كتب: كريم شفيق في ذكرى المولد النبوي قبل عامين، برزت دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى "ثورة دينية"، تعني بتجديد الخطاب الديني وحمل الأزهر، إماماً ودعاة، مسؤولية ذلك. مر عامان، ترددت خلالهما نفس الدعوة في مناسبات عديدة، دون أن تدخل في طور التنفيذ، ودون أن نلمس جهودا حقيقية، تتحول فيها من مجرد دعوة إلى مشروع جاد، تتحدد عناصره وأطرافه الفاعلين فيه وأهدافه. فيضحي بإمكانه مواجهة التشدد الديني، يفحص أصوله وجذوره، ويفتح حوارا مجتمعيا، يتقاسم أدواره المثقفون والأدباء والشباب، دون أن تنفرد به المؤسسة الدينية وحدها ورموز الفكر الديني. لكن ثمة عائق ظل يرافق كل محاولات الإصلاح الديني، على امتداد تاريخ مصر الحديث، في مواجهته للقوى الأصولية والسلفية، التي تعتمد الدين في صراعها السياسي وضد خصومها الفكريين، حيث لم تكف الدولة ذاتها عن مصادرة الدين وتوظيفه لخلق شرعية وشعبية تستمد منه نفوذها، وتبرر إجراءاتها السياسية وانحيازاتها، وحتى قمعها لقوى المعارضة لها. وبقدر ما حاول جميع الرؤساء في فترات ولاياتهم التأكيد على عدم خلط الدين بالسياسة ونفي هذه الصفة عنهم لكنهم كان يمارسونها بنفس الدرجة، وهو نفسه الدور الذي تتحايل عليه قوى الإسلام السياسي، فتعتمد الدين مرجعية لها، وتستخدم الفتوى والمقولات الدينية في خطابها لتعزيز موقفها السياسي وتأكيد نسبه ومدى قربه من الشرع، وبالتالي، تصبح معارضة أيا منهما، خلافا في الدين ذاته وخروج على ثوابته وصحيح الإسلام. فإن تصفية هذا الدور للدين من استغلاله النفعي والأيدولوجي بين الدولة ومؤسساتها الدينية ممثلة في "الأزهر" و"الأوقاف"، وتحريره من كل صراع على السلطة، بينها وبين القوى السياسية والحزبية المعارضة، هو بداية فض هذا النزاع الملتبس وغلق دائرة العنف باسم الدين والتكفير، ومن ثم، نجاح فكرة تجديد الخطاب الديني وتخليصه من الجمود والطائفية. عكفت الأدبيات الإسلامية بشكل عام وجماعة الإخوان خاصة، على إدانة النظام الناصري ووصفه بأنه علماني معادي للإسلام، حيث مهد للتيارات الإلحادية بتعاونه مع "الإتحاد السوفيتي" وخالف الشريعة بتطبيق الإشتراكية، وقد ساهمت في ترويجها تلك المظلومية التاريخية التي خلقها صراع الإخوان مع دولة يوليو الناشئة في حينها، والتي رفعت من حمى الخصومة التاريخية بينهما. فقد شهدت ستينات القرن الماضي، أشد محن الجماعة، عبر اعتقالات واسعة في صفوفهم وتجميد نشاطهم السياسي والدعوي وحلّ الجماعة عام 1954، وإعدام سيد قطب عام 1966. وكما صرخ عبد القادر عودة أحد قيادات الجماعة أثناء محاكمته بأن "الإسلام سجين"، معتبرا سجنه وجماعته مصادرة للإسلام ذاته، لم يتوان الشيخ الشعراوي هو الآخر أو يتردد في الإفصاح عن "سجوده شكر لله" بعد هزيمة 1967، لأن الجيش المصري حارب بسلاح الكفار "يقصد الاتحاد السوفيتي سابقا"، والانتصار كان سيعني "فتنة" للناس في دينهم، وفسر الهزيمة بأنها عقابا سماويا للابتعاد عن الدين. هكذا يتقاطع موقف الإسلام الحركي مع موقف أحد الدعاة الإسلاميين وأكثرهم شعبية وظفر عبد الناصر بعدائهما رغم ما يتصف به "إمام الدعاة" من "إعتدال"! في المقابل، كان الدين رافدا مهما وأحد الدوائر الثلاث الذي اعتمد عليها عبد الناصر في بلورة سياساته نحو فضاءات التنمية والعدالة، كما يوضح في كتابه "فلسفة الثورة"، واستخدمه كجزء من عملية التعبئة الجماهيرية، في مواجهة خصومه المحليين "الإخوان المسلمين"، أو من أسماهم ب"الرجعية العربية"، وعلى رأسها السعودية والخليج ومحاولاته التوفيقه بين الإشتراكية والإسلام. واستدعي دور الأزهر في إطار ما يخدم رؤيته ويدعم توجهاته، فساندته المؤسسة الدينية الرسمية، بدخولها دائرة الصراع السياسي المحتدم عام 1954، في ما عرف بأزمة الديمقراطية بين محمد نجيب وعبد الناصر. وخلالها أصدر شيخ الأزهر فتوى تقول إن "الزعيم الذي يتعاون ضد بلاده ويخذل مواطنيه فإن الشريعة تقرر تجريده من شرف الوطن". وأعلنت هيئة كبار العلماء بالأزهر في بيان عام 1954 "انحراف هذه العصابة (تقصد جماعة الأخوان المسلمين) عن منهج القرآن في الدعوة. وجاء في البيان أنه "كان منهم من تآمر على قتل الأبرياء وترويع الآمنين وترصد لاغتيال المجاهدين المخلصين وإعداد العدة لفتنة طائشة لا يعلم مداها في الأمة إلا الله". وكانت إحدى الخطوات التي تجاسر على تنفيذها عبد الناصر لتأميم المجال الديني هي السيطرة على جامع الازهر عام 1961، حيث أقر قانوناً بإعادة الهيكلة وأصبح تعيين شيخ الأزهر في يد رئيس الجمهورية. وقدم الشيخ السبكي دراسة يهاجم فيها كتاب سيد قطب "معالم في الطريق"، انتقد تجهيل قطب للمجتمع وتكفيره لهم حكاماً ومحكومين، واتهمه بأنه "متهوس وشبيه بإبليس ويقود الناس للمهالك ليظفر بأوهامه". وإذا كان ثمة موقف عام من هذا التوظيف السياسي للدين في عهد عبد الناصر، يصفه بالتقدمية كونه حرض ضد الظلم الطبقي وساهم في تحقيق العدالة الإجتماعية ومواجهة الإستعمار وإسرائيل. لكنه، يظل استخداما نفعيا وهشا، لم يظفر برؤية جديدة ومغايرة للفكر الديني، يكون بإمكانه تقديم فهم مغاير لحقائق الدين، يعتمد العلم والمنهج العقلاني ويتوافق مع قيم الحداثة ودولة القانون، ويعصى الإنقلاب عليه بسهولة ويتوافر له حاضنة إجتماعية تتبنى أفكاره وتحميه كما حدث لاحقاً. ولأن الدين ظل مغلقا على أفكاره القديمة، لم يمس خطابه التقليدي أي تغيير لاتسعى السلطة إلى تنفيذه أو ترى بجدواه، طالما لايتوافق مع أهدافها الأيدولوجية والسياسية، وانحصر كمجرد أداة دفاعية يتم تطويعها لنفي عدة تهم تروج ضد النظام، حشدت لها كافة الوسائل والدعاية لنجاحها، في مهمة محدودة وقاصرة، فأدي إلى وقعها في فخ تبني الأفكار غير العلمية عن الدين والترويج للخرافات. كما أدى لسهولة تكون جيوب لعودة التيارات الدينية المتشددة وترسيخ مقولاتها حول شرعية العنف والتكفير واستهداف العديد من المناصرين لها وأن يبدو خطابها أكثر جاذبية من الخطاب الرسمي للدولة في حال تعرضها لاضطراب سياسي. وتعرى ذلك التناقض بعد هزيمة 1967، في حادث تجلي العذراء فوق إحدى كنائس ضاحية الزيتون عام 1968، والتي تبنتها وسائل الإعلام وروجت لها الصحافة باعتبارها ذات مغزى سياسي، وأصدرت الكنيسة المصرية بيانا يؤكد ذلك بدلاً من الكشف عن عوامل الهزيمة وأسبابها الحقيقة عبر نقد ذاتي وصريح ومحاسبة المسؤولين عنه. وهو ما اعتبر المفكر السوري صادق جلال العظم في كتابه "نقد الفكر الديني"، أن بعض الأنظمة التقدمية العربية استخدمت الدين عكازا لتهدئة الجماهير وتغطية العجز في هزيمتها أمام إسرائيل. وفي خضم هذه العوامل كانت البيئة مهيأة لاستقبال الصحوة الإسلامية وأفكارها بالمجتمع الذي شهدته مصر في سبعينيات القرن الماضي، في ظل حكم الرئيس السادات، وبلغت ذروته في عقدي الثمانينات واالتسعينات، والذي كان على النقيض من سلفه، لكن وجه الشبه بينهما، هو الإبقاء على موقع الدين ثابتا في خطوطه الدفاعية وأداة تبريرية لشرعنة توجهات السلطة وصراعها مع القوى المضادة والتي كانت هذه المرة من الناصريين واليسار. فوجد في الإسلام مايدعم انحيازاته الإقتصادية وتوجهه للإنفتاح الإقتصادي، والصلح مع إسرائيل، مثلما كانت تتوافق مع الإشتراكية سابقا. في ظل هذه المواقع التي يتردد بينها الدين والأدوار التي تبدو متناقضة، يفترض أن يكون تجديد الفكر الديني، بتنحية الدين عن السلطة، أي سلطة، وتحريره منها، حتى لا يصبح مفهوم التجديد هو من يملك حصريا الحديث باسم الدين ونقل تبعيته من جماعة إلى أخرى، مايعيد دوما للاستخدام السياسي له، شرعية العمل به ويظل التكفير والعنف على أساسه، مشروعا ورائجا. وفي هذه الحالة، سوف ينحل هذا التناقض الذي يجعل العلاقة بين أئمة الأزهر والقوى الإسلامية تتصدع، رغم تماهي وتطابق وجهات النظر بينهما في العديد من المواقف وتوافقها في قضايا كثيرة رئيسية. فإن الشعور الديني لكليهما يتهيج تجاه بعض الأعمال الفنية والإبداعية، يطالبون بمصادرتها ومنعها من النشر، وتتحرك دعاوى قضائية و"حسبة" ضد مفكرين وأدباء، تؤول بهم إلى السجن أو النفي واتهام مباشر بالردة، مثلما حدث مع نصر حامد أبو زيد وفرج فودة ولويس عوض، ومؤخرا، أحمد ناجي وإسلام بحيري. ولا تكاد تختلف وجهات نظرهم حول العديد من رموز تيار الإسلام السياسي، ممن تورطوا في التشريع للعنف والتكفير، مثل "سيد قطب". وتتراجع الخلافات القائمة بينهما كلما ابتعد القوى الإسلامية عن الضغط والتأثير على مناطق نفوذ أئمة الأزهر ومحاولة التصدي للدور المنوط بهم والانفراد به، لكن يظل سعيهما المشترك يتحرى تفويض سلطة ما وهيئة رقابية، مرجعيتها الدين، على المجتمع وأفراده، تفرض أمورا وتنهى عن أخرى، لكن يبقى الصراع، هو من يحوز شرعية العمل بذلك.