بسم الله الرحمن الرحيم إن تعميق الوعي الإسلامي هو السلاح الذي لا يغلب لبعث الأمة الإسلامية من رقدتها والرجوع بها إلى جذورها الفكرية ومنابعها الأصلية ، والمكتبة العربية زاخرة بكنوز الفكر والثقافة لتبيين جميع أسباب الحياة ، وهذه الكنوز تحتاج لجهد مخلص للكشف عنها وتيسيرها لأبناء الأمة الإسلامية . ولما كان البحث في التراث الإسلامي العظيم يكشف لنا عما كان عليه أئمة الصوفية ورحلاتهم وعرض أفكارهم ، كان لهذا المؤتمر الدولي الكبير دوراً هاماً لربط الحاضر بالماضي ، فهذا المؤتمر يعنى بدراسة فكر محي الدين ابن العربي وعرض ما له وما عليه ، وإبراز الدور الذي لعبه في الفكر الصوفي ، وسنقوم بإذن الله تعالى يعرض مقدمة عن محي الدين بن العربي ثم نعرض للطريقة الشاذلية ، ونختم بحثنا بالكلام عن سيدي أحمد بن عطاء الله السكندري كنموذج . عصر ابن عربي وحياته ومؤلفاته: ولد محمد بن علي بن عربي الاثنين 17 رمضان 560 ه الموافق 28 تموز 1165 م في مدينة " مرسية" في الأندلس, لأسرة عربية عريقة معروفة بالتقى والعلم. وانتقل مع أسرته إلى اشبيلية فدرس هنالك القرآن والحديث والفقه على يد أحد تلاميذ " ابن حزم" إمام المذهب الظاهري في الأندلس. وكان في الثامنة من عمره حين وصل اشبيلية. وكانت نشأته الأولى نشأة فتى مترف في أسرة ثرية ، فقد التفت إلى الصيد ومجالس الأدب ، ولم تظهر عليه إمارات الزهد والتصوف . ولكن هذه الصورة تبدلت إثر زواجه من مريم بنت محمد بن عبدون بن عبد الرحمن الباجي. وكانت مثلاً صالحاً في التقى والصلاح والورع . بدأ ابن عربي تتراءى له في أحلامه عذابات جهنم ، وفي تلك الفترة توفي والده ، تجمعت الأسباب لديه ليسلك طريق التصوف ، وهو لا يزال في اشبيلية. تتلمذ ابن عربي في التصوف على بعض أعلام عصره من أمثال: -موسى بن عمران الميرتلى - أبي العباس العريانى - أبي عبد الله مجاهد - أبي عبد الله قسوم - أبي الحجاج الشبريلي . وتعرف على عجوز تدعى فاطمة بنت المثنى القرطبية فلزمها وأخذ عنها رياضات النفس الصوفية . وتمثلت له شخصية " الخضر" في إطارها المتعبد الورع. غادر ابن عربي اشبيلية في جولة على مدن الأندلس والمغرب . فزار قرطبة وبجاية حيث التقى ابن الحسن الاشبيلي المعروف بأبي مدين ، وهو المتصوف المشهور في التاريخ الإسلامي. كما زار تلمسان وتونس، وأقام بعض الوقت في فاس, وعاد إلى الأندلس فزار بعض مدنه , وعاد إلى المغرب حيث زار مراكش عاصمة الموحدين وعاودته الأحلام والرؤى, ثم قصد بجاية ثانية, وتطورت رؤاه إلى حلم رأى فيه أنه يتزوج بنجوم السماء. كان ابن عربي في الثامنة والثلاثين من عمره حينما اتجه إلى المشرق لأداء فريضة الحج. ولم يعد يومها إلى الأندلس ولا إلى المغرب. أقام الشيخ ابن عربي في مكة ثلاث سنين تعرف خلالها إلى إمام الحرم المكي المعروف بأبي خاشة. وتزوج ابنته "نظام" وكتب فيها ديوانه "ترجمان الأشواق" وهو شعر رقيق في الغزل الذي يوحي بمعان صوفية رائعة من خلال صور الغزل الحسي الجميل. كانت بلاد المشرق تحت حكم الأسرة الأيوبية من سلالة صلاح الدين. وكان حكمهم يمتد على مصر والشام والحجاز. وقد قام ابن عربي برحلة طويلة زار من خلالها مدن المشرق. وكان الصليبيون لا يزالون يحتلون أجزاء من أراضي المسلمين في الشام. ولا يزالون في إمارتي إنطاكية وطرابلس, وهذا ما يفسر لنا آراء ابن عربي المتشددة في هذا المجال وكراهيته الشديدة للأجانب الصليبين. في الموصل التقى ابن عربي الشيخ المتصوف "علي بن جامع" ولبس بين يديه خرقة الصوفية. وفي القاهرة قال بوحدة الوجود فتألب عليه الفقهاء، وأثاروا العامة ، ولكن العادل الأيوبي صاحب مصر كان متسامحاً فلم يلحق أذى بابن عربي. وفي بغداد اجتمع حوله نفر من المتصوفة. وعاد إلى قونيه ثم إلى ملطية. ثم قصد مدينة حلب أيام الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي, ولقي عنده ترحيبا حاراً وإكراماً رغم الضغوط الفقهاء المتشددين ومطالبتهم بطرد ابن عربي أو معاقبته. استمرت إقامته في حلب حتى 620 ه ثم غادرها إلى دمشق التي لزمها حتى وفاته يوم 28 ربيع الثاني 638 ه الموافق 16/11/1240 م ودفن هناك. ترك الشيخ محي الدين ابن عربي مئات المؤلفات والكتب والرسائل، في مجالات التفسير والحديث وعلم الكلام, والشعر . ولكن التصوف غلب على أبرز مؤلفاته بحيث بلغ القمة في هذا المجال. وفي طليعة مؤلفات ابن عربي تأتي الكتب التالية: 1- الفتوحات المكية : وهو أعظم كتبه, ألفه خلال 40 سنة, بداية من وجوده في مكة وانتهاء بوجوده في دمشق, ويقع في أربعة آلاف صفحة, وهو جامع لكل آرائه في مؤلفاته السابقة , ومادته العلمية ضخمة جداً وعميقة وغامضة في رموزها, ويقسم الكتاب إلى ستة أقسام هي: المعارف – المعاملات - الأحوال - المنازل - المغازلات - المقامات وهذه الأقسام موزعة على خمسمائة وستين فصلاً مقدمة ضخمة ومن قوله في المقدمة: ) الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدم وعدمه. وأوقف وجودها على توجه كلمة لنتحقق بذلك سر حدوثها وقدمها من قدمه. ونقف عند هذا التحقيق على ما أعلمنا به من صدق قدمه. والصلاة على سر العالم ونكتته. ومطلب العالم وبغيته, السيد الصادق, المد لج إلى ربه, الطارق, المخترق به السبع طرائق, ليريه من أسرى به ما أودع من الآيات والحقائق, فيما أبدع من الخلائق, الذي شاهدته عند إنشائي هذه الخطبة, في عالم حقائق المثال , في حضرة الجلال, مكاشفة قلبية غيبية ) ب- فصوص الحكم: ويعتبره النقاد أعمق كتبه وأكثرها تركيزاً وتلخيصاً لآرائه الصوفية. وهو عرض مكثف لرأي الشيخ ابن عربي في وحدة الوجود وخلاصة معارفه الواسعة في القرآن والحديث وعلم الكلام والفلسفة بمذاهبها الحديثة والرواقية والمشائية وإخوان الصفا والأشاعرة والمعتزلة ومن سبقه من المتصوفين. ج- تفسير ابن عربي : وهو تفسير ضخم للقرآن الكريم. د- محاضرة الأبرار. ه- ترجمان الأشواق وشرحه المعروف باسم ذخائر الأعلاق و-الأحاديث القدسية ز- كتاب الأرواح ح-كتاب التجليات الإلهية ط- كتاب الروح القدسية ي- الحكمة الإلهامية ك- ديوان الشيخ الأكبر يقوم الفكر الصوفي عند ابن عربي على قواعد بارزة يمكن تلخيصها فيما يلي: 1 - القول بوحدة الوجود. 2 - الشك الصوفي والحيرة 3 - الزهد الصوفي 4 - العلاقة بين الحق والخلق 5 - الذات الإلهية 6 - الله والإنسان يرى ابن عربي أن كتاباته تصدر عن النور الإلهي. وإن لا شيء يشفي من الحيرة إلا طريق المتصوفة في مجاهدة النفس, فالعقل الفلسفي يقود إلى الشك. والطريق المؤدي إلى الإيمان وراحة النفس هو الاتصال المباشر بالله واستمداد المعرفة منه. وهذه المعرفة هي الاتحاد بالخالق. ويرى أن العلوم على ثلاثة منازل: - منزلة هي علم العقل: وهو يبحث في الدليل وصحة الرأي وفساده. -منزلة علو الأحوال: ويتوصل إليها بالذوق والتجربة. - منزلة علم الأسرار: وهو فوق طور العقل, وهو أشرف العلوم لأنه محيط بكل المعلومات, ويخص الأنبياء والأولياء. ثالثاً- أثر ابن عربي: لم ينقسم الباحثون حول مفكر كما انقسموا حول ابن عربي بين مؤيدين ومعارضين ، والمؤيدون متحمسون والمعارضون شديدو العداوة ينقلون الرجل إلى دائرة الكفر والزندقة. ومن أبرز مؤيديه في التاريخ الإسلامي المخزومي والفيروز أبادي والصلاح ألصفدي وابن العديم والزملكاني والقطب الحموي وعمر السهر وردي والنووي والسيوطي والكاشي والمقري وجلال الدين الرومي والشيرازيان سعدي وحافظ ومن أبرز معارضيه ابن تميمة وابن إياس والبقاعي وجمال الدين بن الخياط وعلي الفارسي وسواهم.