الانتصار الكبير للثورة هو ما اعترف به المشير. المشير قال فى مؤتمر صحفى مع المراسلين الحربيين: لا نقبل بضغوط شخص أو جهة على القوات المسلحة. وفى التحذير اعتراف بقوة الضغط، وبأن المجتمع الممثل فى الثورة، لم يعد خارج معادلة السلطة كما تعودت طوال 60 سنة. المجتمع حاضر ويضغط. والسلطة تزمجر.. وتكشف عن نيَّاتها. المشير تحدث فى مؤتمر بلغة حربية وأمام مراسلين من المفروض أن ينفرد بهم فى ساحات الحرب، تحدث المشير كأنه على الجبهة. لم يدرك المشير أن الثورة تعارض المجلس العسكرى لا القوات المسلحة، بمعنى أن الضغط هنا على الإدارة السياسية، والطلب واضح، أن يعود المجلس إلى القوات المسلحة، وإلى مهمته الأصلية: حماية الدولة، ويضاف إليها مهمة مؤقتة هى رعاية المرحلة الانتقالية فى موقع يشبه موقع ملكة بريطانيا... رعاية لا حكم. هذا هو المطلوب بعدما فشلت كل مسارات المجلس العسكرى وعادت بنا إلى نفس نظام مبارك: استبداد وتسلط وعجز إدارى. المجلس حطم كل المسارات المدنية الممكنة، أفسدها، وحشر أصابعه فى كل تفصيلة إلى أن أغلق الأفق السياسى الذى فتحته الثورة. لم يترك المجلس بسبب عقلية التسلط مساحة لنمو المجال السياسى، ولا الحياة السياسية السليمة، وتخيل أن أسطورة النواة الصلبة ما زالت فاعلة أو مهيمنة. المجلس أظهر فى الأشهر العشرة الماضية فشل العقلية التسلطية بالكامل، لم يعد مقبولا أن تدير المرحلة الانتقالية، ولا أن تبنى نظاما جديدا. وهذه العقلية نفسها عطلت فاعلية ذراعها المسيطرة بعدما أدخلتها فى اختبار آخر مع ثوار لا يهابون الرصاص ولا قنابل الغاز وأرواحهم لا تكسرها المدرعات ولا غطرسة فرق القمع بألوانها السوداء والكاكى وخوذاتها وقبعاتها الحمراء. الثورة قدمت شهداء فى مواجهتها مع نظام مبارك، وها هى ذى تقدم شهداء فى مواجهة مع مجلس يريد العودة إلى جمهورية العسكر المقنَّع، أو الجنرال بالملابس المدنية، أو جمهورية تحكمها المؤسسة العسكرية بعد أن تدهس المجتمع وتفرمه وتضعه فى أقفاصها من جديد. الثورة حطمت خرافات كثيرة أهمها انتظار العسكرى ليحررها من العسكرى الذى سبقه. انتظارات عطلت مصر وألقت بها إلى طابور الدول المنتجة للفقر. أجهزة البروباجندا التابعة للمجلس العسكرى تروج أن مصر فى أزمة اقتصادية، واستمرار الثورة خطر على الاقتصاد، ولا تعرف أن هناك من لم يعد يستسلم لهذه الخديعة، ويفكر: وهل الثورة أخطر من النهب؟ كيف حال اقتصاد امتصت قوته الحيوية عصابة لم يوقفها المجلس ولا قوته العسكرية؟ وهل نريد عودة عجلة اقتصاد لا ينتج سوى الفقراء؟ الثورة حطمت خرافات أيضا عن فشل المجتمع المدنى فى تنظيم نفسه، هناك خبرة الآن فى الإدارة الذاتية، وخيال فى مواجهة سلطة تعاملت مع المجتمع المصرى على أنه وحوش غير متحضرة لا بد من ترويضها. المجتمع المصرى أبدى تحضرا ورقيا فى ميادين التحرير، وأظهر شجاعة بالغة فى مواجهة آلات الحرب من النظام، كما تجلت جسارته فى الدفاع عن الحرية إلى آخر مدى. الحرية غالية، وهذا ما لا يعرفه المشير ومجلسه، وقوة مصر الحية من كل الأجيال تدافع عن حق الجيل القادم فى دولة تحترم الفرد وحريته وكرامته... دولة عدالة فى توزيع الثورة لا فى توزيع الفقر.. دولة لا تحاصر الخيال ولا تمنع التفكير ولا تطارد الإبداع... دولة لا تتعامل فيها السلطة مع الشعب على أنهم عبيد إحسانها، ولا يرتدى الجنرال بدلته من أموال هذا الشعب ليتصور أنه يمكن أن يقهر الشعب بها أو باسمها أو باسم ما يتخيله مصلحة الوطن. المجتمع عرف اليوم أن مصلحة الوطن لا تعنى ما تراه الدولة فقط، ولكن ما يراه المجتمع أساسا، ولا مصلحة لوطن فى دهس شباب يطالب بالحرية ولا ضرب متظاهرين يرفضون حكم العسكر بالغازات المحرمة. ما مصلحة الوطن فى حرب المجلس على الثورة؟ إنها مصلحة المجلس وشهوته لاستعادة قبضة الدولة الأمنية حيث الأمن يعلو ولا يُعلى عليه، والأمن هنا هو أمن محاصرة الحرية لا أمن الفرد العادى. حطمت الثورة خرافات، والمشير ومجلسه يدافعون عنها بكل بسالة وعناد.