دواعى اللياقة وحسن الذوق فحسب هى التى منعتنى من أن أضع كلمة «خرابة» بدل «غابة» فى عنوان هذه السطور، ومع ذلك فسيادة قوانين الغاب، حيث البقاء للأقوى لا الأعقل والغرائز غير المهذبة، الموجه شبه الوحيد للحياة.. هذا كله يعبّد ويمهّد أقصر الطرق لخراب أى مجتمع بشرى. وأكتفى بما سبق مقدمة للموضوع، فأما موضوع الساعة فى هذا البلد فلا أظننى أحتاج إلى إسهاب كثير فى وصف خطورته ورصد مظاهره المؤذية وملامحه المرعبة.. مهرجان عنف فوضوى منفلت من أى عقل ولا لجام قانونى أو خلقى، ذلك الذى تتمدد فقراته وتنتشر عروضه هذه الأيام على مسرح الوطن من أقصاه إلى أدناه. غنى عن البيان طبعا، أن هذا العنف المتفشى المتفاقم ليس بلا جذر أو أصل قديم، ولم يهبط علينا فجأة من السماء التى بدت لنا صافية رائعة عشية المشهد الافتتاحى الباهر لثورتنا، لكن الجديد والتطور النوعى الذى طرأ عليه أن إنتاجه واتجاه مساره الذى كان أيام المخلوع أفندى اتجاها واحدا تتدفق عبره منتجات القهر والغصب من أعلى إلى أسفل، أى من سلطة العصابة إلى المجتمع، يبدو الآن وقد تحول إلى فعل مشترك سلطوى وأهلى، تجرى صناعته علنا على الأرصفة والطرقات البائسة المتربة وتبث ثماره التخريبية وتلقى فى كل اتجاه، نحو الدولة (التى هى شىء مختلف عن السلطة) والمجتمع معا. ولكى لا يبدو هذا الكلام توسلا بالحزلقة للهروب من الصراحة والوضوح، فإننى ابتداء من السطر بعد المقبل سوف أحاول باختصار شديد، رصد العناوين الرئيسية (هناك عشرات العناوين الفرعية) لأسباب اشتعال وتفاقم هذا المهرجان العنفى الرهيب الذى نصحو وننام حاليا على سيل أخباره: أولا: نجاح المجلس العسكرى نجاحا مدهشا فى إجراء عملية جراحية (ربما غير مسبوقة) استأصل بها العقل السياسى تماما من رأس سلطة الحكم وتركها هكذا «تضبش» يمينا وشمالا بغير هدى ولا وعى. ثانيا: نجاح معالى المجلس المذكور فى بتْر يد القانون من الدولة وخزق عيونها التى ترى وتميز بها الصح من الخطأ والأمان من الخطر، فصارت دولة كسيحة عمياء تعيش بعلّتها وعاهتها عالة وعبئا ثقيلا على المجتمع وبدل أن تساعده وتقوده إلى التقدم أضحت تجره جرا إلى التأخر والتخلف! وقد يزيد سيادة المجلس العسكرى هذا الطين بلة عندما نراه يمتطى أحيانا دولته العاجزة تلك ويضع لها مكان القانون الطبيعى المبتور، طرفا صناعيا رديئا يحركه دائما (أو غالبا) فى الاتجاه الخطأ ويضرب به الصديق تاركا العدو يسرح ويمرح ويعيث فسادا وخرابا براحته (تأمّل وقارن بين القسوة والشدة والغباوة التى يعامل بها النشطاء المسالمون وبين المعاملة الرقيقة اللينة المائعة التى تتمتع بها عصابات «الفلول» والقتلة وصناع الفتنة)! ثالثا: أدى هذا الوضع الذى استفحلت أمراضه بتراكم الأسابيع والشهور، ليس فقط إلى تدفق حر وطليق لمخزون العفن الموروث من عهد النظام المدحور حتى غطى أو كاد سطح المجتمع والدولة، وإنما أيضا سمحت الثغرات الهائلة الناجمة عن تغييب عقل السياسة وإزهاق روح القانون وإحلال العشوائية والغرائزية محلهما، بتعميم متسارع لثقافة العنف والجلافة، بل واستخدام العفن القديم كمادة خام لتخليق أنواع مبتكرة منهما، لا تبدأ بابتذال المقدس الدينى واستخدامه، بانتهازية ورعونة، لتشويه وعى الناس واستلاب إرادتهم، ولاتنتهى باستسهال اللجوء إلى العنف المادى الدموى لحل أبسط وأتفه خلافات الحياة. وبعد.. فإن قانون العنف عندما يسود ويتعمم يفرض فورا نوعا من الانقسام الحاد بين قلة ضئيلة تملك إمكانياته وأدواته وأغلبية تبقى دائما مسجونة فى دور الضحية (هكذا هى صورة الغابة) وهذا بالضبط هو حالنا الآن، إذ يبدو مجتمعنا الوطنى مشطورا بقسوة وعلى كل المستويات، بين أقلية تحوز وسائل عنفية قد تكون مالا أو تنظيما عصابتيًّا أو مدفعا رشاشا، وأغلبية كاسحة أخرجها غُلبها وبؤسها، أو تحضرها وتعليمها وطبيعتها الإنسانية المسالمة من دائرة الفعل والتأثير فى واقع يندفع بسرعة نحو جحيم لا يطاق.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.