يخطو الرجل مؤخرا كجزء مستقل عن الدولة التي يقسم القطاع الأكبر من مؤيديه أنه يحميها، بينما يراها هو نفسه "شبه دولة وعبء على شعبيته، فيهمه في المقام الأول أن يبقى منعزلا عن الممارسات التي قد تؤدي إلى تهديد الصورة التي رسمها إعلامه المحبب. ليبدو وكأنه يكتشف الدولة ويعاني من فشلها مثلنا، لكنه سيتدخل في الوقت المناسب طبعا. لا جديد في لقاء السيسي بقيادات الكنيسة سوى أنه جاء متأخرًا بعد أسابيع من موجة اعتداءات طائفية أثارت حنق الأقباط وشماتة الطائفيين والمحرضين، وأوضحت مجددًا أن قطاعات من قلب النظام نفسه لا تقل طائفية عن تعليقات المخبولين على صفحات التواصل الاجتماعي وفي الجلسات الخاصة. لم تخرج حتى الخطابات الإعلامية لتعيد علينا مشاهد أرشيفية عن الوحدة الوطنية وثورة 19، وأغاني محمود العسيلي عن جرجس وعم نصر.. اكتفت بنشر فيديوهات ومقاطع للرئيس وهو بين قيادات الكنيسة، وفي زيارة في أثناء القداس، وأجزاء من الخطابات يتحدث فيها عن حبه لهم كأن ما يواجه تهديدًا هو تلك العلاقة لا مواطنون في صعيد مصر. تشعر أن الخطاب نفسه تجديد لإعلان الامتنان لشريحة انتخابية أو طائفة وقفت بجانبه لا حديث رئيس عن مواطني دولة يحكمها. محافظ المنيا في أكثر من لقاء كان آخرها مع مراسلة "بي بي سي" سالي نبيل رأى أن تلك الأحداث "فردية"، وتحدُث في كل مكان في مصر، لذا يبنغي علينا أن لا نتناولها فتصير أضخم. قبل أسبوع كان واحد من هذه الأحداث "الفردية" العادية عبارة عن خروج أهالي قرية صفط الخرسا في بني سويف بعد صلاة الجمعة لا لزيارة المقابر ولا لشراء الفاكهة، بل للهجوم على منازل الأقباط بالحجارة والعصي ردًّا على شائعة تحويل أحد المنازل إلى كنيسة. نحن في عام 2016 ومواطن في بلد ينهار اقتصاديًّا كل ما يغضبه أن جاره قرر أن يصلي على بعد أمتار منه. تتكرر هذه الحوادث كموسم الجراد والسحابة السوداء. باتت تصريحات الطمأنة محفوظة كالرسائل المسجلة، بل إنك لن تتذكر مسئولاً أمنيًّا أو حكوميًّا خرج ليستنكر ذلك أو يستعجل قانون بناء الكنائس. هي أحداث فردية نواجهها بإلقاء القبض على عدد من أفراد الجانبين، فيكون الانصياع لجلسة عرفية ضرورة تنتهي بشروط على الجانبين قد تشمل تنازلات بالترحيل أو التعويض المالي والتعهدات بعدم البناء، قبل أن يخرج المحبوسون ويمر الحادث الفردي في انتظار آخر جديد. التأجيل والمماطلة والاشتراطات في قانون دور العبادة يثير الكثير من علامات الاستفهام. خصوصًا مع تصاعد الخطاب الذي امتد إلى قطاعات في جهاز الدولة ترفض أن يكون على رأسها قيادات من دين مخالف لهم، وتمرر من آن لآخر خطابات توافق هوى الطائفية مفادها أن "الأقباط واخدين حقهم وشوف عندهم كم رجل أعمال" طبعًا الرد بوقائع عن حال الأقباط في الصعيد ومن سعوا إلى رزقهم في ليبيا فقطعت رقابهم هي من سبيل مسايرة المغرضين في لغوهم. بدت الدولة منزعجة من تحرك الأنبا مكاريوس أسقف المنيا وأبو قرقاص الذي تحدث في أكثر من لقاء على خلفية حادث الاعتداء على السيدة سعاد ثابت، حين رفض الرجل بشكل قاطع التعامل بالجلسات العرفية مجددًا. فوضت الكنيسة الرجل ليتحدث باسمها ويرد ويظهر في الفضائيات. طرحت العودة إلى ظهور ممثل للأقباط سؤال المواطنة، لكن هل أجابت الدولة عن ذلك بتقديم ما يثبت تعاملها مع الأقباط كمواطنين؟ جاءت الإجابة عبر سلسلة من التركيز على مظاهرات أقباط المهجر وتصيد تصريحات قال فيها الرجل إن المشكلات لو حلت لما تظاهر أحد. تحول هذا في عيون بعض ممثلي الإعلام إلى تهديد، وصار أخطر من كارثة الاعتداء على مواطنة وانتهاك حقوقها. كانت مظاهرات الأقباط في المهجر جميلة ووطنية ومشهدًا رائعًا حين كانت لتأييد السيسي ورفع صوره، لكنها إن أسهمت في لفت الأنظار إلى الفشل الذريع الذي يسري من ملف إلى آخر فهي خطر يجعله هو نفسه يجلس معهم ويتذكر أصدقاءه المسيحيين، وتعود صوره في الكاتدرائية لتحتل الشاشات، وليخرج بعدها البابا ليستنكر التظاهرات التي يبدو أنها أغضبت رأس النظام أو "تتسبب في حرج مع كبار المسئولين" كما قال البابا، بينما واحد من أبرز الوجوه البرلمانية ورئيس جامعة الأزهر سابقًا يقول في تبريره لرفض مشروع إلغاء خانة الديانة أن ذلك يفتح الباب لدفن المسيحيين في مقابر المسلمين. أمر خطير فعلا. مرت الموجة دون حلول، انفضت الجلسات العرفية وتوقفت المظاهرات في الخارج، ونجح الأمن في الاحتفاظ بالملف في درج مكتبه يستعيده ليفرض سطوته به لاحقًا، وهنأت الرئاسة وأجنحتها الإعلامية نفسيهما بنجاح مقاطع الفيديو في أن تعيد الثقة والود إلى العلاقة بين الرئيس والأقباط ونفي مسئوليته عن الاعتداءات التي طالتهم. لكن الأكيد أن تلك "الحوادث الفردية" وصوت الفتاة الصغيرة والحجارات تسقط في شرفة منزلهم وهي تقول لوالدتها "أنا خايفة" تعزز في كل مرة إحساس مواطنين أنهم درجة ثانية في وطن يختل مفهومه في عيونهم كل يوم وتفتح شهية المحرضين لتكرار أفعال أمنوا عاقبتها.