هل تغير دور المثقف فى أعقاب 25 يناير 2011، وما بعد من أحداث وتطورات، فى ضوء نهاية أدوار "مثقف حركة التحرر الوطنى"؟ ابتداء لا بد من الإشارة إلى الأدوار البارزة التى لعبها المثقف المصرى فى التمهيد للعملية الثورية الكبرى فى 25 يناير وما بعد، التى تمثلت فيما يلى: 1- استمرارية إنتاج المثقف للخطاب النقدى الاجتماعى والسياسى والثقافى للدولة وللنظام السياسى والسلطة السياسية، والنخبة الحاكمة أو المعارضة من خلال المقاربة البنائية للاختلالات التكوينية، وفى السياسات، والممارسات وأنماط التجنيد، والتعبئة، والجمود والركود السياسى، وإعادة إنتاج الاختلالات، والفشل فى السياسات العامة، وتراجع الدور والمكانة الإقليمية، وفقدان الديناميكية السياسية ثم التناول النقدى القطاعى لكل سياسة من السياسات وتقديم البدائل الملائمة فى إطار تصورات كلية. من ناحية أخرى: النزوع لنمط من الإصلاح الشامل والقطاعى، انطلاقًا من أن الأوضاع لا يشير إلى تراكمات ومؤشرات تسمح بانفجارات ثورية. (وهو ما سعى إليه د. محمد السيد سعيد). 2- دور بعض المثقفين فى إطار الحركة المصرية والعربية لحقوق الإنسان، وعلى رأسهم محمد السيد سعيد وأحمد عبد الله رزة وآخرون، وفى الإطار الدولى. وإنماء الوعى الحقوقى العام بأهمية منظومات حركة حقوق الإنسان. 3- من الشيق ملاحظة أن مفكرنا محمد السيد سعيد وآخرين، رادوا هذا التحول، وعاد بعضهم إلى بعض من أدوار -المثقفين فى إطار حركة التحرر الوطنى، من حيث الملاءمة بين الاستقلالية فى الحركة، والدور النقدى، ثم المشاركة الفعالة فى أطر معارضة مستقلة كحركة كفاية التى شكل أحد أبرز عقولها المفكرة، فى التخطيط وفى الفعل السياسى خارج الأطر الرسمية والمعارضة فى إطارها، بما فيها الحركة فى الشارع السياسى، وإبداء أشكال رمزية من الاحتجاج على سياسات النظام، ورفض التمديد لرئيس الجمهورية الأسبق حسنى مبارك، وتوريث السلطة لنجله، على نحوي يتنافى مع تقاليد الجمهورية المصرية التسلطية. من ناحية أخرى إصداره لصحيفة البديل اليسارية، وسياستها التحريرية النقدية، ونزوعها إلى تبنى مصالح الفئات الشعبية، والوسطى. 4- أثر المثقفين المصريين -وعلى رأسهم محمد السيد سعيد- على توجهات بعض الطلائع الشابة من النشطاء السياسيين والحقوقيين، سواء بعض المجموعات كحركة 6 أبريل، وبعض الاشتراكيين الثوريين، وربما بعض (الأناركيين) الفوضويين، من حيث الشرعية الواقعية لوجودهم فى الحياة العامة. هذه الأدوار النقدية على صعيد إنتاج الأفكار والمعرفة والوعى السياسى والاجتماعى من ناحية، والحركة الفاعلة على الأرض، أضفت الشرعية والمصداقية على مكانة ودور المثقف، إزاء خبراء السلطة، أو إزاء نمط الإعلامى والأكاديمى الداعية لها، والمبرر لسياساتها والمشرعن لها. 5- شارك بعض المثقفين الكبار فى الحركة النشطة فى الانتفاضة الثورية فى 25 يناير 2011، وفى فعالياتها، وفى حث المواطنين على المشاركة من خلال دورهم فى التعليق على الأحداث، والكتابة فى الصحف، وفى البرامج الحوارية. ثم حدث تراجع فى هذا الدور لأن بعضهم -من جيل السبعينيات- أثر ترك الساحة للأجيال الجديدة الشابة أن تتراكم خبراتها العملية من خلال الممارسة. بعض المثقفين حاول توظيف الانتفاضة الثورية للظهور السياسى، ولتحقيق بعض مصالحه الذاتية، بعضهم للوثوب ضمن تحالفات المرحلتين الانتقالية الأولى والثانية -فى ظل حكم جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين- وتقربًا من المؤسسة العسكرية الوطنية ممثلة فى المجلس العسكرى. بعض هؤلاء من المثقفين كانوا على مقربة من بعض أجهزة الدولة المصرية العميقة، ويلاحظ أن خطابهم اتسم باللغة الخشبية، والكلاشيهات السياسية، والنزعة الشعاراتية، ومن ثم افتقدوا النزعة النقدية، واستيعاب الدرس النظرى والتطبيقى المقارن حول التمايز بين الأنماط الثورية، والانتفاضية، ومن ثم القدرة على تحليل الواقع الموضوعى، والقوى الفاعلة داخله، وما هى توزيعات القوة الفعلية بين هذه القوى. كان الخطاب الشعارى هو المسيطر على كل الأطراف على اختلاف توجهاتها الإيديولوجية، وانتماءاتها الاجتماعية، ناهيك عن نخبة الدولة العميقة وأجهزتها الفاعلة فى مسارات الأحداث. كان المجاز السياسى "للثورة" غلاب فى الخطابات، والأوصاف والكتابات، والتحليلات سابقة التجهيز الشعارى، ومن ثم تدفقت الأخطاء الفادحة فى الوصف والتحليل والاستنتاجات. تراجع سمت ووظيفته ودور المثقف لصالح الناشط السياسى والإيديولوجى، ومن ثم صعود الشعاراتية، والانتهازية السياسية، والشعبوية الدينية من قبل نشطاء الحركة الإسلامية، والسلفية السياسية على نحو أدى إلى شروخ واستقطابات أدت إلى تزايد حدة ولهجة الخطابات الشعاراتية. لا شك أن هذه البيئة المضطربة، والتى يشوبها عدم الاستقرار، والفجوات الأمنية، والعنف المادى واللفظى والرمزى ذو المحمولات الدينية، أدت إلى اجتياج بعض أدوار المثقفين النقدية، وضعف قدراتهم على وصف وتحليل الواقع الموضوعى فى ضوء تجارب الانتقال السياسى المقارنة فى أعقاب انهيار النظم الشمولية والتسلطية، وعمليات التحول إلى الديمقراطية نستطيع القول أن الدرس النظرى والنطيفى للانتقال الديمقراطى، كان أحد أهم القضايا التى اهتم بها محمد السيد سعيد فى كتاباته، لا سيما فى الانتقال السياسى المحتجز، وهو ما كشف عن أهميته الاستثنائية في ضوء الفوضى الفكرية والفقر النظرى والمقارن والتطبيقى حول تجارب الانتقال السياسى نحو الديمقراطية والمعوقات البنائية إزاء التحول الديمقراطى فى السياسة، والميراث الدينى، والهيكل الاجتماعى، والثقافة السياسية السائدة. كان غياب المعرفة والخبرات النظرية والتطبيقية لدى النخب الصاعدة فى مشاهد يناير المتغيرة والمرحلتين الانتقاليتين الأولى والثانية أحد الأعطاب الهيكلية إزاء تعثر عمليات الانتقال السياسى، من ناحية أخرى، ساهم ذلك فى تفاقم الاستقطابات السياسية وسعى القوى الإسلامية، والسلفية السياسية، فى فرض تصوراتها حول الدستور، وحول قائمة أعمال التحول السياسى. * البيئة السياسية والأمنية المضطربة أدت إلى تأثيرات سلبية على أدوار غالب المثقفين -والاستثناءات هامة ومحدودة- التى تراجعت، وذلك على النحو التالى: 1- صعود الناشط السياسى، وتراجع دور المثقف. 2- سلطة الناشط الإعلامى فى مواجهة المثقف. 3- سلطة الداعية الدينى إزاء المثقف. هذا التغير العاصف أدى إلى إقصاءات لبعض المثقفين والحيلولة دون تقديمهم الروئ والأفكار التى تساعد على اتساع الرؤية، وتحليل المواقف، وتقديم بعض الحلول لمشكلات الانتقال المحتجز والمعاق. بعض المثقفين لعبوا أدوارا مهمة ومستمرة أثناء مراحل الانتقال من خلال البرامج الحوارية لا سيما فى الأقنية التلفازية العربية والغربية، على الصعيد النقدى وتحليل المواقف الملتبسة أو الصريحة للقوى المتصارعة على الساحة السياسية. هذا الدور تراجع فى التلفازات الفضائية المصرية الخاصة، والحكومية، لاسيما فى أعقاب 30 يونيو 2013، وفى ظل المرحلة الانتقالية الثالثة، التى سادها تغير نسبى فى السياسة الإعلامية، من البرامج الحوارية السجالية إلى البرامج الترفيهية، واستبعاد بعض مقدمى البرامج التلفازية إلى آخرين أقرب إلى تبنى السياسة الرسمية. ثمة سؤال طرحه بعض المثقفين العرب فى أعقاب الربيع العربى حول حالة المثقف العربى الآن؟ بعضهم طرح مقولة "موت المثقف" ويبدو أن هذا المصطلح أستعير من مقولة "موت المؤلف" فى إطار البنيوية ثم "موت الناقد" فى إطار ما بعد البنيوية، وذلك فى إطار إحياء دور القارئ فى ظل المدارس النظرية التأويلية "الهير منطيقية". ما يعزز هذه المقولة عن موت المؤلف، هو تراجع دور ومكانة المثقف الأوروبى، فى فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، منذ نهاية الحرب الباردة، وانهيار الإمبراطورية السوفيتية، وبروز أزمات المعنى والهويات الانقسامية والأولية. فى ظل تحولات الشرط ما بعد الحديث، والشروخ والتفكيكات البنائية فى أنسجة الدولة القومية، وبروز تعدديات وتزاحم فى الأصوات واللغات، بدأ دور المثقف يزوى ثم يتراجع لاسيما فى عالم يتحول من الورقى إلى الرقمى، ومن المرئ الذى يسيطر عليه وعلى تطورات الرقمى. عالم التخصصات الدقيقة، والتغيرات السريعة والمكثفة والنوعية، ساهمت فى تراجع دور المثقف. هل مات المثقف كما مات المؤلف -وفق رولات بارت- ثم موت الناقد؟ هل مات القارئ؟ المثقف الورقى، والقارئ الورقى، والناقد الورقى يتراجعون فى مكاناتهم وأدوارهم، على الرغم من استمرارية بعض مكونات الجماعات القرائية التي لا تزال تعتمد على الكتاب الورقى، وطقوس القراءة الورقية والنوستالجيا المرتبطة بها، لا سيما من الأجيال الأكبر سنًا. من ناحية أخرى، هناك مخاضات جديدة لأنماط كتابية رقمية تتشكل، ولا تزال فى طور التجارب والتشكيلات، ومعها أنماط من التلقى سيكون للقارئ فيها دورًا متزايدًا. ثمة كتابة جديدة، ينسج بنياتها وسردها عديد من الأطفال، يتشاركون فى بناءات سردية مختلفة وهو ما يطرح قضايا جديدة تحتاج إلى الرصد والتحليل. فى ظل هذه المتغيرات نستعيد كتابات محمد سيد سعيد، وآخرين عن نهاية مثقف حركة التحرر الوطنى، ثم بروز بعض أدوار المثقف التاريخية فى المرحلة الممتدة من حكم السادات إلى مبارك إلى 25 يناير وما بعد، وها هى تتراجع ويخفت صوتها وصداها بعد العودة إلى موت السياسة مجددًا فى مصر.