تعد قصة ولادة النبي يحيى ابن سيدنا زكريا من أروع الأمثلة التي يمكن أن تقال في الصبر والرضا والثقة في الله تعالى، وأفضل مثال على الأمل وقيمة الرجاء حتى في ساعات الشعور باليأس، ولا يأس مع رحمة الله تعالى. تزوج النبي زكريا من امرأته ولكنه مرت السنين ولم يرزقه الله بالذرية، صبر وشكر وظل يعمل في مهنته وهي النجارة، ومازال هكذا حتى ابيض شعر رأسه. كان قوم سيدنا زكريا أشرار فجار، لابد لهم من وازع يردعهم عن غيهم، ولو خُلُّوا ونفوسهم الشريرة، فإنهم يمحون الشريعة، وينشرون الفساد، ويغيرون معالم الكتاب. وذات يوم اجتمعت الهموم على النبي زكريا فجلس يشكو ربه وقلبه ينفطر من الحزن {قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا} (مريم:4-6). فكما قال ابن كثير: أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفاً سيئاً، فسأل الله ولداً، يكون نبياً من بعده؛ ليسوسهم بنبوته وما يوحى إليه. ولأن الله لا يضيع أجر الصابرين، ورغم الشيخوخة التي تنهش في عمر الزوجين الكريمين، استجاب الله لدعائه ولكن هل سيصله النبأ كأي أمر عادي يحدث للبشر، أم أن الله أعد له مفاجأة لم تحدث مع غيره زادت من فرحته وخصته دون غيره؟. هو نبي ومقامه عال ولابد له ممن يحمل الرسالة بعده، ليس من الطبيعي أن تنمحي الدعوة بموته في بلده، ولهذا دعا الله بالذرية التي تحمل تلك الرسالة. ظلت هذه الخواطر تراود تفكير زكريا صباح مساء، وليل نهار، إلى أن ذهب ذات يوم إلى معبد يتعبد فيه، فوجد فيه مريم عليها السلام رابضة في محرابها، غارقة في تفكيرها، ورأى بين يديها أمراً لم يعتده من قبل، حيث رأى عندها فاكهة الصيف، والوقت وقت شتاء، فينطلق سائلاً إياها: {يا مريم أنى لك هذا} آل عمران:37، فتجيبه بفطرتها السليمة، ولسانها الصادق: {هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} آل عمران:37. عند ذلك أدركت زكريا حالة جديدة، ودخل في تأمل عميق؛ فلقد أثار هذا الحدث غير العادي في نفسه الحنين إلى الولد، والرغبة في البنين! حقاً، لقد أصبح طاعناً في السن، وهو أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، وحال زوجه كذلك، ولكن أليس الله - الذي أبطل لمريم عليها السلام الأسباب الظاهرة - بقادر على أن يرزقه ولداً، يرثه من بعده في علمه وسلوكه؟. ولم يطل التفكير بزكريا كثيراً، بل توجه إلى الله بعقل حاضر، وقلب خاشع، ولسان صادق، فقال: {رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء} آل عمران:38. وفي موضع آخر يخبر القرآن عن دعائه بقوله: {رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين} الأنبياء:89. أظهر زكريا في دعائه أسمى ألوان الأدب مع خالقه، حيث توسل إليه سبحانه بضعف بدنه، وبتقدم سنه، وبما عوده إياه من إجابة دعائه في الماضي، حاملا في قلبه أثمن معاني الثقة في رحمة الخالق. وجاءه ذات يوم وهو في بيته بشر طيبي الهيئة على وجوههم صفة الملائكة، وبالفعل فهي المفاجأة التي يعدها الله لعبده المخلص، لم يرزق زوجة النبي زكريا طفلا بالطريقة المعتادة كحمل يعرف بأعراضه، أو يتركه ليكتشف الأمر مصادفة، ولكنه تعالى أرسل إليه الملائكة يبشرونه {يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا} مريم:7، وفي ذلك التبليغ حماية للنبي زكريا من أثر الفرحة وتهوينا عليه ما يمكن أن يقوله الناس وردا على جميع أسئلته. من وقع المفاجأة، سأل زكريا ربه؛ طلباً للطمأنينة {رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا} مريم:8، ليس شكا في قدرة المولى عز وجل، ولكن طلب الإلهام من الله ليرد على أسئلة واستفسارات قومه. فأجابته الملائكة: أليس الله -الذي خلقك من قبل ولم تك شيئاً- بقادر على أن يرزقك الولد، وإن كنت وزوجك على أعتاب الآخرة؟. لقد منَّ الله على نبيه زكريا بولد اسمه يحيى، بعد أن ظن أن لا مجال للولد، ولا سبيل إلى ذلك، بيد أن قدرة الله لا تخضع للأسباب، ولا تقاس بالعادات، بل {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} يس:82.