كاتبة، ناقدة وباحثة سينمائية . شاركت في تأسيس صحيفة الأسبوع المصرية وكتبت في مجالات عدة بها وشغلت منصب رئيس قسم الفن ونائب رئيس التحرير. كيف يتخذ السينمائي كل تدابيره لصناعة الصورة عابراً من واقعه، كيف يفلت من حُراس مجتمعه المخلصين لكل القيم الكلاسيكية، ويتحرر من الكليشيهات المتعددة والمتراكمة، ويصبح مديراً لموهبته؛ يعيد بناء العالم مثل لعبة "البازل"، صور متراصة يرتبها وفق وعيه وحلمه وتوازنه بين المتوقع والمباغت؟ كيف يتخذ السينمائي كل تدابيره لصناعة الصورة عابراً من واقعه، كيف يفلت من حُراس مجتمعه المخلصين لكل القيم الكلاسيكية، ويتحرر من الكليشيهات المتعددة والمتراكمة، ويصبح مديراً لموهبته؛ يعيد بناء العالم مثل لعبة "البازل"، صور متراصة يرتبها وفق وعيه وحلمه وتوازنه بين المتوقع والمباغت؟ لا أعرف لماذا طوقني هذا السؤال فيما كنت أتجول في شوارع بيروت مؤخراً، ربما لأنها مدينة مثيرة، سيرتها تقطع الأنفاس وسينماها على الأغلب تتعاظم بين الحرب والتمرد، وربما لأنها كانت مَعْبراً لسينمائيين كبار من أمثال "قيس الزبيدي" الذي داهمني اسمه على غلاف كتاب معروض في مكتبة أنطوان بشارع الحمرا: "قيس الزبيدي، لا أعرف لماذا طوقني هذا السؤال فيما كنت أتجول في شوارع بيروت مؤخراً، ربما لأنها مدينة مثيرة، سيرتها تقطع الأنفاس وسينماها على الأغلب تتعاظم بين الحرب والتمرد، وربما لأنها كانت مَعْبراً لسينمائيين كبار من أمثال "قيس الزبيدي" الذي داهمني اسمه على غلاف كتاب معروض في مكتبة أنطوان بشارع الحمرا: "قيس الزبيدي، الحياة قصاصات على الجدار" (نوفل/ هاشيت أنطوان، 2019)، الكتاب الأحدث للمخرج والمؤلف السوري الكبير محمد ملص، وربما كان نوعاً من الحنين، لكن ترى هل هو ذاته الحنين الذي يعنيه ملص حين باشر كتابه بجملة للروسي أندريه تاركوفسكي: "كيف كان في وسعي أن أتخيل، حين كنت أحقق الفيلم نوستالجيا، أن ذلك الشعور الخانق بالحنين، الذي يملأ فضاء الشاشة، سوف يصبح قدري بقية حياتي؟!"، على أية حال فإن السؤال تجسد أمامي في كتاب هو بالنسبة لي من نوعية الكتب التي تحرر الذات وتمنحها مسحة من التأمل بما فيها من الغواية الكاملة سواء في سرد الحكاية أو ما تضمنه هذا السرد من صور أخاذة، متتالية حسب السرد وطبيعة الشخصية المحكي عنها. ملص هو السينمائي الذي يكتب بالقلم والصورة، فيحرض على الحنين؛ ليس للماضي بوصفه العمر أو الزمن الجميل، وإنما للأحلام والسعي في مناكبها، كنت قبل مغادرتي القاهرة إلى بيروت قد انتهيت تواً من قراءة كتابه المرهف "مذاق البلح" (دار رفوف للنشر – دمشق، 2011)، نص أدبي، حميمي عن الأمل والسينما، الحب والصداقة، رحلة ملص العميقة في الذات الإنسانية وواقعها بكل ما يحتويه من أحداث مفصلية وفاصلة صارت تاريخاً، مثل هذا التاريخ الذي يرصده هنا مع واحد من أبرز رفاق مشواره هو قيس الزبيدي، عراقي يعيش بين سوريا ولبنان وبرلين، فيما كانت فلسطين هي محور أفلامه. وأما قيس، فقد حظيت بمقابلته مرتين في مصر منذ سنوات وأجريت معه حوارين؛ الأول في العام 2001، بدا آنذاك مجهدا لدرجة جعلتني أفكر في التراجع عن إجراء الحوار، كان قد انتهى لتوه من مشاهدة أحد الأفلام المشاركة في مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة، حيث كان عضواً في لجنة التحكيم الدولية بالمهرجان، لباقته الزائدة دفعته للإجابة عن السؤال تلو الآخر فتحدث معي عن مشاركته في هذه الدورة التي حملت عنوان "دورة العودة" بعد انقطاع دام ما يقرب من 7 سنوات قبل أن يعيده الناقد الراحل علي أبو شادي لما تولى رئاسة المركز القومي للسينما، وتحدث أيضاً عن علاقته بالسينما التسجيلية وعن القضية الفلسطينية في أفلامه، وعن "اليازرلي" فيلمه الروائي الذي أنتجته مؤسسة السينما السورية في العام 1974، فيما كانت مقابلتنا الثانية في العام 2004 كذلك في أثناء فاعليات مهرجان الإسماعيلية، إذ كان حضوره مؤثراً في قاعات العروض والندوات ومناقشات النقاد والصحفيين، سواء في برنامج تكريم المخرج الألماني "رونالد تريش"، أو حول قضايا سينما الحقيقة أو السينما التسجيلية، يقينه الذي يتمسك به منذ البدايات. والاثنان (ملص/ الزبيدي) من الرجال الذين صنعوا تلك السينمات الباهرة، بما احتوته شكلاً ومضمونا، أفلامهما تسللت إلى وجداننا وصميمنا الإنساني بهذا الشعور الحليم بنا في عتمة الصالات، ظلال صامتة أو ناطقة لكنها استدعت الكثير من اللوعة واللهفة الممشوقة في دواخلنا، المنعكسة على وجوهنا المتعبة، إنه الجمال والإدراك الذي نحتاجه في عيشنا المضطرب من مسافة مضبوطة كالتي يرسمها هذان الصديقان اللذان جمعهما الاشتغال السينمائي، وعاش معاً سنين عدة من العمر والمهنة والتوق الشديد في حياة يقيسانها على مقاس السينما، ولعل هذا جزء من روعة كتاب "الحياة قصاصات على الجدار"، عنوان شعري يحمل في دلالته اللغوية والوصفية أحد مفاتيح الدخول إلى عالم قيس الزبيدي، كما عرفه محمد ملص وكتب عنه بأسلوب روائي عن المبدع الكبير الذي هيمن المونتاج على حياته، حتى صار واحداً من أعلامه: "أصبح المونتاج مرجعاً لحياته ولقراءاته الكثيرة عن السينما، وغيرها من القراءات الأدبية والنظرية والفكرية، واتخذ منه منذ بداية حياته هدفاً، واختاره لدراسته الأكاديمية الطويلة، ثم أخذ يعيشه مهنة وفضاء لإبداعه". يرسم ملص بورتريهاً عن الزبيدي، اعتمد فيه على المعايشة والتجربة الشخصية وأحاديث وحوارات جمعتهما في مرحلة مهمة من تاريخ السينما العربية عموماً، والسورية خصوصاً؛ حيث نشأت المؤسسة العامة للسينما السورية في السبعينيات، وحينها كانت بداية التعارف بينهما، سمع ملص عن اسم قيس منذ كان طالباً في معهد السينما في موسكو أوائل السبعينيات ضمن أسماء أخرى لسينمائيين ناضلوا لتأسيس سينما سورية جديدة، لذا فإن هذا البورتريه وإن قيس الزبيدي محوره وموضوعه، لكنه يسرد من خلاله تاريخ فترة حفلت بالكثير من الأحداث والأفلام الكبيرة والأسماء المرموقة، بحيث إنه لا يمكن الحديث عن الزمان والمكان والشخصية الحدث والموضوع في هذا الكتاب، دون التطرق إلى سعد الله ونوس وعمر أميرلاي ونجيب سرور وحتى توفيق صالح، جيل من السينمائيين الذين سعوا إلى صناعة سينما بديلة، وإيجاد لغة تجديدية تنحو بعيداً عن الاستسهال أو الخطابية والمباشرة. إنه الملمح الجامع بين الزبيدي ورفاقه، الذي يرد في تبويب الكتاب تحت عناوين مثل: "شيء من الذاكرة، قيس كما يصور نفسه، قيس يختار دمشق، الأفلام التي شارك قيس في تحقيقها، الأفلام التي أخرجها قيس في سوريا، نظرة من اليوم لأفلام قيس، الأفلام التي حققها قيس خارج سوريا"، وفيها يسلط الضوء على نواح عدة، منها الناحية الإنسانية ونشأته في العراق التي كونت شخصيته السينمائية، وطريقته في التعاطي مع الحياة، هذا غير مشواره العملي كمونتير ومصور ومخرج حمل فلسطين في أفلامه التي كانت ذاكرة خصبة للقضية الفلسطينية، فكان الفنان الذي خلق وثيقته، حسب عنوان مقال الفلسطيني فيصل دراج، الذي استشهد به ملص في كتابه هذا، وفيه يرى أن قيس الذي رحل عن العراق، قاسَمَ الفلسطينيين غربتهم وخفف الفلسطينيون من غربته، قائلاً: "لم يكن قيس، ربما، مشغولاً بالعراقي الذي كانه، ولا بالفلسطيني الذي صاره، كان مأخوذاً بعلاقتين أكثر أهمية: الإنسان الحر عن قضية عادلة، والفنان العادل الذي ينصر المدافعين عن الحرية". كذلك استعان المؤلف بمقال للفلسطيني بشار إبراهيم عن " حصار مضاد" (1978)، كاشفاً عن زاوية أخرى للزبيدي تجاه القضية الفلسطينية، ولم ينسَ ملص نظرة على التجربة المشتركة بينهما، منذ مشروعهما الأول فيلم "المنام"، ثم "الليل"، "حلب مقامات المسرة"، "البحث عن عائدة"، مستعيداً إياها من خلال دفاتره ويومياته، متأملاً للتحولات بنظرة السينمائي الذي يوثق مشوارا سينمائيا آخر متماهياً مع مشواره هو شخصياً والمشوار السينمائي الكبير في بلده، ما يجعلني أتوقف مرة أخرى عند سؤال مغاير حول ما يمكن أن يضيفه قراءة مثل هذا الكتاب؟ إذ إنه غير متعة القراءة في حد ذاتها، ثمة ما يسد الفراغات ويصنع الجمال ويكف عن الأرواح المضطربة ما تراه العين ويحدسه الذهن من خلال واقعنا المحيط، والأهم أنه وثيقة سينمائية مهمة لكل باحث أو متابع أو مهتم.