المصريون بالخارج يواصلون التصويت في ثاني وآخر أيام الاقتراع بالدوائر الملغاة    ولاية فلوريدا الأمريكية تصنف جماعة الإخوان منظمة إرهابية    الخشيني: جماهير ليفربول تقف خلف محمد صلاح وتستنكر قرارات سلوت    تحذيرات من الأرصاد: طقس غير مستقر اليوم الثلاثاء مع 3 ظواهر تضرب المحافظات    برلمانيون ليبيون يستنكرون تصريحات مجلس النواب اليوناني    الفنانة شمس: صاحب العقار طردني علشان 17 جنية    مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 9 ديسمبر 2025 في القاهرة والمحافظات    الليلة، الزمالك يستهل مشواره في كأس عاصمة مصر بمواجهة كهرباء الإسماعيلية    أسعار الأسماك والخضروات والدواجن اليوم 9 ديسمبر    فلوريدا تصنف الإخوان وكير كمنظمتين إرهابيتين أجنبيتين    دعاء الفجر| اللهم ارزقنا نجاحًا في كل أمر    عوض تاج الدين: المتحور البريطاني الأطول مدة والأكثر شدة.. ولم ترصد وفيات بسبب الإنفلونزا    الرياضة عن واقعة الطفل يوسف: رئيس اتحاد السباحة قدم مستندات التزامه بالأكواد.. والوزير يملك صلاحية الحل والتجميد    محمد أبو داوود: عبد الناصر من سمح بعرض «شيء من الخوف».. والفيلم لم يكن إسقاطا عليه    حالة الطقس اليوم الثلاثاء 9 ديسمبر 2025: طقس بارد ليلًا وأمطار متفرقة على معظم الأنحاء    ما هي شروط إنشاء مدارس مهنية ثانوية؟.. القانون يجيب    الكواليس الكاملة.. ماذا قال عبد الله السعيد عن خلافه مع جون إدوارد؟    تعرف على عقوبة تزوير بطاقة ذوي الهمم وفقًا للقانون    أحمديات: مصر جميلة    من تجارة الخردة لتجارة السموم.. حكم مشدد بحق المتهم وإصابة طفل بري    مصدر بالسكك الحديد: الأمطار وراء خروج عربات قطار روسي عن مسارها    الصيدلانية المتمردة |مها تحصد جوائز بمنتجات طبية صديقة للبيئة    كرامة المعلم خط أحمر |ممر شرفى لمدرس عين شمس المعتدى عليه    بفستان مثير.. غادة عبدالرازق تخطف الأنظار.. شاهد    خيوط تحكى تاريخًا |كيف وثّق المصريون ثقافتهم وخصوصية بيئتهم بالحلى والأزياء؟    "محاربة الصحراء" يحقق نجاحًا جماهيريًا وينال استحسان النقاد في عرضه الأول بالشرق الأوسط    التعليم تُطلق أول اختبار تجريبي لطلاب أولى ثانوي في البرمجة والذكاء الاصطناعي عبر منصة QUREO    هل يجوز إعطاء المتطوعين لدى الجمعيات الخيرية وجبات غذائية من أموال الصدقات أوالزكاة؟    الأهلي والنعيمات.. تكليف الخطيب ونفي قطري يربك المشهد    مرموش ينشر صورا مع خطيبته جيلان الجباس من أسوان    حذف الأصفار.. إندونيسيا تطلق إصلاحا نقديا لتعزيز الكفاءة الاقتصادية    المستشار القانوني للزمالك: سحب الأرض جاء قبل انتهاء موعد المدة الإضافية    الصحة: جراحة نادرة بمستشفى دمياط العام تنقذ حياة رضيعة وتعالج نزيفا خطيرا بالمخ    رئيسة القومي للمرأة تُشارك في فعاليات "المساهمة في بناء المستقبل للفتيات والنساء"    نائب وزير الإسكان يلتقي وفد مؤسسة اليابان للاستثمار الخارجي في البنية التحتية لبحث أوجه التعاون    وزير الاستثمار يبحث مع اتحاد المستثمرات العرب تعزيز التعاون المشترك لفتح آفاق استثمارية جديدة في إفريقيا والمنطقة العربية    رئيس مصلحة الجمارك: انتهى تماما زمن السلع الرديئة.. ونتأكد من خلو المنتجات الغذائية من المواد المسرطنة    تحذير من كارثة إنسانية فى غزة |إعلام إسرائيلى: خلاف كاتس وزامير يُفكك الجيش    جريمة مروعة بالسودان |مقتل 63 طفلاً على يد «الدعم السريع»    حظك اليوم وتوقعات الأبراج.. الثلاثاء 9 ديسمبر 2025 مهنيًا وماليًا وعاطفيًا واجتماعيًا    الزراعة: الثروة الحيوانية آمنة.. وأنتجنا 4 ملايين لقاح ضد الحمى القلاعية بالمرحلة الأولى    لدعم الصناعة.. نائب محافظ دمياط تتفقد ورش النجارة ومعارض الأثاث    الأوقاف تنظم أسبوعًا ثقافيًا بمسجد الرضوان بسوهاج | صور    إحالة أوراق قاتل زوجين بالمنوفية لفضيلة المفتي    أفضل أطعمة بروتينية لصحة كبار السن    مجلس الكنائس العالمي يصدر "إعلان جاكرتا 2025" تأكيدًا لالتزامه بالعدالة الجندرية    تحرير 97 محضر إشغال و88 إزالة فورية فى حملة مكبرة بالمنوفية    مراد عمار الشريعي: والدى رفض إجراء عملية لاستعادة جزء من بصره    جوتيريش يدعو إلى ضبط النفس والعودة للحوار بعد تجدد الاشتباكات بين كمبوديا وتايلاند    وزير الاستثمار يبحث مع مجموعة "أبو غالي موتورز" خطط توطين صناعة الدراجات النارية في مصر    محافظ سوهاج بعد واقعة طلب التصالح المتوقف منذ 4 سنوات: لن نسمح بتعطيل مصالح المواطنين    المنتخب السعودي يفقد لاعبه في كأس العرب للإصابة    علي الحبسي: محمد صلاح رفع اسم العرب عالميا.. والحضري أفضل حراس مصر    أفضل أطعمة تحسن الحالة النفسية في الأيام الباردة    كيف تحمي الباقيات الصالحات القلب من وساوس الشيطان؟.. دينا أبو الخير تجيب    إمام الجامع الأزهر محكمًا.. بورسعيد الدولية تختبر 73 متسابقة في حفظ القرآن للإناث الكبار    لليوم الثالث على التوالي.. استمرار فعاليات التصفيات النهائية للمسابقة العالمية للقرآن الكريم    متحدث الصحة ل الشروق: الإنفلونزا تمثل 60% من الفيروسات التنفسية المنتشرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجماعات الصوفية المصرية (1/7) الصوفى والمتصوِّف.. بين الطريق والطريقة
نشر في المصري اليوم يوم 18 - 05 - 2011

قبل الخوض فى غمار هذا الموضوع «الوعر» الذى يبدو من ظاهره بسيطاً، أعنى موضوع الجماعات (الطرق) الصوفية المصرية المعاصرة، لابد أولاً من الرجوع بالزمن إلى الوراء، لنرى كيف انبثق التصوف فى تاريخنا الإسلامى، فى الوقت الذى ظهرت فيه بقية المذاهب والطرق والاتجاهات ذات الطابع الدينى.. كما يقتضى الأمرُ، التفرقة بين مفردات مثل (صوفى، متصوِّف) ومثل (طريق، طريقة)، وغير ذلك من كلمات تتشابه معانيها وتشتبه على كثير من المعاصرين، ولذلك فلا محالة عن ضبط الدلالة، حتى لا تختلط فى الأذهان المفاهيم، وهو ما لا يمكن أن يتم من دون متابعة التحولات الرئيسية فى تاريخ التصوف، وصولاً إلى عصرنا الحالى.. وهو الأمر الذى خصَّصنا له هذه المقالة الأولى من السُّباعية.
■ ■ ■
على خلاف ما يُلقِّنونه للأطفال فى المدارس، ويروِّجونه فى الأفلام والمسلسلات التليفزيونية، من أن انتشار الإسلام كان بمثابة (المعجزة) التى حدثت بمشيئة علوية، قلبت كل موازين القوى فى العالم القديم، وجعلت من المسلمين سادة للعالم شرقاً وغرباً، بعد عقود قليلة من زمن ظهور الإسلام.. على الخلاف من ذلك، أرى من جانبى (وقد أكون مخطئاً) أن انتشار الإسلام وسيطرة المسلمين على أنحاءٍ كثيرةٍ من «العالم القديم» كان نتيجة طبيعية، ومتوقَّعة، للأحوال العامة التى سادت العالم آنذاك.
ظهر الإسلامُ فى قلب جزيرة العرب، بعد قرون من محاولات العرب السابقين على الإسلام، إقامة دول وإمبراطوريات قوية، على غرار مملكة «تدمر» التى حكمتها المرأة العربية الحكيمة، المسماة (زنوبيا) أو (الزبَّاء) أو (زينب) التى ورثت المملكة العربية الممتدة من عاصمتها تدمر، بوسط سوريا الحالية، إلى بلاد فارس شرقاً وإلى الإسكندرية غرباً. وما لبث الرومان، بعد وقائع كثيرة، ومعاهدات وحروب، أن استطاعوا القضاء على مملكة تدمر بأسرِها (سنة 271 ميلادية)، وأسروا الملكة العربية واقتادوها إلى روما مجلَّلةً بعار المهزومين.
ومن تلك الممالك العربية، ما وصل به الاستقرار السياسى إلى الحال الذى سمح بجلوس النساء على العرش، حاكمات، مثل الملكة العربية (ماوية) التى أدارت باقتدار المملكة العربية فى العراق، إبَّان القرون الميلادية الأولى.. ويقال، تاريخياً، إن هناك أكثر من ملكة، حكمت هناك، كان اسمها: ماوية.
وعندما تعاظمت قوة الفرس (المعسكر الشرقى) ونازعت دولة الروم (المعسكر الغربى) للسيطرة على العالم القديم، بأسرِه، لم يكن العرب بعيدين عن لعبة توازن القوى العالمية، بل كانت لهم مشاركات تدل على الحضور القوى فى العالم من قبل الإسلام.. ولا يجب أن
يفوتنا هنا، أن القبائل العربية استطاعت هزيمة الفرس فى موقعة «ذى قار» قبل الإسلام، وكادت قبيلة (تغلب) أن تقود العرب فى سائر الأنحاء، لولا أنها ابتُليت بعد مقتل «كُلَيْب» بأخيه الأحمق: المهلهِل بن ربيعة (الزير سالم) الذى أشعل حرباً أنهكت طيلة ثلاثة وعشرين عاماً، قبائلَ بكر وتغلب والقبائل المتحالفة معهما، لأن هذا (الثائر المنتقم) لم يفهم أن أخاه كُلَيْباً، كان يؤسِّس دولة، فاندفع فى طلب ثأره حتى هدم الكيان العربى الوليد، آملاً أن يَقتل حتى ينطق أخوه فى قبره ويطالبه بإيقاف الحرب! وقد كان الزير سالم، على كل حال، سكيراً عتيداً ومتفاحشاً فى غرامه بالنساء، ولذلك نقول إلى اليوم واصفين الواحد من المتهتكين فى هذا الأمر، بأنه: زير نساء..
وقد توقفت الحروب المريرة المسماة (حرب البسوس) قبيل ظهور الإسلام، وكادت القبائل تعود للتوحُّد لولا اجتاحت جيوش الإسلام العراق والشام ومصر، ومن هنا كان القدماء من حكماء العرب يقولون: لولا الإسلام لأكلت «تغلب» الناس.
ولا يجب أن يفوتنا هنا، أيضاً، أن وقت ظهور الإسلام شهد انهياراً كبيراً فى الكيان السياسى، والعسكرى، لدولتىْ الفرس والروم، وشهد اضطراباً عقائدياً مريراً، ما بين اضمحلال ديانة المجوس فى فارس (إيران الحالية) وانتشار المسيحية النسطورية فى العراق، ثم توغُّلها فى قلب قارة آسيا، واقتتال المذاهب المسيحية الأرثوذكسية فيما بينها، قرابة قرنين من الزمان، بسبب تلك التأويلات الخاصة لنصوص الأناجيل، مما نجم عنه خلافات عتيدة، كان الإمبراطور قسطنطين الكبير يصفها فى الربع الأول من القرن الرابع الميلادى، بأنها: خلافاتٌ سوقيةٌ وضيعة..
أما اليهود، والديانة اليهودية بمذاهبها المختلفة، فقد شهدوا أصعب الفترات فى تاريخهم القاتم الحزين، وتعرضوا لأبشع المذابح على يد المسيحيين الذين قتلوا من اليهود عشرات الآلاف، عقب انتصار «هرقل» على الفرس واسترداده إيليا (أورشليم، القدس) سنة 628 ميلادية، وهى الفترة التى تزامنت مع حروب النبى محمد «صلى الله عليه وسلم» مع يهود مدينة «يثرب» ومنطقة «خيبر»، ثم إجلائهم من المدينة، ومن بعد ذلك طردهم من الجزيرة العربية كلها، عملاً بالحديث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب.
وراح العرب، المسلمون، بعزمهم الفتىِّ وهمَّتهم العالية، يوسِّعون سلطانهم السياسى (القرشىّ) على حساب الممالك المتهالكة: فارس التى يحكمها «شاهنشاه» نشأ فى حضن الروم، التى يحكمها «هرقل» الذى تزوَّج ابنة أخته الفاتنة (مرتينا) بمباركة عديد من الأساقفة..
وهكذا لم يكن من العسير على المسلمين أن ينتزعوا حكم العراق من بقايا دولة الفرس، وجموع العرب من قبيلة (تَغْلب) التى كانت تدين آنذاك بالمسيحية، وسمح لهم الخليفة المشهور بالتشدُّد (عمر بن الخطاب) بالإعفاء من سداد الجزية، فى مقابل عدم تعميد أطفالهم أو تنشئتهم على النصرانية..
وكذلك، لم يكن من المستحيل على المسلمين أن يدخلوا الشام، ويتسلَّموا عاصمتها دمشق من الحاكم العربى الموالى للروم (منصور).. وأن يجتاحوا أنحاء مصر التى يسكنها العرب من قبلها بقرون، بجيشٍ لا يكفى لاحتلال حصن منيع واحد، من الحصون الكثيرة التى كانت بمصر، غير أن الذى يحول دون دخول الفاتحين، ليس حوائط الحصون، وإنما إصرار المتحصِّنين بداخلها، وقد كان (المقوقس) حسبما أوضحنا فى سُباعيةٍ سابقة، قد باع مصر سِراً للمسلمين، وتحالف معهم على (عهد) سبق مجىء عمرو بن العاص، بسنوات.
■ ■ ■
وقبل مرور المائة سنة التالية على وفاة نبى الإسلام، استطاع رجال قريش السيطرة سياسياً وعسكرياً، على البلاد الممتدة من الأندلس والمغرب، إلى «خوارزم» الواقعة بقلب قارة آسيا.. ودخلت الأمم فى دين الإسلام بالآلاف، وصار أبناؤهم مسلمين يصل عددهم إلى الملايين من الناس .
ومثلما كان انتشار الإسلام، حسبما رأينا سابقاً، منطقياً وضرورياً بالقياس إلى الظروف العامة فى ذاك الزمان. كان ابتداءُ التصوف بين المسلمين، وانتشارُه السريعُ فى أنحاء العالم الإسلامى، منطقياً وضرورياً.. إذ إن الموروث الثقافى للجماعات والأمم، حديثة العهد بالإسلام، كان لا بد من ظهوره فى النطاق العام الجديد (العربى/ الإسلامى)، وهو ما ظهر مبكراً فى عدة أشكال، منها المساهمات اليهودية المعروفة فى تراثنا باسم (الإسرائيليات)، ومنها الامتدادات العربية الإسلامية للقضايا السريانية المسيحية، المعروفة فى تراثنا بأسماء (علم الكلام، علم العقيدة، أصول الدين) على النحو الذى شرحته تفصيلاً فى كتابى: اللاهوت العربى.
وفى القرن الثانى الهجرى، وانطلاقاً من النزوع الإنسانى الأصيل للتعالى عن المحسوسات، وصولاً إلى حقائق الوجود العميقة.. وتأسيساً على عديدٍ من التوجيهات القرآنية والمواقف التقشُّفية المبهرة منذ عصر النبوة.. وإعجاباً بالصفاء الروحى الذى يعيشه الرهبان وزهاد الهنود.. وهروباً من الانغماس فى الترف والملذَّات، إبَّان العصر العباسى الأول: ظهر التصوف عند المسلمين كطريقٍ روحى يختاره نخبة من النساء والرجال الفارِّين من زخرف الدنيا الفانية، آملين فى اللحاق بعالم الحضرة الإلهية وحقائقها الأزلية الأبدية.
ظهر فى العصر العباسى الأول، صوفية مبهرون انشغلوا بالباطن عن الظاهر، من أمثال رابعة العدوية وعبدالواحد بن زيد وذى النون المصرى.. وجاء بعدهم جيلٌ من الصوفية العارمين، الذين ضربوا أروع الأمثلة فى سلوك الطريق الروحى، منهم أمثال أبى يزيد البسطامى والحكيم الترمذى والجنيد والحلاج والشِّبلى.. ثم تعمَّق المسار الصوفى، فكشف من بعد القرن الرابع الهجرى عن خبرات صوفية بديعة، رأيناها عند أفراد الرجال من الذين عبَّروا عن أحوالهم، أو أرَّخوا للصوفية السابقين عليهم، وهم أمثال النِّفَّرى (صاحب: المواقف والمخاطبات)، وفريد الدين العطار (صاحب: منطق الطير) والقشيرى (صاحب: الرسالة القشيرية)، والهجويرى (صاحب: كشف المحجوب).
ولم يكن هؤلاء السابقون أعضاء فى (طريقة) أو جماعة صوفية ينتسبون إليها، وإنما انتسب إليهم من بعدُ بعضُ المعجبين بطريقتهم، وكتابتهم الشعرية والنثرية، فكان هؤلاء المتأخرون زمناً بمثابة المريدين، وصار الأوائل المتقدمون بمثابة الأولياء أو «علامات الطريق» أو المشايخ المؤسِّسين.. بعبارة أخرى، كان الواحد من هؤلاء المبكرين، صاحب (طريق) وليس (طريقة)، وكانت مسيرته الروحية (مفردة) لا جماعية، وبالغة الخصوصية لا عمومية؛ انطلاقاً من المبدأ الصوفى: الطرق إلى الله، على عدد أنفاس البشر.
ومع منتصف القرن السادس، وفى غمرة التفكك السياسى العام فى دولة بنى العباس، ظهر فى الحياة الدينية الإسلامية جماعات يتحلَّقون حول شيخ حالىّ، أو تراث شيخ سابق، ويجعلون من طريقتهما فى التديُّن سبيلاً خاصاً يلتزمون به، من ناحية الالتزام بتعاليم (الشيخ) ومتابعة النوافل التى يُوصِى بها (المريدين) والاستمساك بعروةٍ روحية تجمع أهل (الطريقة).. وهو ما يظهر من خلال الطرق الصوفية الشهيرة، التى وفد عديدٌ منها إلى مصر (حسبما سيرد فى بقية مقالات هذه السُّباعية) مثل الطريقة القادرية، والطريقة الرفاعية، والطريقة الدسوقية.. وغيرها.
■ ■ ■
ومع أن القرن السابع الهجرى، كان زمن استعلان الطرق الصوفية وأوان انتشارها فى العالم الإسلامى عموماً، ومصر خصوصاً، إلا أن كثيرين من أهل التصوف آنذاك، لم يكونوا منتظمين داخل (طريقة) بعينها، ولم يؤسس عديدٌ منهم، على الرغم من شهرتهم وذيوع سيرتهم الروحية، ما يمكن تسميته (طريقة صوفية) بالمعنى الدقيق لهذا الاسم.. فمن هؤلاء، مثلاً، صوفية كبار من أمثال: ابن عربى، عفيف الدين التلمسانى، ابن سبعين، السهروردى (وأمثالهم) وهؤلاء يقال للواحد منهم: صاحب طريق.. بينما ظهر صوفية مؤسِّسون لطرق صارت من بعد ذلك شهيرة، وفيرة الأتباع، منهم: جلال الدين الرومى، أبوالحسن الشاذلى، أحمد البدوى (وأمثالهم) وأولئك يقال للواحد منهم: شيخ طريقة.
ومع أن القاعدة العامة للتصوف، منذ القرن الثامن الهجرى، تقول إن على المتصوف أن يكون له شيخ روحى (مرشد) إلا أن التصوف عرف دوماً نوعاً من الاستثناء لهذه القاعدة، فبعض كبار الصوفية، القلائل، لم يكن لهم «شيوخ» وإنما دخلوا غمار التجربة الروحية من نواحٍ خاصةٍ بهم، ابتكروها لأنفسهم، وهؤلاء يسمَّى الواحد منهم (أُوَيْسِىّ) نسبةً إلى الرجل اليمنى «أويس بن عامر القرنى» الذى عاصر النبى محمداً «صلى الله عليه وسلم»، لكنه لم يقابله قَطُّ؛ ومع ذلك صار ولياً من كبار الأولياء الذين نالوا مكانة عالية، حتى إن حديثاً رُوى عن النبى «صلى الله عليه وسلم»، يوصى فيه أبا بكر وعمر (الشيخين) بأنهما إذا لقيا (أويس) يطلبان منه أن يستغفر لهما، يغفر الله لهما..
وحين التقيا به فى موسم الحج، وعرفا منه أنه أعيق عن المجىء إلى مكة فى حياة النبى، لأنه كان يرعى أمه العجوز ولا يستطيع تركها! طلبا منه أن يستغفر لهما، فاستغفر (أويس) استغفاراً عاماً لكل المسلمين، ودعا لهم جميعاً، دعاءً عمومياً لم يختص به أحداً.. ومن هذا (المشرب) جاء بعد ذلك صوفية كبار، وُصِفوا بأنهم (أويسيون) لأنهم لم يلتقوا بشيخٍ مرشد لهم، منهم مؤسس الطريقة النقشبندية: محمد شاه نقشبند الأويسى (إشارة: كلمة نقشبند فارسية الأصل، وهى تعنى حرفياً أثر النقش، ومجازاً علامة سلوك الطريق).
■ ■ ■
لفظ التصوف، إذن، يجمع فى معناه العام بين التجربة الروحية المفردة التى يخوض غمارها (الصوفى)، والانتظام فى جماعة روحية، يسمَّى الواحد من أهلها (متصوف).. فالصوفى نموذج يكون به الاقتداء، والمتصوِّف تابعٌ يطلب الارتقاء.. الصوفى صاحب طريق، والمتصوِّف عضوٌ فى طريقة.. الصوفى مراد، والمتصوف مريد.
الصوفىُّ يطير والمتصوفُ يسيرُ
الأولُ جوهرْ،
والآخرُ سائر على المعبرْ
الأول مُخبرٌ، والآخر لا يبرح يستخبرْ
ولكلٍّ منهما سرٌّ خطيرُ
ومعنىً مبهرْ
فالمستقيمات يضمُّها الخطُّ
فلا فرار من حيِّز الدائرة، المحيط
الأكبرْ
ولا وصول مهما امتدَّ المسيرُ
ومَنْ يزعم وُصولاً،
يكفُرْ
■ ■ ■
وحسبما أسلفتُ فى سُباعية (الرؤية الصوفية للعالم) فإن التصوف نزعة أصلية فى الإنسان الساعى إلى ملامسة الحقائق العميقة فى الكون، والتوسل إلى انعكاس معانى الكون على المرآة الذاتية (الباطنة) لهذا المتجرّد عن المحسوسات، الطامح إلى سطوع الأنوار العلوية على مرآته، أملاً فى تجلِّى المعارف الكلية بالكشف الذاتى المتعالى على قواعد الإدراك الحسى والاستدلال الاستقرائى والاستنباط العقلى.. (لابد هنا أن أترفق قليلاً، وأشرح كثيراً، فهذه مقالة فى جريدة يومية وليست محاضرة للمتصوفين).. بعبارة أخرى، أقول:
الصوفى هو المنهمك فى عشقه ومشاهداته، وهو الناظر فى الكون بعين القلب، ولذلك يرتبط التصوف بالفن والأدب، وبالشِّعر الذى يحلِّق فوق الآفاق المعتادة، ويتجاوز اللحظية والمناسباتية.. ولذلك، نصف مولانا جلال الدين الرومى فى ديوانيه (شمس تبريز، المثنوى) وليس فى كتابه (فيه ما فيه) بأنه صوفى، فهو الذى قال: ليس عجباً أن تفرَّ الشاةُ من الديب، العجب أن يكون لها منه حبيب.. وقال: إننى أفكر فى القافية وحبيبى يقول «لا تفكر فى شىءٍ سواى».. وقال: إن الدم ليتفجَّر من قلبى مع الكلمات.
وعلى الجانب الذى يبدو بعيداً، يُعَدُّ الشاعر الفرنسى العجيب «رامبو» صوفياً، حين رسم صورة شعرية ترجمتها: «وشعاعٍ ذهبىٍّ يتخضب فى هدوء، على أطراف الأغوار المتباعدة! وأشجار صغيرة، من دون قمم، يغرِّد عليها عصفور ضعيف».. لأنه هنا يرسم صورة مفارقة، متعالية عن الواقع، وهو الأمر ذاته الذى يظهر عند الشاعر الإنجليزى «ييتس» حين تغمره النزعة الصوفية، فيقول فى قصيدة له، متجاوزاً الواقع المرئى ومفارقاً المعتاد، ما نصه:
فى الغابة، رأيت نهراً
فهتفت: يا أخى..
كما تتجلَّى النزعة الصوفية فى رسوم المنمنمات، وفى لوحات صلاح طاهر التى يتموَّج فيها الحرف العربى مع اللون الباهر، وفى بعض أعمال سلفادور دالى التى تسيل فيها الأشياءُ الجامدة ويُعاد تكوين المرئيات فى الوعى.. فهذه، كلها، حالات صوفية، حتى وإن كان أصحابها غير (متصوِّفين) أى غير منتظمين فى طريقة صوفية.
الصوفية، إذن، نزعة إنسانية حرة (مطلقة) قد يكون صاحبها «صوفياً» إذا ما جاءت استجابته لهذا النداء الداخلى للعلوّ، فردية. فإن كان مندرجاً ضمن جماعة صوفية معينة، لها مشايخ وتقاليد فى السلوك (أوراد، حلقات ذكر.. إلخ) فهو يكون فى هذه الحالة «متصوِّفاً».. وبالتالى، فلا يُشترط التطابق بين الصوفى والمتصوِّف، فقد يكون الشاعر أو الفنان أو العاشق الملتهب «صوفياً» مع أنه ليس متصوفاً. فالشاعر الشهير نزار قبانى، مثلاً، لم يكن متصوفاً، لكنه عبَّر عن حالةٍ صوفية فى شعره حين قال:
حُبُّك يا عميقة العينين
تصوفٌ
تطرفٌ
عبادةْ
حُبُّك مثلُ الموت
والولادة
صعبٌ أن يُعانَى مرتين!
■ ■ ■
وبعد، ففى المقالة القادمة سوف نلقى الضوء على طبيعة الجماعة الصوفية (الطريقة)، ونوضح اختلافها مع طبيعة وبنية الجماعات الإسلامية الأخرى، وذلك تحت عنوان (المؤتلف والمختلف، بين المتصوفة والسلفيين وسائر الإسلاميين).. ومن بعدها، نستعرض فى المقالات الخمس الباقية، الطرق الصوفية الأكثر انتشاراً فى مصر المعاصرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.