العجوز تقدم إلى الصفوف الأولى ووقف وسط شباب يدافعون ببسالة ضد محاولات احتلال الشرطة ميدان التحرير، ووجه كلامه إلى شباب بعينهم: أرجوكم عودوا إلى الصفوف الخلفية، نحن فقراء ولم نتعلم وإذا متنا على الأقل سنطمئن إلى أن هذه البلد ستجد من يفيدها، أما نحن فليس لدينا إلا حياتنا نفيد بيها البلد...». اهتز الشباب بهذه الحكمة، وتناقلوها فى أثناء الهدنة الليلية التى توسط فيها الشيخ مظهر شاهين إمام مسجد عمر مكرم، نصف المدنى، نصف الأزهرى، صاحب الخطاب القريب من لاهوت التحرير. الهدنة كُسِرت.. جاء الخبر بعد الفجر بساعات قليلة. مَن كسر الهدنة الليلية؟ الشرطة عادت للضرب لكنهم يسربون للشخصيات العامة أن الثوار كسروا الهدنة ويريدون اقتحام وزارة الداخلية، وهو شرط السلطات الأمنية للهدنة. هدنة..؟ نعم إنها أجواء حرب كاملة، الضباط والعساكر بملابس جديدة، ميليشيات سوداء مدربة فى مواجهة طيف الثورة، شباب من كل التيارات السياسية، أغلبهم جيل عابر للتيارات، وبينهم يسار وليبراليون، ومدافعون عن الدولة المدنية، وسلفيون وإخوان وفرادى دون مرجعيات أو تنظيمات. ماذا يريدون؟ يريدون نهاية حقيقية للدولة الأمنية. بمعنى؟ الدولة الأمنية يمثلها الآن: المجلس العسكرى، وذراعه فى الشوارع: الشرطة. المجلس أعاد بناء جمهورية الخوف، وعطّل انتقال السلطة إلى المدنيين، ولم يتمم عمليات تطهير مؤسسات النظام، وأقام محاكمات عسكرية ( 12000 يمثُلُون أمامها الآن) وفعّل قانون الطوارئ، وخطّط للوصاية على الدولة. والشرطة عادت بممارساتها التى كانت أهم أسباب الثورة، وقادت حربا تأديبية على ثوار التحرير بكل ما فيها من قوة نفسية لا تريد الانتقام فقط ولكنها تسعى إلى المشاركة فى تركيبة الدولة الأمنية بعد التخلص من شريحة الوجوه المستهلكة فى عصابة مبارك. العودة إلى نقطة الصفر إذن، النظام الانتقالى بنفس عناد مبارك، وجهازه القمعى شراسته زادت بعد استيعاب درس الثورة. الفوضى صنعها التدخل الأمنى العنيف، فى أول مواجهة بين المجتمع والشرطة وحدها دون السند العسكرى. الشرطة عادت إلى برنامجها القديم كاملا، وهو ما مثل نداء إلى الثوار من جديد. عادوا ليجدوا القتلة أنفسهم. وعادوا ليواصلوا ثورة هدفها الأول والأخير: دولة ديمقراطية، دولة يشعر فيها الفرد العادى بوجوده فى مواجهة سلطة تمحو وجوده وتنتهك جسده وتسحل كرامته. روح الثورة تنطلق بعفويتها الأولى وطاقتها المثيرة للدهشة بخيال يكشف خيال السلطة المبتذل.. البائس. خيال السلطة يحاول صناعة فوضى وزراعة الخوف، ويجهّز لحريق كبير، تصبح السلطة فيه هى الملجأ والمنقذ الوحيد. تحاول هذه السلطة إلقاء الشخصيات والكيانات المتماسكة فى محرقة الخلافات حولها، تسعى إلى تشويه كل محاولات المجتمع فى تنظيم نفسه أو تصعيد قياداته، لتبقى السلطة وحدها الأمل والخلاص اليائس. هى لعبة مبارك التى حكم بها 30 سنة قاد فيها حرب تشويه أو تلويث أو إشراك كل ما هو متماسك فى مصر، ليبدو وحده فى النهاية، تحيطه عصابة أقزام يحركهم على هواه. المجلس يصنع مَحْرَقة ليبدو فى النهاية اختيار العاجز بعد أن قطع الطرق إلى حياة سياسية صحية تفرز تنظيماتها وأحزابها وقادتها. هذا أخطر ما فى اللحظة الجديدة للثورة. لحظة الخروج من متاهة المجلس العسكرى.. خروج كلّفنا شهداء ودماء ومخاطرة، وتحتاج إلى ابتكار وخيال لا وقوع فى الفخ من جديد. 10 أشهر كافية لندرك أن الثورة قطيعة مع النظام القديم بكل قيمه وأساليبه وإطاراته السياسية والقانونية. الثورة إعادة بناء وليست طلاء النظام القديم.. وضع أساسات جديدة وليست تغيير الأقنعة. الثورة عادت إلى الشارع، لتنقذ مصر من الحريق الكبير.