تحدثتُ أمس عن الحكم الغريب الذى أصدرته محكمة فى نيويورك الأسبوع الماضى واعتبرت فيه أن تجسس وتنصت وكالات وأجهزة الاستخبارات الأمريكية على ملايين الناس داخل وخارج الولاياتالمتحدة، إنما هو «نشاط شرعى» يحمى المصلحة العامة فى الوقاية من جرائم الإرهاب ، وسألتُ فى نهاية السطور إن كان الكلام عن هذا الحكم له «علاقة شريفة» بالوقاحة والبجاحة والفظاظة التى تنز وتنضح من سلوك واشنطن عندما لا تخجل من إلقاء المواعظ والدروس علينا وعلى غيرنا بشأن ضرورة احترام حقوق وحريات البشر، ثم جاوبت معترفًا بوجود هذه «العلاقة» فعلا غير أننى أوضحت أنها ليست كل الأسباب والدوافع التى حرضتنى على فتح الموضوع.. لكن تآكل المساحة أجبرنى على التوقف فوعدت القرّاء الأعزاء أن استكمل اليوم. واليوم لا أستطيع مواصلة الحديث قبل أن أقترح على وزير خارجيتنا السفير نبيل فهمى أن يخرج هو بنفسه أو يكلف المتحدث الرسمى باسمه بإعلان أن مصر تشعر ب«قلق بالغ» بعد حكم محكمة نيويورك وأنها ترى فيه إشارة لا تخطئها عين تشى بحجم المخاطر التى تهدد الديمقراطية فى الولاياتالمتحدة وتفضح جنوح سلطات الدولة الأمريكية نحو شرعنة العدوان على حقوق وحريات الناس داخل حدودها وخارجها أيضا. هل تظن أن اقتراحا من هذا النوع يصطدم بالأصول والأعراف والقواعد التى تحكم علاقات الدول ذات السيادة؟! أنا شخصيًّا لست أظن ذلك بل أعتقد أن الاقتراح تطبيق حرفى لمبدأ «المعاملة بالمثل»، إذ ما دامت الست واشنطن تمنح نفس حضرتها حق التعليق والاعتراض على أحكام تصدر من محاكمنا ضد بلطجية ومخربين وقتلة، ولا تكتم شعورها ب«القلق العميق» لأن الشعب المصرى أسقط حكم عصابة إخوان الشر التى استثمرت فيها وراهنت عليها لكى تجرجر دولنا ومجتمعاتنا العربية إلى مستنقع الفاشية والطائفية والخراب المستعجل، وطالما أن جنابها تجرأت وعبرت علنا الأسبوع الماضى عن «قلقها» من قرار سيادى أصدرته الدولة المصرية يقرّ بحقيقة أن العصابة آنفة الذكر هى أم الإرهاب وأبوه، ملتزمة فى ذلك بقوانينها ومصالح شعبها فضلا عن قائمة طويلة عريضة من المعاهدات الدولية والأقليمية.. إذن لا مفر من كسر الاحتكار الأمريكى للفظاظة والوقاحة والتعبير عن «القلق»! وأعود لاستكمال الحديث فى الأسباب والدوافع الأخرى التى قادت العبد لله إلى موضوع حكم محكمة نيويورك، وأبدأ بأن الحكم المذكور ليس أسوأ أعراض تذرع نخبة الحكم الأمريكية (بنوعيها «الجمهورى» و«الديموقراطى») بالإرهاب لكى تضيق على الحقوق والحريات وتوسع من نطاق تغولها وعدوانها وعربدتها الإمبريالية فى الأركان الأربعة لكوكبنا، وهنا لا بد من الإشارة إلى ذلك القانون الخطير الذى صدر فى عهد إدارة جورج بوش الابن عشية تفجيرات الحادى عشر من سبتمبر 2001، وأطلق عليه من باب التذويق وخداع الجمهور، أسم patriot act أو «تشريع الوطنية»!! هذا القانون الشاذ الذى تم تمريره بحجة أنه تشريع مؤقت فرضته الضرورة واستثنائية الظروف، ما زال معمولا به حتى الساعة، ولست أشك أنه كان قاعدة الأساس التى بنى عليها قاضى محكمة نيويورك حكمه بشرعية التنصت والتجسس، إذ أن بنود القانون المذكور تنص صارحة على الآتى: ** من حق السلطات والأجهزة الأمنية «المراقبة المتحركة» لاتصالات ومراسلات واختراق خصوصية أى شخص أو أشخاص مشتبه فيهم. ** من حق وزير الخارجية (الأمريكى) إدراج أى جماعة داخل أو خارج الولاياتالمتحدة ضمن قوائم الجماعات الإرهابية وفرض عقوبات عليها وعلى من يأويها أوبساعدها. ** يرخص القانون لسلطات الأمن أن تهتك سرية الوثائق والمعلومات التى تخص كل من تشتبه فيه. ** ويسمح بحبس المهاجرين إلى الولاياتالمتحدة من دون الحاجة إلى توجيه تهمة محددة لهم. ** كما يسمح التشريع نفسه للسلطات بسجن كل من تشتبه (مجرد اشتباه) فى علاقته بجماعات تعتبرها الحكومة إرهابية، لمدد مفتوحة ومتتابعة تجدد كل ستة أشهر من دون حد أقصى، بالإضافة إلى أنه يخترع شيئا مفرطا فى الشذوذ إلى درجة تلامس الخرافة، ألا وهو وصف أشخاص تعتبرهم السلطات إرهابيين بأنهم «مقاتلون أعداء» ومن ثم تسقط عنهم كل حقوق البشر وتنقلهم بعيدا عن أى حماية قانونية سواء تلك المنصوص عليها فى الشريعات المحلية أو فى المعاهدات والاتفاقيات الدولية (أنظر فى حال نزلاء معتقل جزيرة جونتانامو)!! أشعر -عزيزى القارئ- أنك ربما فهمت أن غرضى من السطور السابقة هو الادعاء على الولاياتالمتحدة بأنها غير ديمقراطية!! .. أبدا والله والعظيم، كل ما أريد قوله شيئان اثنان، أولهما أن النظام الأمريكى منافق وكذاب، والثانى أن أخطر وأفدح الأثمان التى تدفعها الشعوب والمجتمعات التى تبتلى بعصابات إرهابية مجرمة هو تعثر تطورها الديمقراطى أو تضرر وضعف التزام مؤسسات دولها بقيم ومبادئ وقيود الديمقراطية.. انظر حولك من فضلك.