بكى الشعب على الملك. انتشر الخوف من تحول مصر إلى ملعب لفوضى الإخوان والشيوعيين. والشعب الذى رحب بالثوار، لم يكن كل الشعب المصرى. بقية الشعب ظلت تحت تأثير تربية عاطفية تطلب السلامة (والاستقرار) الذى يعنى: الرضا بالقدر وعدم الخروج عن النظام، والقبول بالظلم حتى يأتى الفرج. غالبا هذا ما حدث بعد يوليو 1952، وهذا ما يحدث اليوم. الفارق الكبير هناك أن الضباط الأحرار اقتنصوا السلطة وأزاحوا الملك، وهنا اختبأت كل عناصر الثورة المضادة فى الجحور ولعبت من دون قوة دافعة من أصحاب القرار. وهذا يعنى أن خريف مبارك لن يكون سهلا، فالسند الاجتماعى الذى تشكل فى عصره ومجموعات المصالح المرتبطة، ومن الشعب الذى وفق أوضاعه و«كبر دماغه» ليعيش على فتات العصابة الحاكمة.. هؤلاء خرجوا يوم جمعة النصر يحتفلون. تصوروا أن الدنيا ستتغير فى دقيقة وسيرحل مبارك وتصبح الحياة وردى على طريقة نهايات فيلم «إنجى» و«على ويكا». لكنهم اليوم يريدون العودة إلى الحياة القديمة، يبحثون عن صاحب السلطة الجديد ليعرفوا طريقته. الثورة ليست فى السلطة. والمجلس الذى فى السلطة يريد تسيير الأمور كما يريد. والثورة تحركها قوى جديدة على المجتمع المصرى، تتحرك بقوة وتأثير لكن وسط مناخ معاد إلى حد كبير. ليس لأنه يكره الثورة أو يرفض ما تريده، لكن لأن الثورة تتطلب ما لا يستطيع تقديمه. مبارك اختار من الأقزام، كهنته، وها هم يجتمعون فى أقفاص الجريمة بعد أن خربوا نفسية المصريين وأفقدوهم الثقة فى أن هذا الشعب يمكنه الخروج من شبكة العصابة التى تضخم أقزامها بعد أكبر عملية تصحير للحياة السياسية. نمت أحجام الأقزام فى هذه الصحراء الشاسعة، وبدت المعارضة مجرد نباتات صحراوية، تبحث عن مياه جوفية، وتقاوم وحيدة منفردة. مبارك انتهى وفى القفص؟ مبارك لا يشعر بالندم على جريمته، على العكس شعر بالفضل على البلد، وانتظر «الامتنان والشكر والإحساس بالجميل». الديكتاتور فى برجه، يتعامل مع شعب افتراضى، والنظام تتحول مهمته إلى ترويض الشعب على مقاس خيال الساكن فى البرج. خيال مبارك محدود، يرى العالم من ثقب باب كابينة فى سفينة غارقة، أحلامه لا تتعدى الطفو على الماء، ونظامه معدوم الكفاءة إلا فى ما يتعلق بالسيطرة والترويض. مبارك أنقذ مصر من وجهة نظره، وتركها صحراء وسطها منتجعات، وفى قلبها برج عال، تحميه أقزام بشهواتهم وقدرتهم على نشر الخوف والرعب، ليتصور الشعب أنهم آلهة، يحركون جيشا من الأرواح الشريرة. مبارك حكم بخياله المريض، ليرى الشعب عبيدا لا يعترفون بالجميل... ولا بخدماته. الثورة انفجرت فى قلب صحراء بشكل ما، وكشفت عمق الكارثة. نظام مبارك أقزام وليسوا آلهة، ولا سياسة فى مصر سوى جسارة كبرت إلى أن أصبحت «ثورة حياة أو موت». غياب مبارك خلف ستار الغرفة المغلقة، نتج عنه فراغ كبير عند عباد الديكتاتور وضحاياه، العبيد يبحثون عن ديكتاتور جديد، ويمنحون الجيش صك السيادة بلا شروط، وفى المقابل الثوريون اكتشفوا السياسة فى الميدان، ومعها شوق وجودى إلى ثورة لا تنتهى، ويشحنون «حالة الميدان» لتدخل إلى حالة دائمة، خوفا من الرجوع إلى حالة «ما قبل الثورة». فوضوية ثورية تلهث وراء سؤال يتكرر: ما العمل؟ لا تقبل الفوضوية بنصف إجابة، ولا تبنى على نصف الخطوة، إنها حالة مطلقة، لا تهادن مع الظروف ولا صراع القوى، وتمنح بطيفها الواسع نوعا من البراءة والعفوية، تتصادم أحيانا مع العقل أو الخبرة السياسية. الصدام يصنع عملية فرز جديدة على السياسة فى مصر، آلاف يدخلون المسرح بفوضوية تحطيم الآلهة، بينما العقلاء والحكماء يعتمدون خطابا براجماتيا، يحافظ على إله لاستخدامه فى التخلص من بقية الآلهة. المجلس العسكرى دخل المعركة إلى آخرها، كان الإله الذى راهن عليه الحكماء، وهرب منه نقاء الفوضوية، ويريد اليوم أن تنتهى الثورة ليبنى النظام الجديد بالطريقة التى يراها. المجلس صنع شعبا من منتظرى الديكتاتور ومن ركاب الموجات الباحثين عن فرصة، كل هؤلاء يتجمعون اليوم فى مواجهة الثورة ويريدون قتلها باسمها. هذه خرافة تعتمد على نشر اليأس كما كان مبارك يفعل هو وأقزامه، سكان أقفاص الجريمة الآن.