لم يكد ينتهى المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد، ينتهى من دراسته للماجستير عن قضية «المجاز فى القرآن عند المعتزلة»، وتوصله إلى أن المجاز أداة لإزالة أى تعارض محتمل بين الوحى والعقل، حتى حاول أن يستكشف عمق التجربة الروحية والصوفية عند ممثلها الأكبر محيى الدين بن عربى، وأثرها فى بلورة إطار تأويلى للوحى، فى الرسالة التى تقدم بها لنيل درجة الدكتوراه. نشر أبو زيد رسالته فى طبعة أولى عام 1983، لكن رأى أنها لا تلائم إلا القارئ المتخصص، فاقترح عليه مسؤولو دار نشر ألمانية إصدار طبعة جديدة للرسالة، تلائم القارئ العادى، وهو ما حدث بالفعل فى عام 2001، حيث انتهى من كتابة الدراسة، ثم نشرها فى الهيئة العامة للكتاب بعدها بعام واحد. ربط أبو زيد الحديث عن ابن عربى بالأحداث الجارية فى بداية الألفية الجديدة، حيث طرحت العولمة نفسها سياسيا وثقافيا وحضاريا بوصفها الدين الأخير، مما جعل البشر يسعون إلى مقاومة هذا الدين بكل الطرق والأشكال، وكان أبسطها هو استدعاء الدين حتى داخل المجتمعات التى صنعت الحداثة. ولكن ما الدين الذى استدعاه الناس؟ وما شكله؟ يؤكد أبو زيد أنه «التصوف» أو التجربة الصوفية، التى كثيرا ما مثلت ثورة فى وجه المؤسسة الدينية الرسمية التى عادة ما تحوّل الدين إلى مؤسسة سياسية اجتماعية، للحفاظ على الأوضاع السائدة ومساندتها، ومن هنا كانت أهمية كتابة أبو زيد عن ابن عربى. ترجع أهمية فكر ابن عربى إلى أنه يمثل قمة نضج الفكر الإسلامى فى مجالاته العديدة، من فقه ولاهوت وفلسفة وتصوف، فضلا عن علوم تفسير القرآن والحديث واللغة والبلاغة وغيرها، ودراسته فى هذا السياق لا شك أنها تمثل بانوراما للفكر الإسلامى فى القرنين السادس والسابع الهجريين، أما دراسته من حيث النسق الحضارى، فيمكن النظر لها باعتبارها همزة الوصل بين التراث العالمى والتراث الإسلامى. ابن عربى ولد فى مدينة «مرسية» بالأندلس فى 17 أو 27 رمضان عام 560ه، 27 يوليو 1165م. ينتمى إلى أسرة من أقدم القبائل العربية التى وفدت إلى إسبانيا، وهى قبيلة «طىء»، التى ينتمى إليها حاتم الطائى (أشهر كرماء العرب). كانت أسرته تحتل مكانة بارزة سواء فى الجيش أو فى الإدارة، وهو ما جعله مهيئا إلى أن يكون جنديا فى الجيش أو موظفا كبيرا فى الديوان، لكنه اتخذ مسارا مختلفا لأسباب ليست واضحة تماما. يؤكد أبو زيد أن طريق ابن عربى ليس سوى اتباع نهج الإيمان بلا زيادة أو نقصان، وهو الطريق الذى يصل به الإنسان إلى المعرفة الكاملة، ويقدم ابن عربى نفسه فى كتابه العظيم «الفتوحات المكية» على أنه «عارف كامل»، شأنه شأن موسى والخضر عليهما السلام، اللذين منحهما الله الكشف والفيض والإلهام. يتحدث الشيخ عن حياته قبل أن يسلك مسلك الصوفية، فيسمى هذه الفترة من حياته باسم «الجاهلية»، وهو المصطلح الذى يستخدم لوصف حال عرب الجزيرة العربية قبل الإسلام، إضافة إلى دلالته المعنوية. بدأ ابن عربى طريقه إلى المعرفة بالخلوة دون شيخ أو قراءة أو معرفة مسبقة، لكنه كان حريصا فى الوقت نفسه على أن يذكر اتصاله بمشايخ التصوف فى الأندلس قبل رحيله إلى المشرق، ويذكر منهم أبو العباس العرينى، وأبو يعقوب يوسف بن يخلف الكومى. التقى ابن عربى بالخضر عليه السلام، الذى يمثل فى الثقافة الإسلامية نموذج القطب الصوفى الذى وهبه الله نعمة العلم الإلهى بلا نبوة أو رسالة. وتمثل علاقة الاثنين فى تطورها من اللقاء العابر إلى استلام الخرقة «شارة اكتمال المعرفة»، لتطور رحلة ابن عربى فى المعرفة، من بداية الطريق إلى الوصول إلى قمة الولاية. وبعيدا عن الرواية القرآنية فى سورة الكهف، والتى نعتت الخضر بالرجل الصالح دون ذكر اسمه، والرواية التراثية الشعبية عنه، إلا أن هذه الشخصية كانت ذات تأثير كبير على رحلة ابن عربى. يقول ابن عربى عن نفسه بأنه خاتم الولاية المحمدية، لحرصه على عدم إغلاق التواصل بين السماء والأرض، بإثبات الرسول أن الرسالة والنبوة انقضتا وفقا لحديث النبى محمد صلى الله عليه وسلم: «مثلى ومثل الأنبياء قبلى مثل من بنى حائطا من اللبن إلا لبنة واحدة، فأنا هذه اللبنة، وأنا خاتم الأنبياء والرسل، فلا نبى بعدى ولا رسول». أبو زيد فى كتابه اصطحب ابن عربى فى رحلته الفكرية، تماما مثلما اصطحب الفيلسوف الألمانى فردريك نيتشه فى روايته الفلسفية «هكذا تكلم زرادشت»، التى صدرت من أربعة أجزاء بين 1883 و1885، والتى اعتمدت على تأملات مؤسس الديانة الزرادشتية.