عندما اقترع علماء بني إسرائيل أن يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم بعد وفاة والدها "ورد ذلك في سورة آل عمران"، جعل الله تعالى القرعة تقع على سيدنا زكريا عليه السلام وكفَّله تعالى تلك البنت الصغيرة الناشئة على عبادة ربها، ولو أنَّ أولئك العلماء عرفوا مقام سيدنا زكريا في النبوة وعظيم معرفته بالله تعالى لما تجرَّأ أحد منهم على أن ينازعه في أمر تربيتها. فتح الله على السيدة مريم فتحًا عظيمًا وكان سيدنا زكريا عليه السلام كلما دخل عليها المحراب وجد عندها من العلم والمعرفة بالله رزقًا جديدًا فكان يعجب مما يسمعه منها ويسألها يا مريم أنَّى لك هذا فتقول هو من عند الله إنَّ الله يرزق من يشاء بغير حساب. هنالك لمّا رأى سيدنا زكريا ما في الولد الصالح من الخير وحيث أنه خاف على أتباعه من بعد موته أن ينحرفوا عن طريق الحق ويضلوا سواء السبيل لذلك طلب من الله تعالى أن يهبه من لدنه وليًا أي ولدًا صالحًا مواليًا له يرثه في مقام الدلالة على الله ويرث النبوة السارية في آل يعقوب، فيقوم مقام المرشد لأولئك الأتباع. أهل الإيمان والمعرفة إنَّما يطلبون الولد لمثل هذه الغاية السامية قال تعالى مُشيرًا إلى قصة سيدنا زكريا عليه السلام في مطلبه هذا بقوله الكريم: كلَّما دَخَلَ عَلَيهَا زَكَرِيَّا المِحرابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَت هُو مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرزُق مَن يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ، هُنالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَدُنكَ ذُرِيَّةً طَيِّبةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ" آل عمران 37-38. قال تعالى في مطلع سورة مريم: "كهيعص، ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَريَّا، إذْ نَادى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًا، قَالَ رَبِّ إِني وَهَنَ العَظمُ مِني واشْتَعَل الرَّأسُ شَيبًا وَلَم أَكُن بِدُعائكَ رَبِّ شَقِيًا، وَإِنّي خِفْتُ المَواليَ مِن وَرَاءِى وَكَانتِ امْرأَتي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَدُنكَ وَليًا، يَرِثُني وَيَرِثُ مِن آلِ يَعقُوبَ واجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا" سورة مريم 1-6. وقد سمع الله تعالى ذلك النداء الخفي الصادر من تلك النفس المؤمنة بربِّها واستجاب تلك الدعوة المنبعثة من قلبٍ مؤمن موقن بأن الله تعالى لا بدَّ مجيب دعاءه فليس على الله بعزيز أن يهبه ولدًا ولو أن امرأته كانت عاقرًا ولو أنه اشتعل رأسه شيبًا وبلغ من الكبر عتيًا، ولذلك أرسل الله الملائكة تُبشِّرهُ بيحيى وأشار تعالى إلى ذلك بقوله الكريم: "فَنَادَتهُ المَلاَئِكَةُ وَهُو قَائِمٌ يُصَلّي فِي المِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدّقًا بِكَلِمةٍ مِن اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنبيًا مِنَ الصَّالِحينَ" آل عمران 39. كما أشار تعالى إلى ذلك في موضع آخر من القرآن الكريم فقال سبحانه: "يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمهُ يَحيى لَم نَجْعَل لَهُ مِن قَبلُ سَمِيًّا، قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكونُ لِي غُلامٌ وَكَانتِ امْرأتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِن الكِبَرِ عِتِيًّا" سورة مريم 7-8. سأل سيدنا زكريا ربه بقوله: "رَبِّ أَنَّى يَكونُ لِي غُلامٌ وَكَانتِ امْرأتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِن الكِبَرِ عِتِيًّا"، وهكذا فقد طلب سيدنا زكريا من ربِّه أن يعرِّفه بالكيفية أي الطريق التي سيكون بها الولد فقال: "رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ" أي: أريد بسؤالي هذا أن أعرف الكيفية التي سيكون بها الولد فأجابه الله تعالى بما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: "قَالَ كَذَلِكَ" أي: مع هذا الحال الراهن الذي أنت وزوجك فيه سيكون لك الولد فمن امرأتك هذه ومنك أنت وقد بلغت هذا السن. ثمَّ فصَّل تعالى ذلك بقوله الكريم: "قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا" سورة مريم 9. هنالك طلب سيدنا زكريا عليه السلام من ربِّه أن يجعل له آية أي إشارة ودليلًا يتعرف به إلى الوقت الذي سيهبه الله تعالى فيه ذلك الغلام، "قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا" آل عمران 41. وقد نفَّذ الله تعالى وعده لنبيه فأصلح له زوجه ووهبه يحيى. قال تعالى: "وَزَكَرِيَّا إذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيرُ الوَارِثِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبنا لهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنا خَاشِعينَ" الأنبياء 89-90. وقد أمر تعالى سيدنا يحيى أن يأخذ الكتاب أي التوراة بقوة بأن يقوم بتبليغها على حقيقتها مبيِّنًا شذوذ الناس عنها بجرأة لا يخشى في الحق لومة لائم، وآتاه الله تعالى الحكم صبيًا، أي علَّمه كيفية وضع كل حكم من أحكام التوراة في موضعه شرحًا وتبيانًا وإيضاحًا لحكمته العليّة. فقال تعالى: "يَا يَحْيى خُذِ الكِتَابَ بِقُوةٍ وَآتَيناهُ الحُكْمَ صَبِيًّا". ثمَّ بيَّن لنا تعالى ما انطوى عليه قلب هذا النبي الكريم من الحنان وما تحلَّت به نفسه من الزكاة أي الطهارة وبيَّن تعالى أنَّ الحنان والطهارة النفسية إِنَّما يشتقها العبد من الله تعالى فقال: "وَحَنَانًا مِن لدُنَّا وَزَكَاةً". ثم بيَّن لنا تعالى أن التقوى أي أن الاستنارة بنور الله تعالى هي الأصل لا بل هي الطريق الموصلة إلى الحنان والزكاة فقال تعالى: "وَكَانَ تَقِيًا" ثم أتبع ذلك بقوله الكريم: "وَبرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا" مريم 12-14.