هل انحرفت الثورة فعلا حتى نخرج في مليونية غاضبة لتصحيح مسارها؟ أم انحرف بعض الثوار عن مسار الثورة وأرادوا فرض وصايتهم على الشعب، وبالتالي وجب عليهم هم تصحيح موقفهم، والعودة لأحضان شعبهم؟!. ليس صحيحا أن الثورة فشلت كما يدعي بعض المحسوبين عليها، وليس صحيحا أنها انحرفت عن مسارها أبدا، كل ما في الأمر أننا وبعد أن فتحت لنا الثورة أبواب الحرية نريد تغييرا سريعا وشاملا في أقصر وقت ممكن، وهو مطلب مشروع بلا شك، لكن علينا أن ندرك أن دولة بحجم مصر وجهازا بيروقراطيا بحجم الجهاز المصري لايسهل تغييره بين يوم وليلة، المهم أن تكون خطتنا في التغيير واضحة ومجدولة وأن لانفقد العزيمة والإصرار لتطبيقها وفق ذلك الجدول، مع ممارسة الضغوط الشعبية المنسقة عند الحاجة. كبرت كلمة تخرج من أفواه الذين يدعون أن الثورة قد فشلت، إن يقولون إلا كذبا، وإن يريدون إلا نكدا، فالثورة حققت مالم نكن نحلم به – مجرد حلم- حطمت أصناما ما كنا قادرين على تحطيمها طيلة 60 عاما، قضت على مبارك وآل مبارك، وأحالتهم إلى مجرمين يقبعون خلف القضبان، يرسفون في الأغلال التي كبلوا بها شعبا كاملا من قبل، ويهربون من كاميرات التصوير التي كانت لاترى غيرهم من قبل، وينتظرون موعد الزيارة الأسرية في مواعيدها القانونية كأي سجين، ويستمعون لسبابهم وإهانتهم بأذانهم مباشرة في قاعات المحكمة وخارجها هذه الأيام. من ينكر أن الثورة فتحت أبواب الحرية على مصارعها أمام المصريين، فمن شاء أن ينشئ حزبا فما عليه سوى جمع 5 آلاف توكيل من بين الثمانين مليون مصري لتقديمها للجنة الأحزاب، ومن أراد إصدار صحيفة أو إطلاق قناة فضائية أو إنشاء نقابة أو جمعية او مركز فما عليه سوى تقديم الطلب بد استيفاء النواحي المالية والإدارية، ومن أراد أن يسافر إلى أي مكان فليسافر دون أن يجد قوائم منع تنتظره في المطارات والموانئ والحدود، ومن أراد أن يعقد مؤتمرا أو ينظم مظاهرة و اعتصاما فلن يجد كردونات من جحافل الأمن المركزي تطوق المكان، وتقبض على المنظمين والمشاركين. هاهي النقابات المهنية تنفض غبار الحراسة والتجميد، وتجدد مجالسها عبر انتخابات حرة انطلقت في بعضها بينما تستعد باقيها لإجرائها، وهاهي الجامعات تجري انتخابات لرؤسائها وعمداء كلياتها ورؤساء الأقسام فيها، من كان يحلم مجرد حلم بأن يتم ذلك في جامعات ظلت طوال 30 عام في قبضة امن الدولة، يعين رؤسائها وعمدائها، وأساتذتها وأعضاء اتحادات طلابها الخ؟!. من كان يحلم ان يغير العالم المتقدم نظرته لمصر وشعبها، وأن يتوافد زعماء العالم على مصر لزيارة ميدان التحرير رمز الثورة العظيمة، ومن كان يحلم أن المواطن البسيط سواء كان عاملا أو فلاحا يمكن أن يقف في وجه أعلى رتبة في قسم الشرطة مطالبا بحق من حقوقه، - رغم تخفظنا ورفضنا لأي تجاوزات في هذا المجال- . لايمكننا بطبيعة الحال تجاهل حالة الانفلات الأمني، وما تسببه من مصائب، ولايمكننا تجاهل تردي الوضع الاقتصادي وما يسببه من آلام، ولايمكننا تجاهل الفوضى الإدارية في بعض المصالح الحكومية، ولكن كل هذه الأمور هي تداعيات طبيعية جدا لثورة كبرى بحجم الثورة المصرية، وهي تداعيات وقتية تحركها أيادي الفلول والمتضررين من الثورة وستنتهي بمجرد استقرار الأوضاع ، وتنصيب حكومة منتخبة مدعومة بإرادة شعبية، ساعتها ستختفي الجرذان في جحورها، وسيعود الأمن إلى طبيعته، وتعود عجلة الإنتاج إلى الدوران بكل طاقتها لتعويض ما فات. ولايمكننا تجاهل أن الكثير من أوجه التغيير التي طالبت بها الثورة لاتزال معطلة، أو تنفذ ببطء، وبلا حماس في بعض الأحيان نتيجة بيروقراطية المجلس العسكري والعقليات القديمة التي لاتواكب روح الثورة، ولا أجد حرجا في تأييد المطالب المشروعة التي رفعها من دعوا لمليونية 9/9 وأهمها وضع جدول زمني محدد لنقل السلطة للمدنيين، ووقف المحاكمات العسكرية للنشطاء السياسيين، وتنقية مؤسسات الدولة من رموز العهد البائد وعلى رأسها الشرطة والإعلام والتعليم والاقتصاد، وإعادة الأمن للشارع، وكم كنت أتمنى أن تقتصر المليونية على هذه المطالب، وأن يكون هناك تنسيق مسبق لها بين قوى الثورة بإسلامييها وليبرالييها لضمان عدم الخروج عن هذه المطالب، لكن إضافة مطالب غير واقعية هو بمثابة وضع للعصي في الدواليب، وتعطيل للمسيرة الديمقراطية مثل الدعوة لتغيير قانوني الأحزاب والانتخابات، وإلغاء الدوائر الفردية، وتمكين المصريين في الخارج من الإدلاء بأصواتهم في انتخابات نوفمبر، فرغم أن هذه المطالب مشروعة تماما، إلا أن الإصرار على تنفيذها خلال اقل من شهرين أمر غير واقعي، وهدفه الحقيقي هو تعطيل الانتخابات لنعود مجددا إلى لعبة الدستور اولا والمبادئ فوق الدستورية، والحاكمة لاختيار لجنة الدستور، وبشكل عام فرض تصورات الأقلية على الأغلبية في انتهاك واضح لنتيجة أعظم استفتاء شهدته مصر في 19 مارس الماضي. الأمر لا يحتاج إلى مليونية توسع الانقسام بين قوى الثورة، وتدفع إلى صدام محتمل مع القوات المسلحة بعد أن هددت بعض الأطراف الداعية للمليونية إلى هذا الصدام بالفعل، واحتلال بعض المنشآت العسكرية الخ وهو ما رد عليه المجلس العسكري ببيان شديد اللهجة يوم أمس حمل فيه الداعون للمليونية المسئولية عن أي اعتداء قد يقع ضد القوات المسلحة ومنشآتها ورموزها، نحتاج فعلا إلى توحيد صفوف قوى الثورة خلف مطالب مشروعة، وعبر ممارسة حوار متكافئ مع المجلس العسكري، مصحوبا بضغوط حكيمة توافقية لتنفيذ باقي مطالب الثورة، والأهم هو التسريع بعقد الإنتخابات البرلمانية حتى يمكن للحكومة المنتخبة إعادة الانضباط الأمني ومواجهة الفلول والبلطجية، وحتى يمكن انجاز دستور حديث ينقل مصر إلى حكم مدني رشيد بعد 60 عاما من الحكم العسكري والقهر والتسلط