في أحد أروقة جامعة كاليفورنيا بمدينة سان دييجو، داخل مختبر تغمره شاشات المحاكاة والبيانات البيولوجية، يجلس شاب مصرى ينظر فى التفاصيل الدقيقة لبروتين فيروس نقص المناعة البشرية، المسبب لمرض الإيدز، باحثا عن نقطة ضعف فى جسد هذا الفيروس الذى حير العلماء لعقود. ◄ حائزة على نوبل أشادت باكتشافي.. وتلقيت طلبًا لإدراجه في مرجع عالمي ◄ أحلم بمنصات بحثية مصرية تضاهى «العالمية».. وأنا جاهز للمساعدة ◄ نمتلك العقول فقط نحتاج فرصة إنه الدكتور محمد شحاتة، ابن محافظة القليوبية، الذى أصبح اليوم أحد أبرز الباحثين فى مجال دراسة الفيروس، لكنه حين يتحدث عن إنجازه، لا يرفع صوته بالحديث عن المجد، بل ينحنى بتواضع للعلم، قائلا: «لا أزعم أننى حللت لغز الفيروس.. لكننى فقط أضأت زاوية كانت مظلمة منذ زمن». رحلة بدأت من بنها ولد محمد شحاتة عام 1992 فى القليوبية، ودرس الكيمياء فى كلية العلوم بجامعة بنها، حيث تخرج عام 2013، كانت الكيمياء آنذاك لغة غامضة بالنسبة للكثيرين، لكنها كانت بالنسبة له وسيلة لفهم الحياة والموت. ويقول «منذ أول تجربة معملية شعرت أننى أملك مفتاحًا لفهم ما لا يُرى، وكانت هذه الفكرة وحدها كافية لأن تغير مجرى حياتي». توالت بعدها محطاته العلمية بين تركيا، إيطاليا، إسبانيا، ألمانيا، وصولا إلى الولاياتالمتحدة، نال الماجستير فى الكيمياء الحيوية، ثم الدكتوراه فى التكنولوجيا الحيوية الطبية، ومع كل انتقال، كانت الأسئلة تكبر في رأسه: كيف يراوغ الفيروس الجهاز المناعي؟ وكيف يمكن منعه من الاختباء؟ ■ د. محمد شحاتة ◄ فتح جديد في فهم الفيروس فى دراسته الأخيرة التى لفتت أنظار المجتمع العلمي، قاد شحاتة مشروعا استخدم فيه أحد أقوى الحواسيب الفائقة فى العالم لمحاكاة بروتين الغلاف الفيروسى لفيروس الإيدز وكانت المفاجأة: «اكتشفنا أن هذا البروتين لا يقف ساكنا كما كان يُعتقد، بل يميل بزاوية تصل إلى 40 درجة، وهى حركة دقيقة وموجهة من نوعين من السكريات». هذا الميل، كما يشرح، ليس حركة عشوائية، بل تكتيك فيروسى ذكى يخفى به الفيروس مناطقه الحساسة التى تستهدفها الأجسام المضادة، والآن، وبهذا الفهم الجديد، بات بالإمكان تصميم أدوية ولقاحات تستهدف هذه الحركة نفسها. وكانت نتائج البحث قوية لدرجة أنها استوقفت كارولين بيرتوزي، الحائزة على نوبل فى الكيمياء عام 2022، التى وصفت الدراسة بأنها «اختراق مذهل فى عصر الغلايكو»، وهو مصطلح حديث يشير إلى المرحلة المتقدمة التى وصل إليها العلم فى فهم وتوظيف علم السكريات الحيوية، أو ما يُعرف ب «الغلايكانات» فى الطب والبيولوجيا. كما طلب البروفيسور كونراد نيلسون، مؤلف أحد أهم مراجع علم الأوبئة، إدراج نتائج الدراسة فى النسخة القادمة من كتابه. ويقول شحاتة بلهجة يملؤها الفخر «حين وصلنى هذا الطلب، شعرت بأن ما نقوم به هنا قد يصبح حجر أساس لفهم أفضل، وعلاج أكثر دقة، وهذه اللحظات تذكرك لماذا اخترت هذا الطريق». ◄ لقاح جديد ضد كورونا وفى سياق مختلف، ساهم شحاتة فى مشروع لتصميم لقاح جديد لفيروس كورونا يركز على الجزء الثابت من البروتين الشوكى فى الفيروس، بدلًا من الجزء المتغير المستخدم فى اللقاحات الحالية، وهذا التعديل سمح بمناعة أكثر استقرارا ضد السلالات المختلفة، وتم تقديم طلب براءة اختراع لهذا الإنجاز. ويقول «تعلمت من فيروس الإيدز أن الذكاء فى مواجهة الفيروس لا يكون دائما فى مهاجمته المباشرة، بل فى معرفة الجزء غير المتغير منه.» ◄ بين المختبر والحنين إلى الوطن ورغم انغماسه فى أبحاثه المتقدمة، لا يزال محمد شحاتة يحتفظ بصلته العاطفية والعلمية بمصر، ويعبر دوما عن رغبته فى رد الجميل لوطنه. ويقول: «أرى فى شباب مصر طاقات علمية هائلة، فقط نحتاج إلى بيئة حقيقية تُنصت إليهم، وأنا مستعد تماما للمساهمة فى بناء منصات بحثية مصرية تضاهى العالمية، والمساهمة فى تدريب الأجيال الجديدة من العلماء». ويستدرك، وكأن صوته يحمل شيئًا من الحنين: «كل إنجاز علمى أحققه هنا... أشعر أن قطعة منه تعود إلى هناك، إلى الشارع الذى نشأت فيه، إلى معلمى الأول، إلى كلية العلوم فى بنها». وفى ختام الحوار، يتحدث شحاتة بصوت يشوبه التأمل: «من أجمل لحظات مسيرتى أن أدرك أن ما أفعله قد يُلهم من يأتى بعدي، فالعلم ليس معادلات وحسب، بل هو جسر نعبره لنوصل شعلة المعرفة إلى من بعدنا، و يسعدنى أن أكون قد وضعت حجرا فى هذا الجسر».