودة وهى قادرة على أن تهوى فوق أي رأس يريد أن يرتفع. كانت تلك - ولا تزال - هي المقاصد الثلاثة للإستراتيجية العليا للولايات المتحدة في المنطقة. وكانت هذه - ولا تزال - هي الوسائل السبع للإستراتيجية الأمريكية في المنطقة في الأوضاع الراهنة! ولقد تحدثنا من قبل عن هموم أوربا وهذه اليوم هي المخاطر على الشرق الأوسط.