المشهد الذي رآه العالم أجْمَع والذي نَقَلَتْه قناة "الجزيرة الفضائية" لبعض قيادات الثوار الليبيين وهم يتفاوضون مع بعض أعيان ووُجَهَاء مدينة "بني الوليد" من أجل دخول المدينة سلميًا وتجنُّب الحرب وإراقة الدماء، هذا المشهد هزَّ الكثيرين لعمقه الحضاري ولتَأَسِّيه بسيرة خاتم النبيين (صلى الله عليه وسلم)، وخاصة في فتح مكة، وفي سيرة الخلفاء الراشدين من بعده في فتح البلدان. الثوَّار الليبيون يستطيعون دخول "بني الوليد" و"سرت" عنوةً وحربًا، ولن تكون المدينتان أقوَى من طرابلس والزاوية ومصراتة؛ فقوات القذافي انهارت وتَمَّ القضاء عليها، والديكتاتور وأبناؤه بين هاربٍ ومُخْتَفٍ في الصحراء، ولكن هناك فارقًا كبيرًا بين من يستهينون بدماء الليبيين ولا يُقِيمون لها وزنًا وبين من يحرصون على أرواح الناس وأعراضهم وممتلكاتهم. لم يكن لدَى القذافي وأتباعه رادع يَحُول بينهم وبين ارتكاب المجازر في حقِّ الليبيين الأبرياء، كما حدث في مذبحة سجن بوسليم عام 1996م، والتي قُتِل فيها قرابة 1200 ليبي في يومٍ واحدٍ، أما ثوار 17 فبراير فإنَّ الاتجاه الإسلامي بينهم كبير، وهم أناس ذاقوا الظلم والاعتقال والمنع من السفر والحرمان من كلِّ شيء، ولذلك فإنَّهم كانوا حريصين على ألا يظلموا أحدًا أو ألا تَتَلوّث أياديهم بالدم الليبي الطاهر. كبير مفاوضي الثوار طبيبٌ وجراحٌ كبير، محبوب بين قومه، وطني وعاقل في حديثه، تَنْسَاب آيات القرآن والأحاديث النبوية على لسانه لتؤكِّد ثقافته الإسلامية الأصيلة. وضمن المفاوضين نجد الطبيب والأستاذ الجامعي وخبير الإدارة، كلٌّ منهم يتحدث عما سيُقدِّمه الثوار للمدينة من خير عند دخولها سواء في مجال الأمن أو الخدمات والمرافق. كان تركيز قادة الثوار على أنَّهم لم يأتوا محاربين وإنَّما جاءوا لإكمال بسط الثورة قبضتها على البلاد وتحريرها من أزلام النظام السابق؛ فقد جاءوا مسالمين يحملون الخير لإخوانهم. وأكَّد قادة الثوار أنَّ دماء وأعراض وأموال أبناء "بني الوليد" حرام، وأنَّهم يَضْمَنُون حفظها، وأنَّ القانون والإجراءات الشرعية سيحكمان محاسبة الذين تورَّطوا في دماء وأموال الليبيين. ومما يستحق التوقُّف عنده أنَّ قائد قوات الثوار لم يكن هو كبير المفاوضين بل كان يأتَمِر بأمر طبيب أكبر، وهو ما يعنِي أنَّ القادة العسكريين ليسوا هم المتصدرين للمشهد وأنَّ قرار دخول المدينة، صلحًا أو عنوة، ليس قرارهم. وهو ما يعنِي أنَّ ليبيا الجديدة الحرة تختلف جذريًا عن ليبيا القذافي التي كان يحكمها شِرْذمة من الجبابرة الجاهلين الذين لا يحكمهم خُلُق أو دين أو قانون. ستكون ليبيا الحرة الجديدة مختلفة؛ لأنَّ قادتها الجدد يحفظون كلام الله ويَقْتَفُون أثر رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم)، وسيصلحون ما أفسده الذين غيَّروا في كتاب الله وفي تقويم المسلمين، فالجميع يذكر أنَّ العقيد المدحور قد حذف لفظ (قل) من القرآن؛ لأنه في عقله المريض يختصُّ بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم)، أما نحن فينبغي ألا نلفظه ويجب أن نحذفه. كما يذكر الناس أنه لم يُعْجِبْه التقويم الهجري الذي يبدأ بهجرة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى المدينة، وجعل التقويم يبدأ بيوم وفاته (صلى الله عليه وسلم). ولذلك فلم يكن غريبًا أن يؤكِّد وجهاء وأعيان "بني الوليد" أنَّهم لا يشكُّون لحظة في التوجُّه النبيل لقادة الثوار؛ فوفد الثوار يضم خيرة الناس الذين يعرفهم الليبيون ويثقون فيهم ويوقنون بأن هؤلاء الأفاضل لا يأتون إلا بالخير، وأن سبب الممانعة في المدينة وجود نفر من كتائب العقيد المدحور الذين تورّطوا في الدماء والأموال ويعلمون جرائمهم ويخافون من العقاب الذي سيُنْزِله بهم الثوار. ومع هؤلاء يقف البعض الذين تأثروا بالخطاب الإعلامي الكاذب الذي أقنعهم بأنَّ الثوار لصوص وقتلة وسافكو دماء. وَجْهُ الثورة الليبية أشرق حينما تأكَّد الناس أن قادة الثورة من أحفاد عمر المختار الحقيقيين، الذين تَرَبَّوا على أخلاقه وسيرته وجهاده. وأشرق أيضًا حينما تأكَّد الليبيون أنَّ قادة الثورة من خريجي المساجد وليسوا من الذين اقتنعوا وانهزموا بالفكر الرأسمالي أو اليساري. وأفلح الثوار حينما جعلوا على رأسهم رجلاً رَزِينًا عاقلاً عالمًا مثل المستشار مصطفى عبد الجليل الذي كان خيرَ واجهةٍ للثورة، وقد ملك القلوب حينما أعلن أنَّ كل رموز النظام السابق سيتمُّ مساءلتهم وفقًا للقانون وأنه سيضع نفسه أمام المحاكمة ليتمَّ سؤاله عن السنوات الأربع التي قضاها كوزيرٍ للعدل في نظام العقيد المدحور. كما كان اختيار د. محمود جبريل كرئيسٍ للمجلس التنفيذي ليؤكِّد أن الثوار يحسنون الاختيار؛ فالرجل خبير استراتيجي محترم ومتمكِّن. وأن يكون عبد الحكيم بلحاج رئيسًا للمجلس العسكري للثوار في طرابلس فهو نجاح جديد للثورة يؤكِّد أنها تسير في الاتجاه الصحيح، فتاريخ الرجل وخبرته وشعبيته يصبُّ في مصلحة الثورة ومستقبلها. وَجْهُ الثورة الليبية مشرق؛ لأنها قدَّمت نموذجًا باهرًا للثورات العربية، قد يشكِّل في المستقبل مثالاً يُحْتَذَى لبقية البلدان العربية التي تسعى للخروج من أسر عصاباتها الحاكمة، فنظام العقيد المجرم كان شرسًا ومجنونًا ولا يستمع لصوت العقل ولا يتفاعل مع مطالب الناس. ولذلك لو استمرَّ الليبيون في مُنازَلَتِه سلميًّا فقط لكان قد أجهز على كل من يخرج متظاهرًا. فإذا حدثت ثورة في المستقبل في إحدى البلدان العربية وكان ردّ فعل الجيش الانحياز إلى العقل ورفض قتل المواطنين (كما حدث في تونس ومصر) فإنَّ المظاهرات السلمية ستنجح وتحقق أهدافها. أما إذا انحاز الجيش للديكتاتور وولغ في دم المواطنين، فإنَّ الحل يكون في النموذج الليبي، أو أن يخرج نفر من العسكريين المخلصين الوطنيين ليتصدَّوا للديكتاتور ويسقطوه بآلتهم العسكرية (كما هو مرشح أن يحدث إن شاء الله في سوريا). وسوف يكون وجه الثورة الليبية أكثر إشراقًا عندما تجعل الثورةُ ليبيا دولةً بمعنى الكلمة يحكمها القانون والمؤسسات، بعد أن جعلها الديكتاتور المخلوع جماهيرية ليسَ فيها دولة ولا مؤسسات ثُمَّ قلَّدها مرتبة العظمة، في عنوان يُوحِي بأنَّ من يحكمها عصابة مجانين. الوجه المشرق للثورة الليبية تأكَّد في خطاب التسامح والعفو الذي تَبَنَّاه المجلس الانتقالي ودعوته الثوار إلى عدم إنزال العقوبة إلا بمن تَلطّخت يداه بالدماء فإنَّه سيتمّ تقديمه لمحاكمةٍ عادلة، فهذا الخطاب من شأنه أن يُهدِّئ روع جميع الليبيين وأن يجمعهم كلهم حول الثورة وفكرها ومشروعها. وكم كان وجه الثورة مشرقًا حينما أكَّد رئيس المجلس العسكري للثوار الليبيين في طرابلس عبد الحكيم بلحاج أنَّ الثوار ليست لديهم أي أجندة خاصة تُخِيف لا غرب ولا شرق، وتأكيده أنه لم يرتبط في يوم من الأيام مع تنظيم القاعدة بوحدةٍ فكريةٍ، وأن كل ما في الأمر أنه وجد معهم في ساحة واحدة في وقت واحد، وهذا لا يعني أن يكون على ارتباط فكري معهم. أشرق وجه ليبيا من جديدٍ بعد أن برهن الثوار على اختلاف انتماءاتهم وولاءاتهم عن وطنية ليبية لا جدال فيها وأثبتوا حتى الآن أنَّ مشروعهم السياسي يقوم على أفكار ومشروعات طبيعية معاصرة تضمن الاستقرار والازدهار وتطمح إلى الدمج بين مُكوِّنات المجتمع الليبي وتحقيق إنجاز يكاد يكون فريدًا من نوعه، يتمثَّل في استيعاب الإسلاميين وغيرهم من الليبراليين واليساريين في نسيجٍ وطنيٍّ واحدٍ. أشرق وجه ليبيا بعد أن تأكَّد حرص الثوار على بناء بلدهم بأقل قدر من الدم وأكبر قدر من التفاهم الوطني، حتى مع التائبين من رموز النظام السابق الذين لا تزال مهلة استسلامهم تمدّد يومًا بعد يوم. وفي هذا السياق نتذكَّر ما كانت تفعله النظم التي سَمَت نفسها ب"الثورية" حينما كانت تحكم بالاستبداد والحديد والنار والنظرة الأحادية والتي لم تكن ترضَى أن تشاركها التيارات الأخرى في الحكم، فقد عاثت هذه النُّظُم في الأرض فسادًا وفعلت بالناس أسوأ مما فعل بهم المحتلُّون الأجانب. إنَّ ليبيا تمتلك ثروةً نفطيةً كبيرة ولديها أكبر احتياطيات نفطية في إفريقيا، وكانت قبل الأحداث الأخيرة تنتج ما يزيد على مليون ونصف مليون برميل يوميًا، يُصَدَّر معظمها إلى الخارج، بينما تستهلك نحو سدس إنتاجها النفطي، ويتميّز النفط الليبي بنوعيته الجيدة ويستفيد من موقع ليبيا القريب من أوروبا، مما يرفع من أسعاره ويزيد من دخل ليبيا النفطي. وحينما تتخلَّص ليبيا من ممارسات نظام العقيد المدحور فإنَّ هذا الدخل الكبير سيُغيِّر وجه ليبيا تمامًا. وقد تبنَّى نظام العقيد المخلوع العديد من السياسات الاقتصادية الطائشة خلال فترة حكمه البالغة 42 عامًا، والتي بدأها باشتراكية غير فعلية وأنهاها برأسمالية فاسدة خاصة به وبأولاده وحاشيته. وأدَّت هذه السياسات إلى إلحاق أضرار بالغة بالاقتصاد الليبي. فإذا أضفنا إلى ذلك مغامرات المخبول في أنحاء العالم وصفقاته الفاشلة التي تكلفت مليارات الدولارات لأدركنا إلى أيِّ حدٍّ تَمَّ سرقة الليبيين وحرمانهم من ثروات وخيرات بلادهم. فقد عرض المخبول على أحد قيادات الأمن المصريين في عهد السادات مليار دولار مقابل تسليمه أحد المطلوبين المُهمّين. وهذا يعني سفهًا وجنونًا ويؤكِّد أن ثروات ليبيا قد أهدرت تمامًا خلال العهد البائد. فخلال فترة حكم العقيد الطائش اتَّصَفَت علاقات ليبيا الخارجية بعدم الاستقرار، وتأثّرت بمزاجه وصِبْيانيّته مما حدَّ كثيرًا من تدفُّق الاستثمارات والخبرات الأجنبية وانتقال التقنية إلى ليبيا. كما حَدَت تصرفات وسياسات المخبول من ثقة واستثمارات الأطراف الخارجية والمحلية, ومنعت تأسيس مشاريع محلية وأجنبية كبيرة طويلة الأجل. فإذا أَضَفْنا إلى ذلك تبنِّي العديد من السياسات الاقتصادية المُعطِّلة للنمو، وإهدار الجزء الأكبر من موارد ليبيا النفطية على المغامرات الخارجية الفاشلة، والسعي للزعامة العالمية، وترف أسرة المخلوع وأتباعه.. أدركنا إلى أيِّ حدٍّ كانت مُصِيبة ليبيا والليبيين. وسوف يكون الإشراق الأكبر في وجه ليبيا (الدولة والمجتمع والثورة) حين يتمُّ تصحيح هذا المسار المعوج وتوجيه كل الإمكانات من أجل تحقيق النمو الشامل والنهضة المرجُوَّة. ومن المتوقع أن تستقطب ليبيا استثمارات جديدة وضخمة في مواردها النفطية ستساعدها في مضاعفة إنتاجها النفطي خلال عدة سنوات. وحينما تنجح الثورة في إعادة بناء المؤسسات الحكومية من جديد، والتخلُّص من فساد العهد البائد، وإعادة صياغة الأنظمة والقوانين التي تضمن العدالة وتحفظ الحقوق وتشجع الاستثمار والإبداع وتقلِّل من الروتين الحكومي إلى أدنَى مستوى.. عندها ستكون ليبيا على موعد مع انطلاقةٍ كبرَى نحو المستقبل، انطلاقة تضعها في غضون سنوات ليست بالطويلة في مكان دوليٍّ محترم يستحقُّه الليبيون.