ثقافة السمع هى من تصنع سلطة حاملى توكيل الفتاوى، هؤلاء هم الذين يبنون الجدران العالية بين الفرد والحياة، بين العقل والواقع.. كأن مهمة العقل الوحيدة تثبيت سلطتهم. هذا ما لا يحب أن يسمعه فتوات يقتحمون الحياة الآن بفتاوى تكفير تحمل فى طياتها اتهاما بأن كل ما عشناه لم يكن سوى «خروج عن شرع الله». الناس تصدق، أو تشعر بالذنب وتفسر خراب حياتها بالابتعاد عن الله، لا فى سيطرة رأسمال فاسد وسياسات تصنع الفقر وتصيب الأغنياء بالتخمة. هل الاعتراض على سلطة هؤلاء الفتوات ضد الدين؟ هل لا أكون متدينا إلا إذا رضخت وسمعت إلى شخص مثل شومان أو الشحات أو يعقوب أو غيرهم؟ نصر أبو زيد له كلام مهم، عثرت عليه فى أوراقى عن ندوة الجمعية الفلسفية (الإسكندرية 2004). (هذه أيضا صياغات وليست نصوصا): 1- الدين عنصر مؤسس من عناصر النهضة. لكنه ليس شرط النهضة. ولا يمكن لأى مشروع نهضة أن يتجاهل الدين. 2- لكن يظل السؤال: أى دين؟ بمعنى أى فهم للدين؟ هل هو الدين الذى صنعته المؤسسات وتطور من الإيمان إلى العقائد إلى الدوجما (أو الدائرة المغلقة التى لا تحتمل التفكير)؟! 3- هل هو الدين الرسمى أم الدين الشعبى؟ هل الدين الشعبى كفر؟ محمد عبده ورشيد رضا قالا إن الفلاحين الذين يتبركون بالأولياء ويزورون الأضرحة هم عبدة أوثان.. هل هم كذلك فعلا أم أننا أمام تأويل اجتماعى للدين؟ ففى العصر الذى لم يكن الفلاح يستطيع الكلام مع العمدة مباشرة، ويحتاج إلى وسيط بالتأكيد فإنه يحتاج إلى وسيط بينه وبين الله؟ 4- نحن مهمتنا ليس الحكم على عقيدة أحد. بل الفهم. أو السؤال عن كيف تطور إنتاج المعنى؟ 5- نحن جميعا نتصارع حول المعنى. 6- المعرفة مشاركة وحوار ونقد، لكن هناك من يدعى سلطة معرفية، ويتصورون أننا نصارعهم عليها. وهذا ليس صحيحا، فنحن لسنا طلاب سلطة. نحن طلاب معرفة. 7- المؤسسات تختزل الدين فى الحلال والحرام، لكن الدين معطى ثقافى حى وفاعل. 8- التراث عنصر أصيل من عناصر النهضة. لا أحصر التراث الدينى فى الإسلام وحده. هناك تراث من المسيحية واليهودية. دخل فى تراث الإسلام. 9- المرعب هو استخدام الدولة للفكر فى مشروعها. فتكون الدولة علمانية، وهى تحارب الإرهاب. ودينية وهى تحارب المعارضة العلمانية، وإرهابية وهى تحجب الحركات الإسلامية. قبل هذه النقطة الأخيرة حكى نصر أبو زيد عن إعلان استوقفه فى محطات المترو فى باريس. فى مركز الإعلان غلاف كبير لكتاب «نقد العقل المحض» أشهر كتب الفيلسوف الفرنسى كانط. الإعلان كان عن لبن أطفال والإشارة إلى أنه إذا شرب طفلك هذا النوع من اللبن سيستطيع أن يقرأ فلسفة كانط. يقول نصر: المعلن عن السلعة يعمل دائما على الأشياء المعروفة.. وهذا معناه أن الفيلسوف كانط معروف عند غالبية الفرنسيين.. وهذا يفسر أيضا أن كل إعلاناتنا تعتمد على راقصات، باعتبار أن هذا ما نعرفه.. سأسأل هنا كم شخصا يعرف طه حسين فى مصر؟ هذا يفتح الطريق أمام مجموعة إشارات أخرى: 1- أكره كلمة التنوير. لا أحب استخدامها، ولا استخدام نقيضها «الظلاميين». هذه التوصيفات تذكرنى بمحاولة الدولة فى استخدام المثقفين فى معركة ضد الإرهاب. قلت للمسؤول وقتها: كيف تتحدثون عن التنوير والشرطة توقفنى على باب الجامعة، وتطلب منى بطاقة الدخول؟ وفى كل مكان أجهزة السلطة تطاردنا. هل يحدث تنوير برغبة هذه الدولة أم أن المفروض أن يتحول المثقف إلى موظف عند الدولة؟ 2- المثقف عندما يتحول إلى موظف يفقد دوره. 3- هل فكر أحد: كيف تتحول النصوص إلى نصوص مقدسة؟! بمعنى آخر لماذا يعتبر البعض أن أشكال القصاص مقدسة. على الرغم من أن أشكال مثل الرجم أو الجلد كانت موجودة قبل القرآن. أى أنه تبناها. ونحن اليوم نعتبرها مقدسة. أى أننا نهتم بالشكل، ونعتبره صالحا لكل مكان وزمان. والسؤال هنا: هل نهتم بالعدل أم بتحقيق العدل؟ 4- هنا يبدو الصراع على العامة. وأنا حين قدمت أعمالى للترقية لم أقدمها إلى العامة بل إلى الخاصة. لكن الخاصة هى التى ألبت على العامة وحرضتها. فى إطار صراع على سلطة المعرفة. هذا على الرغم من أنى أؤمن بديمقراطية المعرفة، وبأنه لن يتم تغيير بصراع الخاصة مع الخاصة. لكن هناك من كان يقول علانية: «.. نحن لا يهمنا تفريق نصر أبو زيد عن زوجته.. نحن نريد أن نطرده من الجامعة»، هم يعرفون أن هذا مركز تأثيرى. وهنا الصراع. 5- أنا متصوف بالمعنى الحياتى، وليس بالمعنى العرفانى. أى أننى مؤمن بأنه كلما استغنيت اغتنيت. أقلل احتياجاتى دائما، فتقل قدرة الآخرين على التحكم فى. تكفينى حجرة وكتاب ومكتب وقلم. ربما يرجع هذا إلى نشأتى الريفية والفقر واليتم. لكن الأهم أن التصوف منهج للحياة يجعل الإنسان مستقلا. 6- أصدم قليلا عندما أسمع أحدا يتكلم عن مشروع نصر أبو زيد. المشروع يعنى أننى أحمل رسالة، أنا باحث، مهتم بفهم الظاهرة الدينية فى تاريخيتها. لا شىء أكثر. أنا أيضا مواطن يريد حريته. «مواطن» يسافر ويعود. يناقش ويختلف. وليس مجرد رمز المعركة بين التفكير والتكفير، أو بين الحرية والتفتيش. إلى هنا انتهى ما أردت أن أشارككم فيه من أفكار، قيلت قبل سنوات لكنها صالحة للدخول فى مصارعتنا مع الفتوات الذين يكرهون الحرية.. والحياة كلها.