لما أحس نبى الله زكريا باقتراب أجله، وأن الشيب قد اعتلى رأسه، ولم يرزقه الله بولد، وهو مسن لا يولد لمثله، وامرأته عاقر لا تنجب، واجتمعت الأسباب الأرضية على عدم الإنجاب، ولكن نبى الله لم يتسلل إلى قلبة اليأس لعظيم ثقته فى رحمة الله، فدعا ربه بهذا الدعاء الذى خلده القرآن الكريم فى قوله تعالى: "وزكريَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا، قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّى خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِى وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا. وفى تفسيرالإمام الشعراوى رحمه الله لهذه الأية، قال لما بشرالله تبارك وتعالى زكريا بالولد تعجب، لأنه نظر إلى معطيات الأسباب، كيف يرزقه الله الولد، وقد بلغ من الكبرعتيا وامرأته عاقر، فأراد أن يؤكد هذه البشرى، "قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلاَمٌ وَكَانَتِ 0مْرَأَتِى عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ 0لْكِبَرِ عِتِيًّا، قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا". ثم يذكر حيثيات ضعفه وكبر سنه، وكون امرأته عاقرا، وهى حيثيات المنع لا حيثيات الإنجاب، لأن الله يرزق من يشاء بغير حساب وبغير أسباب. وهنا يطمئن الله تعالى نبيه زكريا ويقول له اطرح الأسباب الكونية للخلق، لأن الذى يبشرك هو الخالق، وقد تعلم زكريا من كفالته لمريم أن الله يعطى بالأسباب، ويعطى إن عزت الأسباب. وفى تفسير الفقهاء فى هذه الآية، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير، كانت عاقرا لا تلد فولدت، وقال عبد الرحمن بن مهدى عن طلحة بن عمرو عن عطاء، كان فى لسانها طول فأصلحها الله، وفى رواية: كان فى خلقها شيء فأصلحها الله، وهكذا قال محمد بن كعب والسدى، والأظهر من السياق الأول. ولقد استجاب الله تبارك وتعالى لسيدنا زكريا وفق ما يتمناه، وقد بشره ببشارات كثيرة منها: أن امرأته ستنجب غلامًا، وهذا دليل على أن كبر السن والشيخوخة ليس لهما أى أثر سلبى فى الإنجاب، فبشارته بغلام من باب اعتبارما سيكون، تيمنا بسلامته، ويدلل على ذلك اسمه "يحيى" الذى لم يكن أحد ليتسمى به قبله. كذلك من صفات الغلام الذى سيرزقه الله به، أن يكون حكيمًا وهو صبى، ويكون رحمة للناس، وعطوفًا عليهم، سيكون تقيا مطيعا، منزهًا عن الذنوب والمعاصى والآثام، مطهرًا منها، سيكون بارا بوالديه، كثير الإحسان إليهما، غير عاص ولا متجبر عليهما، ولا مخالف لأمر ربه، سيكون زاهدًا متعففًا لا يقرب النساء، سيكون نبيا صالحا. ومن الأمورالمستفادة من دعاء سيدنا زكريا هى أداب الدعاء مع الله عدم الجهر بالصوت، فزكريا نادى ربه نداءً خفيا، ويدل هذا الأمر أيضًا على: حسن التأدب مع الله تعالى، ومناجاته ربه ليلًا، صدق دعائه وإلحاحه عليه، وقام يدعو ليلًا، وإخلاص العبد فى الدعاء، لئلا يمازجه رياء، وصدق التوكل على الله وشدة ثقته به.