«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وائل عبد الفتاح يكتب: «حياتك الباقية»
نشر في الدستور الأصلي يوم 09 - 07 - 2010

سمعت الكلمة كثيراً في موسم الموت الذي اصطاد فيه الوحش المدهش ثلاثة أسماء عرفهتم بدرجات مختلفة
فاروق عبد القادر وعفيفي مطر وأخيراً نصر أبوزيد
فكرت في الابتعاد عن حفلات الرثاء، واستعراضات الدموع المكتوبة بمحبة وتقدير وبحث عن رموز لامعة في أيام جافة، تفتقد الخصوبة
«حياتك الباقية»
ماذا أنتم فاعلون بها؟
كيف ينتشر عطر الأحباب في الأيام الصعبة؟
سؤال يجعلني أخاف من تحويل الرثاء إلي دروس وموعظة وتقديس لكل من غادر الحياة وأنا أخاف الاقتراب من الموت، لم ألقه وجها لوجه، ولم أر وجه شخص ميت واحد، أهرب في اللحظة الأخيرة .. تصدمني أخبار الفراق...وأختبئ في كهف بعيد لتمر تفاصيل الخبر، قبل أن يتحول الموت إلي واقع وحقيقة
لم أتدرب حتي الآن علي تحويل الموت إلي شبكة إجراءات، يمكنها أن تمتص ما في الموت من قسوة وغرابة ودهشة دائمة...مازال الموت وحشاً يثير دهشتي.. يخطف أحباء وأصدقاء.. وأتصور أنهم في رحلة مثيرة سيعودون منها بحكايات ومشاهدات مسلية.
لم يعد الأصدقاء. ولا حكاياتهم.
بقت.. علامات نوع آخر من الحزن.
1 تجربة تعذيب
صانع جسور إلي أرض غامضة
إنه زمن انحطاط.
لم يخجل فقهاء التعصب الديني من إعلان شماتتهم في غياب نصر أبو زيد.
ولم يخجل مريدو فاروق عبد القادر من استعراضات الأسي والبكاء علي محارب .
كلاهما الآسي والشماتة.
موت علي موت.
مطر أفلت من شظايا الانحطاط إلي حد ما، ربما لأن جمهوره بعيد، خاص، فلاح يعشق أرضه، لكنه غريب، يطير بجناح بعيد، إلي أرض أخري، الشعر والفلسفة، غارق في خصومة مع النظام السياسي لكنه يقف فجأة بعد أن عبرنا معا كوبري قصر النيل ليقول لي: "تعرف ان إحنا لازم نخرج من أسر النظام السياسي ده.. لازم نفكر بعيدا عن ردة الفعل عليه...نحن نعيش كأننا رد فعل للسلطة.. رغم أنه من أولي طرق المقاومة معرفة الحياة.. كيف يمكن أن نزرع أشجارنا.. "
درس قديم عرفته فيه شخصا آخر غير الشاعر الغاضب من أجيال جديدة، خرجت عن تصوراته عن الشاعر والمثقف.
البحة في صوته أضافت إلي وجهه المحفور شعورا بالمأساة القديمة، العميقة، هكذا كانت الفلسفة تذهب بالشعر عنده إلي حد البحث عن جماليات غامضة، رغم انه ابن جماعته، يفتش في ثقافتها ، ويري في منامه أشباح المستعمرين من الرومان إلي الأمريكان.
مطر لم تهزه حكايات عن تمزيق جواز سفره في بغداد بعد الخلاف مع السادات، لعب علي الحكاية بعض تجار الوطنية الرحل، لكنها سرعان ما تبخرت مع انتهاء حروب الاتهام بالعمالة للأنظمة، ومع وصولها إلي قمة مأساويتها باعتقال مطر بعد مظاهرة ضد هجمات الجيش الأمريكي علي بغداد، واتهامه بإنشاء تنظيم بعثي في القاهرة.
روي مطر تفاصيل حفلات التعذيب في أشعار عن تعليقه من يده في ممر بارد، تفجرت شحنة الألم في خيال رأي فيه أبناؤه بجواره في الزنزانة،،،يتعذبون ويسمع عويلهم، ويسمع عويلاً طوال الليل...من هذه التجربة صنع أيقونات شعرية عن بشاعة السلطة، ليبدو مطر طالبا المستحيل وصانعا لجسور بين أطراف صعبة، جسور طينية أحيانا، وخرسانية أحيانا أخري، لكنها رغبة في العبور إلي أرض غامضة.
2 حفلات الأسى
لعنة الدموع علي حارس مدينة ذابلة
أجلت الكتابة عن فاروق عبد القادر طويلا.
لم تعجبني حفلات الآسي، رأيتها أكثر قسوة من نكرانه أو الغياب عن جنازته أو ملء سرادق العزاء.
الأسي مشاعر لا تناسب فاروق عبد القادر، الحارس الذي أصر علي حراسة مدينة اندثرت.
لا يليق بفاروق جائزة مهينة، ولا وداعا يشبه وداع عجوز وحيد تخلت عنه العائلة والدولة وكل مؤسسة رسمية.
لماذا يريد عشاق الأسي أن تسير الدولة في جنازة فاروق عبد القادر، أو أن يخرج موظف من مكتبه ليبدو موضوعيا وهو يتعامل مع شخص اختار الحياة علي شمال المؤسسات كلها، حارس مدينته ذبلت..، وجلطة المخ جعلته ينظر باتساع ودهشة علي الجميع، بلحيته البيضاء الكثيفة التي لم تحوله إلي عجوز رث، متهالك، ولكن إلي متمرد متعب .
نظرته قاسية.
وقصائد الرثاء عليه مؤلمة، أضعاف الظروف الأخيرة.
وحدته مرعبة كانت، لكنه اختارها...بطريقة تختلف عن البير قصيري وحسن سليمان.. وكلاهما سار إلي موته وحده، بدون طقوس التدجين بعد الموت؟
ماذا كان سيكسب فاروق عبد القادر إذا عرف أن الدولة منحته جائزة متوسطة القيمة، لتبدو عطوفة ورحيمة بمن حاصرتهم وأغلقت عليهم سبل العمل الكريم؟
هذه مشاعر رخوة، لا تعرف قيمة الرجل الذي تحزن عليه.
فاروق اختار طريقة عزلته، وخطط لحرب قصيرة المدي، أبطالها جبابرة لكن في السوق المحلي.
نظرت طويلاً إلي صورته الأخيرة، ماذا كان يدهشه إلي هذه الدرجة المفرطة...العين مفتوحة علي اتساعها، لتقاوم الضعف ولتحاول أن تري أشياء لا تراها بسهولة.
فاروق اختار أن يكون رمزًا لمعركة واحدة: الفساد الثقافي، كل معرفته وظفها في هذا الاتجاه، لم يكن النقد مهما، ولا مدارس الأدب، إلا بكونها أسلحة في حرب ضد الفساد المكشوف والعلني.
ابن جيل تطارده السياسة كما قال لي، الذي يحب عبد الناصر ويلعنه، ساخر وخجول رغم صورته العدوانية اللاذعة.
دقيق ورقيق، اختار ثوب المقاتل، لا المكتشف، المتمرد الدائم القريب من رهبنة تعزله عن الزمن، عاش في شقة من طراز الخمسينيات زرته فيها، ولم ألمح فيها علامة واحدة علي سنوات ما بعد الستينات.
مشواره الأسبوعي من شبرا إلي سوق الحميدية في باب اللوق، كان محور معارك ومثار نميمة أسبوعية: ماذا حدث في جلسة فاروق عبد القادر؟
هل دخل فاروق دوامة الاكتئاب؟
سيرته سيرة محارب، لا أحد يعرف عنه إلا تفاصيل معاركه، وجولات حزن شديد تنتابه فجأة، ويحار الجميع في تفسير أسبابها.. يهبط كل أحد إلي قلب المدينة ليجمع الحكايات ويثار من حوله الغبار، دون أن يعرف أحد تفاصيل حياته، أو يلمس شيئا من حكاياته الداخلية.
اكتشفت عندما حاورته أن الغالبية لا تعرف حكايات عن حياته بداية من تخرجه في قسم علم النفس بجامعة عين شمس، وحرمانه من العمل الأكاديمي بسبب تقارير البوليس السياسي.. ثم اضطراره إلي العمل في صحيفة بمكة المكرمة، إلي أن حدث الانفصال بين مصر وسوريا وتم ترحيل المصريين من السعودية ( التي كان لها اليد الطولي في الانفصال حسب حكاية فاروق) وعودته إلي القاهرة وعمله في مصلحة الاستعلامات ثم سفره مرة أخري إلي الدوحة وعمله في قصر الأمير مترجما، وهناك رأي آخر سلالة الجواسيس من نوعية «لورانس العرب».
حكاية اكتشفتها أثناء الحوار رغم أنني كنت أعرفه من سنوات، وعلاقتنا جيدة، لكنه لم يكن مهتما إلا بحروبه الخارجية، أما حروبه الداخلية، وقلقه، وعذاباته.. له وحده.
وهذا سر الوحدة.
والغربة عن زمن جديد، لا يحتفي بالمحاربين إلا علي سبيل جمع تذكارات الحروب القديمة.
أجيال لم تلتفت للحروب التي اختصر فيها فاروق، ولم يسمح لجانبه الخفيف بالظهور.
كانت لديه حكايات يمكنها أن تروي تاريخ المسرح من الكواليس، اتفقنا علي الثرثرة حولها، لكنه اتفاق لم يتم.
كما لم تتم إقامة الجسور مع أجيال اقتحمت مقهي سوق الحميدية الذي كان فاروق عبد القادر زبونه الوحيد تقريبا.
لم تقم الجسور لان هناك شيئا ثقيلاً جدا، علي كتف فاروق عبد القادر، هذا الشيء ليس المريدين عشاق الأسي، ولا حصار موظفي الدولة ومؤسساتها، ربما كان هذا الشيء الذي ينظر إليه بكل هذه الدهشة مرتديا بيجامة الستينيات وليس هناك علي وجهه علامة أسي واحدة.
ربما كانت كلها علامات ذهول.
3 جلسة اعترافات
رباط عنق في حرب العصابات
كانت مصر تزوره في الكوابيس الليلية.
خرج نصر أبو زيد من مصر في يوليو..، وعاد في يوليو..، وعيد ميلاده في يوليو..، «إنه شهر خطير..، ومهم في العالم العربي كله.. شهر ثورات وانقلابات» ضحك وهو يعلق علي ملاحظتي في التليفون.. وهو يردد الاسم الأسطوري لشهر يوليو: "تموز" والذي يعني اله الخصوبة عند الإغريق.
نصر كان رومانسيا وهو يصف أحواله في ليل هولندا: "ينهض الوطن بقامته ليتمدد في كل شرايين الليل بأحلامه وكوابيسه: الموتي الذين لم يغادروا دورة زماننا، والأحياء الذين فقدوا صلاحيتهم منذ عقود، يلتقون جميعا في أحلامي وكوابيسي كأننا علي موعد، لا أتحدث هنا بالضرورة عن إعلام، فأحلامي وكوابيسي يجتمع فيها الإعلام والعامة، الأساتذة والطلاب، الأعداء والأحباء، الخصوم والأنصار، الرجال والنساء، الكبار والصغار، إنه الوطن بكامله يُصِرُّ علي أن يحتل ليلي كاملاً، ربما لأنني أحاول أن أقصيه عن نهاري".
في "قحافة" عرف نصر أبو زيد المسئولية في سن مبكرة بعد موت الأب حيث أصبح المسئول عن العائلة، اكتفي وقتها بنصيب متوسط من التعليم وبدأ في البحث عن عمل (كانت مطافئ طنطا هي أكثر هذه الأعمال استقراراً)، تعرف إلي الإخوان المسلمين وبدأ يخطب الجمعة وظل يعرف هناك حتي وقت قريب باسم: «الشيخ نصر».
إنها حالة غربة (ان لم تكن مرارة) مع الجامعة التي كان من المفروض أن تدافع عن جوهر وجودها في المجتمع ولا تترك نصر وحيدا في مصيدة التكفير، لم ترد الجامعة ولم تحرك ساكناً عندما طالبنا بعودة نصر أبوزيد من "منفاه" الذي أجبر فيه علي أن يكون أقرب إلي "لاجئ ثقافي"..، طالبنا بإنهاء حال الغربة التي لا يعيشها نصر وحده بل تمتد إلي كثيرين هنا في مصر يشعرون بالاختناق.، والمطاردة.، والمراقبة..، في مجتمع يرحب بشطار الفساد وفقهاء التطرف وعباقرة الجهل.، يجعلهم نجومه يسدون نوافذه ويمتصون الهواء الذي نتنفسه..، وفي المقابل لا يتحمل الرأي المختلف ولا يقبل بالحجر الصغير الذي يحرك البركة الراكدة.
كنا نريد أن نتخلص من "فضيحة الصمت" علي نفي مثقف بسبب أفكاره..، ونعيد من جديد أبسط شروط المواطنة وهي الحق في الحياة وسط أهلك وفي الشوارع التي عرفتها والتحدث باللغة التي تعلمت بها أول الكلام مهما كانت معتقداتك..، مصر ليست وطناً لدين واحد أو تيار سياسي واحد أو عائلة واحدة..، وليست قبيلة يحكمها فكر واحد وحزب واحد وحقيقة مطلقة لا يعلم سرها إلا الكهنة والحكام. وعلي ما يبدو أن هذه الحقيقة البسيطة لا يفهمها "كهنة" التيار الإسلامي..، الذين سألناهم وقتها عن رأيهم في عودة نصر أبو زيد إلي مصر فأعلن الأذكياء منهم ترحيبهم بالعودة لكنهم وضعوا شرط التراجع عن الأفكار..، أما الأقل ذكاء فأصروا علي أنه يمر بفترة عقوبة تكفر عن خطاياه..، وهم بذلك لا يريدون الاعتراف بأنهم مجرد تيار سياسي وأفكارهم مجرد أراء وتصورات ليست نصوصاً مقدسة أو "كتالوجاً" من وحي السماء لممارسة الحياة علي الأرض..، يشعر معه ملايين المؤمنين بالعجز عن التفكير والتأمل فيما يطرحه بشر عاديون يصعدون الجبل المقدس ويحيطونه بأسوار عالية ليستمتعوا بلذة السلطة وإصدار الأحكام علي الآخرين..، وليوهموا الجميع بأن طريقهم يؤدي في نهايته إلي الجنة.
والكارثة أن هناك من يحتكر الحق في التفكير..، كما احتكر المحظوظون الاستمتاع بأموال البنوك وفرص الصعود الذهبية..، ليخرج القطاع العريض من المجتمع المصري خارج التحالف غير المرئي بين الفساد والفاشية الفكرية.
الجامعة كانت بالنسبة له ملعباً من ملاعب انتصاره في الحياة والحرية، فهو دخلها في سن كبيرة وكان عمره 25 عاماً عندما بدأ الدراسة بها في 1968، تفوّق وتخرج بامتياز ومرتبة الشرف وكاد يضيع حقه في التعيين بالسلك الجامعي (بسبب أحلام رشاد رشدي في بسط هيمنة قسم الإنجليزي علي الجامعة) لكنه قابل رئيس الجامعة وظل يلح في الدفاع عن حقه حتي ناله هو وزملاء دفعته.. ثم عندما اختار فرع الدراسات الاسلامية ليكون محور دراساته العليا، اعترض مجلس القسم (كانت بداية سيطرة الوعاظ وعمائم ضيق الأفق)..، وخرج نصر من المعارك باحثاً متميزاً..، يؤمن بحرية البحث العلمي..، ورغم أنه لم يخرج عن حدود الإيمان..، إلي درجة انه وصف أحيانا بأنه أصولي..، و"شيخ.. إلا أن تصديقه فكرة الجامعة وانحيازه إلي قيمة التفكير.، جعلته يتجاوز الخطوط الحمراء في عصر لا تهتم الجامعة إلا بتخريج جيوش من الجهلة الحاملين لشهادات علمية.في أوراقي عثرت علي تفريغ جلسة مهمة كانت بدون تسجيل أو صحافة.
الزيارة الثانية لمصر كانت بدعوة من الجمعية الفلسفية ورئيسها الدكتور حسن حنفي، وندوة خاصة عن أعمال نصر أبو زيد، عقدت في مقر المركز الثقافي السويدي بالإسكندرية( يناير 2004).
يومها قال حسن حنفي اعترافات مهمة حول نصر أبو زيد والفلسفة والجامعة.(وهذه صياغات لما قاله وليست نصوصاً):
1 نصر أبو زيد بالنسبة لي مسالة شخصية، وليس مجرد موضوع، فهو تلميذي الذي تعلمت منه.
2 هو استطاع أن يواجه الفكر المسيطر، أنا أستخدم أسلوباً آخر، أسلوب حرب العصابات «أضرب واجرِي»، ازرع قنابل موقوتة في أماكن متعددة، تنفجر وقتما تنفجر ليس المهم هو الوقت، المهم أن تغير الواقع والفكر.
3 نحن نقاوم 1000 عام من التخلف.
4 يسمونني "المفكر الزئبقي"، لا يعرفون كيف يصنفونني، الجماعات الإسلامية تراني ماركسياً، الشيوعيون يرون أني أصولي، الحكومة تتعامل علي أنني شيوعي إخواني «ضحك في القاعة».
5 الاختلاف بيني وبين نصر ليس في القول بل في المنهج، هو اختار العلن وأنا أري أن المسألة لا بد أن تكون سرية، هم مسيطرون علي العامة وقضايانا هي قضايا الخاصة.، إننا مجموعة قليلة يمكن أن يصطادونا واحداً واحداً، وينتهون منا، لهذا أستخدم «آليات التخفي».
6 أصحاب المصلحة هنا يريدون تثبيت النص لأنهم يريدون تثبيت السلطة، والنص هنا ليس المكتوب فقط بل أنه صدام نص، وأشباه نص، وكل تحريك أو نقد للنصوص اهتزاز للسلطة.
7 ربما لو كنا واجهنا لما كان نصر تعرّض لما تعرّض له، ومنذ طه حسين مرورا بأمين الخولي حتي الأن البداية دائما من الصفر.
8 ربمالهذا أعتبر أن نصر أبو زيد هو حسن حنفي كما ينبغي أن يكون. اعترافات حسن حنفي كانت صادمة.فهو واحد من أهم أساتذة الفلسفة في الجامعات المصرية، مشغول بتركيب مشروع فكري.زهوته كانت في الثمانينات عندما قدم فكرة «اليسار الإسلامي»، وكما أفهمها هي محاولة البحث عن الجوانب العقلية والراديكالية في الفكر الإسلامي، وهو نوع من المشاريع التي وصفت بأنها "توفيقية"، تتصور أنه يمكن الجمع أو التركيب بين مفاهيم "الحداثة" و"التراث"، وهي يوتوبيا نظرية بدأت مع الجنرالات أصحاب المشاريع القومية من محمد علي إلي جمال عبد الناصر مرورا بالجنرالات في العراق وليبيا، حلمهم كان اكتشاف صيغة تجمع الأضداد: اشتراكية الإسلام، الاشتراكية العربية، النظرية العالمية الثالثة (المعروفة باسم الكتاب الأخضر).
لكن حلم الجنرالات كان تفسيره مختلفاً عند المثقفين، فالرغبة كانت إبداع مناهج انفرد بها الغرب، ولمعت مشاريع لأسماء مثل: محمد عابد الجابري وعبد الله العروي وحسن حنفي ظلت هذه الأسماء لامعة حتي التسعينات، ومع انتهاء الحرب الباردة أصبحت الأفكار أكثر حدة واستقطاباً فغابت مشاريع الوسط الذهبي الحالمة (نصر أبو زيد وجه ملاحظات نقدية مستفيضة حول مشروع حسن حنفي في كتابه "نقد الخطاب الديني").
من هنا كان كتاب «الاستغراب» لحسن حنفي موضع نقد كبير، وبداية لانحسار أفكاره وبقاء قيمته كأستاذ جامعة ومعلم أجيال، وهو بالفعل "علامة إرشادية" لطلاب وأساتذة أقسام الفلسفة، ونموذج غائب الآن يهتم بالثقافة والمعرفة وليس بطبع المذكرات والدروس الخصوصية.
نصر أبو زيد حكي يومها:.، "عندما كنت طالباً.، استمعت إلي محاضرته.، وطلب مني تعليقا..، قلت له.، حضرتك بتقول إننا ممكن نغير الواقع بالفكر.، تقول هذا الكلام وأنت ترتدي رباط عنق من باريس وتجلس مستريحاً في الجامعة، كنت وقتها متحمساً جدا وأعتقد أن الواقع هو الذي سيغير الفكر وليس العكس.، لكنه قال لي: عندما تتخرج شكل حزباً سياسياً ستكون أنت زعيمه وأكون أنا عضوا فيه.، من هنا تعلمت منه أن الأستاذ في الجامعة لا يمارس سلطة معرفية علي طلابه.. ".
ومن هذه النقطة الأخيرة قال الدكتور نصر أبو زيد مجموعة أفكار بينها (هذه أيضا صياغات وليست نصوصا):
1 الدين عنصر مؤسس من عناصر النهضة، لكنه ليس شرط النهضة، ولا يمكن لأي مشروع نهضة أن يتجاهل الدين.
2 لكن يظل السؤال: أي دين؟ بمعني أي فهم للدين؟ هل هو الدين الذي صنعته المؤسسات وتطور من الإيمان إلي العقائد إلي الدوجما (أو الدائرة المغلقة التي لا تحتمل التفكير؟!
3 هل هو الدين الرسمي أم الدين الشعبي؟ هل الدين الشعبي كفر؟، محمد عبده ورشيد رضا قالا إن الفلاحين الذين يتبركون بالأولياء ويزورون الأضرحة هم عبدة أوثان.. هل هم كذلك فعلا أم إننا أمام تأويل اجتماعي للدين؟ ففي العصر الذي لم يكن الفلاح يستطيع الكلام مع العمدة مباشرة ويحتاج إلي وسيط بالتأكيد فإنه يحتاج إلي وسيط بينه وبين الله؟
4 نحن مهمتنا ليس الحكم علي عقيدة أحد، بل الفهم، أو السؤال عن كيف تطور إنتاج المعني؟
5 نحن جميعا نتصارع حول المعني.
6 المعرفة مشاركة وحوار ونقد، لكن هناك من يدعي سلطة معرفية ويتصورون أننا نصارعهم عليها، وهذا ليس صحيحا فنحن لسنا طلاب سلطة، نحن طلاب معرفة.
7 المؤسسات تختزل الدين في الحلال والحرام، لكن الدين معطي ثقافي حي وفاعل.
8 التراث عنصر أصيل من عناصر النهضة، لا أحصر التراث الديني في الإسلام وحده، هناك تراث من المسيحية واليهودية، دخل في تراث الإسلام.
9 في المجتمعات العلمانية لا يمكن علي مستوي بنية الثقافة أن نتحدث عن الفصل الكامل بين الدين والمجتمع.هناك مثلا عندما تتحدث عن القدس لا يمكن لشخص علماني أن يتعامل معها إلا أنها القدس اليهودية، فالدين جزء من بنية الثقافية، وأثناء كتابة الدستور الأوروبي كان الخلاف هل يذكرون المسيحية أم لا؟ الدين مكون أساسي (وليس الوحيد) في بنية الثقافة، لكن مرة أخري أي دين؟
10 المرعب هو استخدام الدولة للفكر في مشروعها، فتكون الدولة علمانية وهي تحارب الإرهاب، ودينية وهي تحارب المعارضة العلمانية، وإرهابية وهي تحجب الحركات الإسلامية.
الفيلسوف والراقصات
قبل هذه النقطة الأخيرة حكي نصر أبو زيد عن إعلان استوقفه في محطات المترو في باريس، في مركز الإعلان غلاف كبير لكتاب «نقد العقل المحض» أشهر كتب الفيلسوف الفرنسي كانط، الإعلان كان عن لبن أطفال والإشارة إلي أنه إذا شرب طفلك هذا النوع من اللبن سيستطيع أن يقرأ فلسفة كانط.
يقول نصر: المعلن عن السلعة يعمل دائما علي الأشياء المعروفة.. وهذا معناه أن الفيلسوف كانط معروف عند غالبية الفرنسيين.. وهذا يفسر أيضا أن كل إعلاناتنا تعتمد علي راقصات باعتبار أن هذا ما نعرفه.، سأسأل هنا كم شخصا يعرف طه حسين في مصر؟
هذا يفتح الطريق أمام مجموعة إشارات أخري:
1 أكره كلمة التنوير، لا أحب استخدامها.ولا استخدام نقيضها "الظلاميين"، هذه التوصيفات تذكرني بمحاولة الدولة في استخدام المثقفين في معركة ضد الإرهاب، قلت للمسئول وقتها لكن علي باب الجامعة الشرطة توقفني وتطلب مني بطاقة الدخول، وفي كل مكان أجهزة السلطة تطاردنا، هل يحدث تنوير برغبة هذه الدولة، أم أن المفروض أن يتحول المثقف إلي موظف عند الدولة.
2 المثقف عندما يتحول إلي موظف يفقد دوره.
3 هل فكر أحد: كيف تتحول النصوص إلي نصوص مقدسة؟! بمعني آخر لماذا يعتبر البعض أن أشكال القصاص مقدسة، علي الرغم من أن أشكال مثل الرجم أو الجلد كانت موجودة قبل القرآن، أي أنه تبناها، ونحن اليوم نعتبرها مقدسة، أي أننا نهتم بالشكل ونعتبره صالحا لكل مكان وزمان.والسؤال هنا هل نهتم بالعدل أم بتحقيق العدل؟
4 هنا يبدو الصراع علي العامة.وأنا حين قدمت أعمالي للترقية لم أقدمها إلي العامة بل إلي الخاصة.لكن الخاصة هي التي ألبت علي العامة وحرضتها، في إطار صراع علي سلطة المعرفة، هذا علي الرغم من أني أؤمن بديمقراطية المعرفة وبأنه لن يتم تغيير بصراع الخاصة مع الخاصة، لكن هناك من كان يقول علانية: ".، نحن لا يهمنا تفريق نصر أبو زيد عن زوجته.. نحن نريد أن نطرده من الجامعة هم يعرفون أن هذا مركز تأثيري، وهنا الصراع.
5 أنا متصوف بالمعني الحياتي، وليس بالمعني العرفاني، أي انني مؤمن بأنه كلما استغنيت اغتنيت، اقلل احتياجاتي دائماً فتقل قدرة الآخرين علي التحكم في، تكفيني حجرة وكتاب ومكتب وقلم، ربما يرجع هذا لنشأتي الريفية والفقر واليتم، لكن الأهم أن التصوف منهج للحياة يجعل الإنسان مستقلاً.
6 اصدم قليلا عندما أسمع أحد يتكلم عن :مشروع نصر أبو زيد، المشروع يعني أنني أحمل رسالة، أنا باحث، مهتم بفهم الظاهرة الدينية في تاريخيتها، لا شيء أكثر، أنا أيضا مواطن يريد حريته، «مواطن» يسافر ويعود، يناقش، ويختلف، وليس مجرد رمز المعركة بين التفكير والتكفير أو بين الحرية والتفتيش.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.