يخصُّنا الكاتب والباحث عمار على حسن بنشر روايته الجديدة «السلفى» على صفحات الجريدة، وذلك تزامنًا مع إصدار الطبعة الرابعة من رواية «شجرة العابد»، التى نالت جائزة اتحاد الكتاب منذ أيام وحظيت باهتمام نقاد كبار، وحصلت على عدد كبير من الجوائز فى مجالَى الإبداع الأدبى والفكرى. ومؤلف «السلفى» كاتب وباحث فى العلوم السياسية، تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولديه عدد من المؤلفات الخاصة بدراسة الجماعات الإسلامية فى مصر والوطن العربى، كما أنه كتب عددا من المؤلفات الإبداعية، منها روايات «حكاية شمردل»، و«جدران المدى»، و«زهر الخريف»، و«سقوط الصمت»، إضافة إلى مجموعات قصصية هى «عرب العطيات»، و«أحلام منسية». ... وفى يوم مرض العم يوسف، وخرجنا بالقطيع نحو الخلاء. كان أسعد إلى جانب الكبش الكبير فى المقدمة، ونحن فى الخلف نهشّ على الشاردة والتائهة والكسولة، وكنا نسير فوق جسر عال، وننظر إلى البركة الآسنة الممتدة تحت أعيننا والبوص الواقف على جنباتها يدارى دجاج الماء والشرشير. وفجأة جفل الخروف القائد حين وقعت عيناه على سرب من الشرشير متكوّم بعضه فوق بعض، فظنه ذئبا رابضا، ووجدناه من الهلع يرمى بجسده من فوق المنحدر، باتجاه السرب، وفى اللحظة نفسها كان أسعد يسابقه نحو الهاوية، ومن ورائه كل القطيع. وعدنا، يا ولدى، فى المساء لنجد العم «يوسف» ينتظرنا على باب القرية، متوكئا على عصاه، وفى عينيه ألم. كان يسعل بشدة، يهتز لها جسده كله، ثم يتكلم بكلمات تخرج كصفير حاد، ونحن ننصت إليه. قال لنا يومنا إن الراعى الصالح لا يهمل غنمه. وأخذ أسعد من يده وداس عليها وقال له: - سأحكى لك حكاية الخروف الضال. وأنصتنا إليه بكل كياننا، فلما انتهى سألته أنا: أين تعلمت هذا يا عم «يوسف»؟ ابتسم، وسعل من جديد، وقال: حكاها لنا القس بكنيسة العذراء فى الزمان الأول. لكننا لم نر العم «يوسف» يذهب إلى الكنيسة أبدا. وإن كنا رأينا الكنيسة معه طيلة الوقت. يتوه قليلا وهو يدس براد الشاى فى الجمر الصافى، ثم يقول لنا: من يكذب منكم أو يسرق أو يقتل أو يسب صاحبه أو يهمل غنمه ستكويه هذه النار يوم الدينونة. ثم تتساقط قطرات من عينيه، يمد طرف كوفيته العريضة ويمسحها، ويقول: الله يحبنا، ولا يريد أن يعذبنا، لكننا نحن الذين نعذب أنفسنا. ويمد عينيه ليتابع القطيع وهو لاهٍ فى المرعى، ويصب الشاى الأسود فى كوب صغير من «الصاج» ويشفط رشفة عميقة ويتابع: لا تضربوا الغنم بقسوة، هشوا عليها من بعيد، ولا تجعلوا أحدًا فى هذه الحياة يتألم بعملكم حتى لو كان كبشًا نطيحًا. كان يختار أرضًا بورًا للنار التى يوقدها، لم نره يوما يضع الحطب فوق بقعة خضراء، حتى لو كانت من الحشائش الضارة، أو هكذا نسميها نحن، لأنها تنهب غذاء الزرع الذى نزرعه فتتركه هشًّا مصفرًّا. يرمى بصره حول القطيع النائم أو الهائم حتى يجد بقعة قاحلة، فيمشى إليها، ملفوفا فى ذهب شمس العصارى الحزينة، وينظر إلى من كان عليه الدور فى جمع الحطب، فيرمى بحمولته الضئيلة، ويجلس العم يوسف إلى جانبها، ويدس بين السيقان الدقيقة الجافة بعض القش، ويمد يده إلى جيبه، ويخرج علبة الثقاب، يلتقط أحدها ويشعله، ويمده إلى قلب الراكية، وهو يتمتم «يا ربنا حرِّم أجسامنا عليها». وحين نسأله: لمن تدعو ربك يا عمنا؟ يبتسم ويقول: لنا جميعا. وذات مرة ضجر ولد منا من المشى وراء العم يوسف وهو يبحث عن بقعة قاحلة، وقال: لازم وجع القلب، النار توقد فى أى مكان. وتوقف العم عندما سمع كلامه، والتفت إليه، وكنا جميعا نمشى خلفهما، واعتقدنا أنه سيصفعه على وجهه، لكنه وضع يده على كتفه، وقال له: لا يجب أن تؤذى روحًا حتى لو كانت نبتة لقيطة حمل الريح بذرتها. مثل هذا الرجل الطيب تراه أنت يا ولدى كافرًا، وتقول بملء فيك: «سيدخل النار حتمًا»، وكأن الأمر قد صار بيدك. وحين كنت أجادلك فى هذا وأشكو، كنت تأتينى بآيات قرأتها، أو قرأها أحد لك، على عجل، وتقول فى غضب: إنما هو حكم الله. وتتذكر أننى كنت أسألك: من أين عرفت؟ آيات القرآن. ولما أقول لك: لا تقرأ الآيات بظاهرها، وهناك آيات أخرى تبين نقيض حكمك القاسى. تهز رأسك وتبتسم، وكأنك تسخر من أبيك، وترد فى ثقة غريبة: هذه آيات منسوخة. ولما أرفض ما تقول، تبتعد عنى، معتقدًا فى جهلى وربما فُسوقى أو حتى كُفرى، وتقول: هذا كلام الشيخ، وهو يعرف أكثر. تمشى وراء شيخك أعمى، كالخروف الضال. تمشى كما كان يمشى أسعد فى الزمان الأول. شيخك يردد كالببغاء كلامًا مسجوعًا وراء شيوخ قدامى، عاشوا فى القرون الغابرة، جاوبوا عن أسئلة زمانهم ثم تدثروا بالحصى، وصمتوا إلى الأبد، لكن ما قالوه عن أيامهم صار معصومًا فى أيامنا. اشتغل الوراقون والخطاطون، وامتلأت الأرفف بالكلام، وصارت إجاباتهم القديمة ترد عن أسئلتنا الجديدة. إنها المأساة ذاتها التى كلمنا العم يوسف عنها يومًا، كان تائها وعيناه تحطان هناك عند شط النهر المسافر إلى البحر البعيد، ويقول: راعى الكنيسة يقول لنا كلاما غريبا، ويطلب منا أن نردد وراءه، أنا أغلق فمى ولا أنطق إلا بكلمة واحدة أعرف معناها هى: آمين. كان وقتها يعلق على زميل لنا التحق بالقطيع مع خمس نعجات وخروف ولسان لا يقدر على نطق نصف الحروف تقريبا. ضحك أسعد عليه وكذلك فعلت أنا، لكن العم يوسف نهرنا، وقال: على الأقل صاحبكم يقول كلاما نفهم بعضه، ونعرف أن كله ينشغل بأيامنا وأحوالنا، أما القساوسة فيرطنون باليونانية أو القبطية القديمة، لنظل نحن مسحورين بالأصوات التى تخرج من أفواههم، ونرفعهم فوقنا. لا أنسى هذا الموقف فى حياتى، ظل محفورًا فى رأسى، أستعيده كلما سمعت أحدهم يبرطم بكلام قديم. أضحك وأقول: «ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر»، الله يسر قرآنه، وجاؤوا هم لينسجوا حول متنه العامر بالجلال والمعانى السامية تخاريج وتعاويذ وتحريفات وتأويلات وأوهامًا، يشدونها نحو مصالحهم، ويقولون للناس: هذا شرع الله، وأنت تردد وراءهم يا ولدى: هذا شرع الله. ويوم غضبت منك وقلت لك: أقلّه لله وأكثره لكم، وتنسبونه له سبحانه ليكون لكم فى نفوس عباده ما له. يومها امتقع وجهك، وطفح دم فى عينيك، ووقف شعر لحييك كأنه حراب مسنونة، ثم رفعت يدك حتى حسبت أنك ستصفعنى، لكنك أشحت بها فى وجهى، ثم قطعت خطوات سريعة نحو باب الغرفة، وقبل أن تغادرها، استدرت نحوى بكل جسمك، وقلت: - خليك مع «يوسف أبو أسطاسى» وستحشران سويًّا. يومها لم أكن أحسب أن ما قلته لك ذات عصر، فى لحظة صفاء، عن شذرات عابرة من طفولتى وصبح أفراحى، قد استقر فى رأسك. فقد قصصت عليك مواقف أخرى عديدة، ووجدتك قد نسيت كل شىء، حكاياتى ذهبت سدى، أو طمست تحت سطوة الحكايات الجديدة التى صبها فى رأسك الببغاوات ذو اللحى الكثة. ما قد يفرحك هو ما جرى لأسعد، وخبأته عنك. سار ببطء فى مشوار تعليمه حتى حصل على دبلوم فنى صناعى، كان المدرسون يقولون له دومًا: أنت حافظ ولست فاهمًا. وكنت أجلس فى الصف الذى يسبقه، وأستعيد أوقات سيره إلى جانب الخروف الكبير، وأدرك لماذا يقول له المدرسون هذا؟ المشكلة أن ذاكرته لم تكن قوية بالقدر الذى يجعل المعلومات تبات فيها أكثر من ثلاث ليال، ولذا لم يشفع له حفظه فى أن يتقدم فى التعليم خطوات أبعد مما وصل إليها. بعد تخرجه ظل سنوات يرعى الغنم ويضرب حقل أبيه بفأسه إلى أن توسط قريب له فى البندر ووظفه فى هيئة الكهرباء بمدينة المنيا. وزامله شاب كان ينتمى إلى «الجماعة الإسلامية» وجذبه إليه، فأطلق لحيته، وازدادت ملامحه تجهمًا. كان يعود من عمله بعد العصر، ويمر بدار العم «يوسف» فلا يلتفت إليه. حتى حين كان الرجل يجلس أمام الدار تاركًا ساقيه للشمس وموزعًا امتنانه على المارين من أمامه، لم يكن أسعد يعيره اهتمامًا. وفى يوم ناداه العم يوسف بصوت مجروح: يا أستاذ «أسعد». لكنه مضى فى طريقه غير عابئ بالنداء، ولاحظه رجل كان يمضى فى الاتجاه المضاد، فقال له: رُدَّ على رجل فى سن جدك. فأشاح «أسعد» بيده، وانتفخت عروقه بغضب عارم، وأدار جسده نحو العم يوسف، وقطع نحوه عشر خطوات كاملة، ثم صرخ فيه: أنا لا أتكلم مع نصرانى كافر. وفى بعض الليالى كان يتسلل متدثرًا بظلمة الشوارع الضيقة حتى يصل إلى «الصهريج» الصغير، ويرمى بابه بأحجار جمعها فى طريقه، وهو يقول فى نفسه: لن أرتاح حتى ترحل هذه الفاجرة التى يسمونها الشيخة «زينب» من بلدنا. كان «أسعد» مثلك يا ولدى، استبدل بقطيع الغنم آخر من البشر، انساق معه، لم يتوقف ولم يتبين ولم يتريث ليفهم ما يقال له، بل سحره الكلام الغامض الآتى من قعر الزمن البعيد، وظن أن ما يقوله أمير الجماعة هو حق اليقين وعينه، وأن به مفتاح الفردوس الأعلى. لم تنقر كلمات العم «يوسف» القديمة شيئًا فى رأسه، مثلما فعلت مع أبيك، وهام خلف من أشعلوا فى شوارعنا النار وسفحوا فيها دمًا غزيرًا. ولا تحاججنى، يا ولدى، وتقول متباهيًا إن كلام أمير الجماعة تدفق فى أوصال «أسعد»، وأزال عنه صمته وعجزه، فالحقيقة أن «أسعد» هذا أعمى فى الحالين، فى الأولى كان أعمى فى صمت، وفى الثانية هو أعمى أيضا وإن كان يثرثر ويجادل ويطلق الضجيج يلوث به أسماع الناس. هل تعلم، يا ولدى، أن ابن حفيد العم «يوسف» واسمه «ناشد» قتله أمثال «أسعد»، وهم أمثالك أيضًا، بين «طرابلس» و«بنغازى» فى الهوجة العارمة، لأنهم عرفوا أنه مسيحى. لم يسألوه حين أوقفوا الحافلة التى كان جالسًا على أحد مقاعدها ذاهبًا إلى رزقه، بل رأوا الصليب الأزرق مطبوعًا على بطن معصمه، فأطلقوا النار عليه دون أن يعطوه فرصة، لينطق حرفًا واحدًا، أو يذرف دمعة واحدة، أو يرى الطريق الذى يشير إلى الشرق، حيث يمكن أن يعود إلى هنا. من قتله، ربما أكلت معه وشربت، أو شاركتما سويا فى قتال من أجل اقتناص بئر نفط يمور فى صمت على شاطئ البحر الوسيع. وربما رأيت أنت بقعة دم «ناشد» على جلباب صاحبك الأبيض حين عاد من رحلة القتل، وربما تكون أنت من قتله. كان «ناشد» يشبه جده «يوسف» تمامًا، قطعة منه كان، وكان بوسعى أن أريك الجد فى الحفيد، لو تركتموه يعود سالمًا سليمًا، وليس ست قطع تتأرجح فى صندوق قديم. فبعد أن سكن الرصاص جسده، مزقوه بالسيوف والسواطير، وتركوا الرمل يزحف إلى لحمه فى بطء. وما لا تدريه أنت، يا ولدى، أن العم يوسف ترك لحيته فى آخر أيامه. كانت شهباء خفيفة كأنها خيوط من القطن بعثرها الريح، ولما خانته ساقاه راح يتوكأ على عصاه، فبدا وهو يمشى على الجسر راهبًا من زمن بعيد، وكان هو فى الحقيقة راعيًا من زمن أبعد.