العتبة الثانية عشرة ما إن تفتح «روزالين» بيتها حتى تجد فى وجهها باب العم «سرحان». باب سميك من الكافور يقف خجولًا بين حائطين من الطوف، جذورهما متساوية قليلا، ومنبعجتان فى المنتصف، ويميلان فى الأعلى إلى الوراء كأنهما سيسقطان بعد قليل على رؤوس سرحان وزوجته رضية وأولاده الأربعة، لكنهما لا يسقطان أبدًا. أتذكر، يا ولدى، العم «سرحان» جيدًا، وجهه الأسمر وسط لحية شهباء محفور فى رأسى، وعيناه الغائرتان تحت جبهته لا تزالان رغم انطفائهما من سنين طويلة تبرقان أمامى، كأنه لا يزال هنا، يجلس على كرسى متداعٍ أمام البيت، فى يده مذبة يهش بها، وهو يسعل ويبصق دون توقف، وصدره يرتج حتى يكاد المارة أن يسمعوا صوته خارجا من بين الضلوع. كان رجلا بصباصا، لا صناعة له إلا التلصص على «روزالين»، وهى خارجة من بيتها، وداخلة إليه. يملأ عينيه من جسدها الممشوق، ثم يحطها فوق ضفائرها النائمة على ظهرها تحت الطرحة السوداء الكثيفة، ويتمتم: مهرة ومحتاجة خيَّال. لم تكن هى تعيره اهتمامًا، ولم تضج بالشكوى منه إلا مرة واحدة لزوجته. اقتربت منها، وهمست: ربنا يهدى زوجك. فضحكت حتى كادت تسقط على قفاها وردت: هو حيلته غير الكلام. كلام؟! ليس معه إلا لسانه. ونظرت إلى يمينها، حيث كان «حسن» ابنها، يجلس أمام الطبلية يتناول غذاءه: وحياة «حسن»، هذا اللسان الكبير، زى أختى من سنين طويلة. وتدفق الدم إلى خد «روزالين»، وهزت رأسها، ومضت وعيناها أمام قدميها، وهما تتقدمان نحو باب بيتها الموارب. لكن المشكلة، يا ولدى، جاءت من «حسن»، الذى كان اسمًا على غير مسمى. كان مراهقًا جسورًا متينًا، فار جسدُه بسرعة، لأن فمه لا يكف عن لوك الطعام. يقف ساعات قليلة فى دكان صغير يملكه والده، ونصف الربح يذهب إلى بطنه. هى تطحن وهو يزداد طولًا وعرضًا. لن أتوقف كثيرًا عند تحرش «حسن» ب«روزالين»، رغم أنها فى سن أمه، أو أصغر قليلًا. فهناك ما يهمك أكثر. هناك ما ستفتح له عينيك مندهشًا، وربما تطلب منى أن أحكى المزيد والمزيد، أو أتوقف فى حكايتى عند حسن، وفى رحلتى أمام هذا البيت الذى صار أطلالًا. قد تقول لى: قف مكانك يا أبى، ولا تتحرك بعيدًا عن هنا خطوة واحدة. بالقطع ليس لأنك تسترجع فى هذا، البقعة النائمة من هذا الشارع لا اسم حكاية «روزالين» الجميلة، لكن لتعرف أكثر عن «حسن» الهائج المائج، الذى سار ذات يوم فى الطريق الذى سلكته أنت. سار مندفعا نحو نهايته، التى ربما لم يشهدها غيره. ربما أغمض عينيه سابحًا فى دمه، فدفنه إخوة الجهاد تحت سفح الجبل، ولم يتركوا فوق رأسه أى علامة تدل عليه، فشواهد القبور عندهم حرام. ربما مات وحيدًا على الصخور المدببة فأكلته النسور والضباع. ربما ذاب فى حمم النار الزاعقة الحارقة، فتفحم وصار رمادًا تذروه الرياح. لا أحد يعرف كيف مات «حسن» فى غربته؟ لكن جميع من فى البلد يعرفون كيف مات أبوه؟ كان العم «سرحان» جالسًا أمام البيت على كرسيه، ومرت «روزالين» من أمامه فدفس عينيه فى درفيها المتأرجحين، وراح يتلمظ، ويلوى عنقه وراءها وهى تميل نحو بيت قريب، حتى سقط من على كرسيه المتداعى فوق حجر ضخم كان يستقر إلى جانبه منذ سنين. طررراخخخخخ.. هكذا سمعت زوجته صوت سقوطه، فهرعت إليه، لتجده فاقد الوعى، فمه مفتوح يدفع رغاء يختلط ببياض الحجر، وعيناه منبلجتان. رمت أذنها على صدره فسمعت أنفاسه الواهنة. صرخت فجاء الناس وحملوه على حمار وساروا به نحو مستشفى قرية «زهرة» لكنه فارق الحياة فى منتصف الطريق، فعادوا به واجمين. لم يكن «حسن» معهم، فقد كان غائبا عن القرية منذ شهرين. حشر ملابسه القليلة فى كيس سماد فارغ وسار على الجسر يتبختر، ويقول للناس: أخيرًا ربنا سيرحمنى من وجوهكم الكالحة. لم يكن يدرى، يا ولدى، وقتها أنه يضع قدميه على أول طريق الهلاك. لو علم لمشى على الجسر مترنحًا يبكى، أو عاد فأفرغ ملابسه فى «السحارة» المتهالكة، ورضى بالجلوس أمام البيت يراقب اشتهاء أبيه ل«روزالين»، ويروض اشتهاءه هو لابنتها «ماريا». وحين تندفع آثار الطعام الدسم الذى التهمه فى عروقه يصحو معول الرغبة الراقد بين فخذيه، فلا يجد ما يهدئه سوى استدعاء صورتها فى أحلام اليقظة. ذات مرة حشرها فى الحائط وهى عائدة من الحقل مع مطلع الليل، فلكزته بكوعها فى صدره، وفى المرة الثانية قالت لأمها فاشتكت إلى «أبو سعيد»، وهو قريبهم من بعيد، لكنه كبيرهم على أى حال. ووبخ الرجل سرحان، فوبخ ابنه، فصرخ فى وجهه، وهو ينظر إلى نصفه الأسفل: لا أستطيع الصبر. فقالت الأم: نزوِّجه. فقهقه «سرحان» ورد: العين بصيرة واليد قصيرة. ليلتها قرر «حسن» أن يذهب فى الصباح إلى بندر «المنيا» وراء أى عمل يجده. كان يعرف من أين يبدأ؟ فقد اتفق أبوه مع صاحب له هاجر إلى البندر منذ عشرين سنة، وصار له «كشك» على ناصيتى شارعى «الحسينى» و«ابن خصيب» يبيع فيه كل ما تيسر له. وعن طريقه التحق «حسن» بعمل فى محل لبيع الدجاج. كان يغيب عن القرية شهرًا أو اثنين، ثم يأتى حاملًا معه لأمه بعض ما تحتاج إليه. لكنه بمرور الوقت كان يعود مختلفا. شىء ما راح يتغير فيه. ليس فقط الجلباب ناصع البياض، والطاقية الشبكة التى تحط على رأسه الحليق، واللحية التى راحت تمضى فى طريقها بلا أى مانع، لكن أيضا للغة أخرى تنمو فى لسانه، كلمات وتعبيرات لم تعرف إلى نطقه سبيلًا من قبل. كانت غريبة على أسماع الناس، بل غريبة على سمع من ينطقها، لكنه يرددها كما سمعها كببغاء قدير، دون أن يتوقف عند معانيها ومراميها. صار يلقى على الناس التحية كاملة «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» وبعدها يجدونه، يحرك أصابعه فى سرعة. ولما سأله أحدهم عن هذا قال: أعد الحسنات التى حصدتها من إلقاء السلام. وصار يسمى كل أحد فى البلد ب«الأخ»، كبر أو صغر، المتعلمين والأميين، فينادى أحدهم: يا أخى. ويقول لأى بنت أو امرأة: يا أختاه وأحيانا «يا أَمَة الله». وكلما فعل له أحد شيئا حسنا، يهز رأسه ممتنا ويقول له: جزاكم الله خيرًا. والأيام التى يقضيها فى القرية يرابط كثيرًا فى المسجد، يؤدى الفريضة، ثم ينهمك فى النوافل. وكان كلما قال شيخ الجامع شيئا، ينظر حسن إليه ويقول له: هذه بدعة يا شيخ. وفى يوم قال لبعض الشباب على ناصية الشارع: عدنا إلى زمن الجاهلية. ورفعوا عيونهم إليه مندهشين فأفصح: نحن غرباء، ويوم ما سنفتح هذه البلدان الكافرة، وندعوا فيها إلى الإسلام من جديد. وقهقه الجميع، ونظروا إلى لحيته وجلبابه، وتركوه وانصرفوا. لكن جفولهم منه لم يضنه، لأن المنصرفين فى نظره معذورون بجهلهم، وسيفهمون ما يقوله يومًا ما. وفى يوم كاد يطير فرحًا حين ابتسمت له «ماريا» وألقت عليه التحية: مساء الخير يا شيخ «حسن». مع هذه فقط تنازل عن رد السلام كما اعتاد عليه فى الأيام الأخيرة، ورد عليها بامتنان: مساء النور. ثم دفس عينيه فى ردفيها، وراح يتلمظ، ويميل برأسه، حيث تميل، فتحك لحيته كتفه، وتستقبل بعض لعابه. يبدو أن هذا الكلام يغضبك يا ولدى، ها هما وجنتاك تزدادان احمرارًا، بل تسرب اللون الأحمر إلى بحر عينيك وأرنبة أنفك، وراحت لحيتك تنكمش نحو فمك وجلد وجهك، ولولا بعض أدب لطوحت يدك معلنا غضبك واشمئزازك. لكنك تعلم جيدا أن أباك لا يكذب، لأنك لم تضبطه يوما وقد تفوه بشىء غير الصدق. يكذب الخائفون والمخادعون والمصابون باللوع، وأنا لست واحدًا من كل هؤلاء. لهذا تتغير ملامحك لقولى عن «حسن»، لأنك تعرف أن ما يخصه يخصك، وما يمسه يمسك، ولو كان على قيد الحياة الآن، ورأيت لحيته لأخذته فى حضنك وضغطت على ظهره ومنكبيه بساعديك وقلت له فى امتنان: يا أخى، ثم تركتنى أكمل الرحلة بمفردى، وجلست معه لا تريد أن تبرحه. ومن يدرى أن تكون قد دست على عظامه النخرة وأنت تسيح فى الصحارى الغريبة، أو أن ريحًا من التى هبت فوق رأسك وكادت تسقط أرضًا حملت بعض رفاته فمر من أمام أنفك أو ذرة منك استقرت على جبينك أو رموشك. ولعل واحدة منها قد هبطت فوق الأهداب النابتة على ضفتى أنفك، ولا تزال فى مكانها حتى الآن، فازفر بشدة لعلها تخرج وتحط على أقدام هذا البيت القديم الذى لم يعد يسكنه أحد. كان آخر صوت تردد فى جنبات جدرانه هو صوت «ماريا»، وهى تصرخ مستغيثة من «حسن»، حين كان يمد أظافره بقسوة محاولا أن يخمشها حتى تسكت وتستكين بين ذراعيه، وتنتظر لهيبه. قبل دقائق استأذنته لتدخل وراء دجاجتهم التى طارت من فوق سطح بيتهم إلى سطح بيت «سرحان». فأومأ لها موافقا وهو جالس أمام البيت يتعتع فى كتاب ذى جلدة خضراء متينة، معتمدًا فقط على ثمانى سنوات من الدراسة جعلته قادرًا على «فك الخط». فلما توغلت فى البيت وغابت أغلق الكتاب، مطمئنا إلى نوم أمه المسنة العليلة، والتفت عن يمينه وعن يساره فلم يجد أحدا، فهرع نحو الباب الموارب، دخل وأغلقه. هى تبحث عن الدجاجة وهو يبحث عنها، حتى حشرها فى ركن الحجرة المظلمة. قالت له بصوت واهن: عيب يا شيخ «حسن»، أنت رجل تعرف ربنا. لم تر ابتسامته جيدا فى العتمة، لكنها سمعت ما قاله: حين تقوم دولتنا ستصبحين جاريتى. سأسبيك وتكونين ملك يمينى. الدولة قادمة لا ريب فيها، فما الداعى للانتظار. لم تفهم منه شيئا، لكنها أدركت من حركات يده، والجوع الذى قفز من عينيه فاهتزت له العتمة، أنه يريد بها شرًّا. صرخت، ثم ضربته بركبتها بين فخذيه، وأفلتت جريًا نحو الباب. وبعد ساعات كانت البلد كلها تعرف ما جرى، وكان «حسن» يحشر بعض ملابسه فى قعر حقيبة جلد سوداء، عازمًا على أن يغادر بلا عودة. وحين كانت «روزالين» تشكو للعمدة «حيدر» كان حسن يهرول على الجسر، ينزع قدميه من بحر التراب، ويتقدم لاهثًا نحو محطة قطار قرية «صفط اللبن» حتى وصلها بُعيد الغروب، ليختفى فى عتمة الليل عن أنظار بلدته إلى الأبد. لم يسأل عنه أحد من أهل القرية سوى قريبه «أبو سعيد». كان قد لاقاه مرتين فى محل بيع الطيور، فلما استعوقه، قال للناس: الله تواب رحيم. فقال له العمدة غاضبا: هذا نبت شيطانى. فهز «أبو سعيد» رأسه وقال: أخشى أن يمتد شره إلى غيرنا فيأتوا ليسألوا عنه بيننا، فينفتح باب للثأر لا راد له. فرفع العمدة يده: اذهب وأعطه الأمان على أن لا يعود إلى فعلته، وحين يأتى معك لا يدخل بيته حتى أراه. وذهب ذات صبح قاطعًا «ميدان الحبشى» مارًّا بالنسوة اللاتى يفترشن الطريق بالخضار والجبن والبيض والبتّاو والفريك على أول السوق حتى وصل إلى محل الطيور. وقف أمامه ورمى بصره فمسح جنباته فلم يجد شيئا سوى رجل بدين يقف فى المنتصف وأمامه ميزان أبيض، ووراؤه أقفاص الدجاج والبط والإوز والديوك الرومى والأرانب. تقدم إليه وسأله، فجاءه صوت أجش: راح يجاهد. يجاهد؟! أخذه الإخوة إلى «أفغانستان». ثم التفت إلى أقفاص الطيور، وواصل: سيقبض ألف دولار فى الشهر، وهو يبيع أباه بعشرة جنيهات. لماذا عاد إليك الغضب حين كشفت لك حقيقة «حسن»؟ لا تخف فأنا أعرف أنك مختلف عنه. لم تذهب إلى هناك وراء الدولارات. فالمال لم يشغلك أبدًا، وأشهد لك بهذا. لكنك ذهبت وراء ما تصفها بأنها «تجارة لن تبور»، مع أنها ليست هكذا أبدًا. ومع هذا فأبوك، كما تعرف، يحترم كل من يسعى وراء مبدأ يؤمن به، ويستعد أن يضحى من أجله، ولا يوجد ما هو أصدق من الدماء. لكننى كنت أقول لأمك طيلة السنوات الفائتة: دم ابنك يتقاطر فوق التراب الخطأ. كانت تبكى، وترفض حديث الدم، وتحلم بأن ذراعيها سيطوقانك من جديد. هكذا كانت تحلم أم حسن أيضا حتى وجودها ميتة وهى ممسكة بصورة قديمة له، مع أنه نهرها قبل رحيله بأيام، وهى العجوز الضامرة، حين وجدها جالسة أمام البيت كاشفة شعرها، وتاركة إياه للشمس حتى تكنس القمل الذى سكنها، وهى تكدح بين الحقل والدكان غير عابئة بشىء إلا ما يملأ بطنها. يومها صرخ فيها: ادخلى الله يلعنك. ولامه الناس وقرعوه، فملأ عينيه بالغضب، وشد لحيته بأظافره، وأشاح بيده: لو عرفتم شرع الله يا كفرة لفهمتم ما فعلت.