الدفاع الروسية: اعتراض 13 مسيرة أوكرانية فوق مقاطعتي روستوف وبيلجورود    424 مرشحًا يتنافسون على 200 مقعد.. صراع «الشيوخ» يدخل مرحلة الحسم    اتحاد الدواجن يكشف سبب انخفاض الأسعار خلال الساعات الأخيرة    بسبب خلافات الجيرة في سوهاج.. مصرع شخصين بين أبناء العمومة    الحقيقة متعددة الروايات    بعد الزلزال.. الحيتان تجنح ل شواطئ اليابان قبل وصول التسونامي (فيديو)    "بعد يومين من انضمامه".. لاعب الزمالك الجديد يتعرض للإصابة خلال مران الفريق    بالأسماء| ننشر حركة تنقلات وترقيات قيادات وضباط أمن القاهرة    بمحيط مديرية التربية والتعليم.. مدير أمن سوهاج يقود حملة مرورية    نقيب السينمائيين: لطفي لبيب أحد رموز العمل الفني والوطني.. ورحيله خسارة كبيرة    رامي رضوان ودنيا سمير غانم وابنتهما كايلا يتألقون بالعرض الخاص ل «روكي الغلابة»    الطعام فقط ومكافأة حماس.. هل يعترف ترامب بدولة فلسطين؟    ترامب: أبرمنا اتفاقا تجاريا مع باكستان وسنعمل معًا على تطوير احتياطياتنا النفطية    سعر التفاح والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 31 يوليو 2025    «الصفقات مبتعملش كشف طبي».. طبيب الزمالك السابق يكشف أسرارًا نارية بعد رحيله    إيرادات أزور تتجاوز 75 مليار دولار ومايكروسوفت تحقق أرباحا قياسية رغم تسريح الآلاف    الحد الأدني للقبول في الصف الأول الثانوي 2025 المرحلة الثانية في 7 محافظات .. رابط التقديم    اصطدام قطار برصيف محطة "السنطة" في الغربية.. وخروج عربة من على القضبان    أول تصريحات ل اللواء محمد حامد هشام مدير أمن قنا الجديد    من بيتك في دقائق.. طريقة استخراج جواز سفر مستعجل (الرسوم والأوراق المطلوبة)    مذكرات رجل الأعمال محمد منصور تظهر بعد عامين من صدور النسخة الإنجليزية    المهرجان القومي للمسرح المصري يعلن إلغاء ندوة الفنان محيي إسماعيل لعدم التزامه بالموعد المحدد    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    يعشقون الراحة والسرير ملاذهم المقدس.. 4 أبراج «بيحبوا النوم زيادة عن اللزوم»    لحماية الكلى من الإرهاق.. أهم المشروبات المنعشة للمرضى في الصيف    د.حماد عبدالله يكتب: إحترام "العدو" العاقل واجب!!    في حفل زفاف بقنا.. طلق ناري يصيب طالبة    مصرع شاب وإصابة 4 في تصادم سيارة وتروسيكل بالمنيا    التوأم يشترط وديات من العيار الثقيل لمنتخب مصر قبل مواجهتي إثيوبيا وبوركينا فاسو    ختام منافسات اليوم الأول بالبطولة الأفريقية للبوتشيا المؤهلة لكأس العالم 2026    المصري يواجه هلال مساكن فى ختام مبارياته الودية بمعسكر تونس    إغلاق جزئى لمزرعة سمكية مخالفة بقرية أم مشاق بالقصاصين فى الإسماعيلية    الوضع في الأراضي الفلسطينية وسوريا ولبنان محور مباحثات مسؤول روسي وأمين الأمم المتحدة    نشرة التوك شو| انخفاض سعر الصرف.. والغرف التجارية تكشف موعد مبادرة خفض الأسعار..    التنسيقية تعقد صالونًا نقاشيًا حول أغلبية التأثير بالفصل التشريعي الأول بالشيوخ    بعد 20 سنة غيبوبة.. والد الأمير النائم يكشف تفاصيل لأول مرة (فيديو)    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الخميس 31 يوليو 2025    حدث ليلًا| مصر تسقط أطنانا من المساعدات على غزة وتوضيح حكومي بشأن الآثار المنهوبة    القبض على 3 شباب بتهمة الاعتداء على آخر وهتك عرضه بالفيوم    «أمطار في عز الحر» : بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم: «توخوا الحذر»    مدير تعليم القاهرة تتفقد أعمال الإنشاء والصيانة بمدارس المقطم وتؤكد الالتزام بالجدول الزمني    هل يعاني الجفالي من إصابة مزمنة؟.. طبيب الزمالك السابق يجيب    "تلقى عرضين".. أحمد شوبير يكشف الموقف النهائي للاعب مع الفريق    وزير الرياضة يتفقد نادي السيارات والرحلات المصري بالعلمين    هل تتأثر مصر بزلزال روسيا العنيف، البحوث الفلكية تحسمها وتوجه رسالة إلى المواطنين    مونيكا حنا: علم المصريات نشأ فى سياق استعمارى    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    شادى سرور ل"ستوديو إكسترا": بدأت الإخراج بالصدفة فى "حقوق عين شمس"    ترامب: وزارة الخزانة ستُضيف 200 مليار دولار الشهر المقبل من عائدات الرسوم الجمركية    تنسيق المرحلة الأولى 2025.. لماذا يجب على الطلاب تسجيل 75 رغبة؟    عيار 21 يعود لسابق عهده.. أسعار الذهب تنخفض 720 للجنيه اليوم الخميس بالصاغة    حياة كريمة.. الكشف على 817 مواطنا بقافلة طبية بالتل الكبير بالإسماعيلية    أسباب عين السمكة وأعراضها وطرق التخلص منها    ما المقصود ببيع المال بالمال؟.. أمين الفتوى يُجيب    ما حكم الخمر إذا تحولت إلى خل؟.. أمين الفتوى يوضح    الورداني: الشائعة اختراع شيطاني وتعد من أمهات الكبائر التي تهدد استقرار الأوطان    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر: المهم التحصن لا معرفة من قام به    الشيخ خالد الجندي: الرسول الكريم ضرب أعظم الأمثلة في تبسيط الدين على الناس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. يوسف زيدان يكتب:الرؤية الصوفية للعالم .. القولُ الخامس: فى حقيقة الوحدة وَهَرَم الولاية

مع اختتام مقالتى السابقة (المنشورة الأربعاء الماضى) أشرتُ إلى أن الصوفية فى مقامات انجذابهم إلى عالم الحضرة الإلهية، وارتقائهم عن المحسوسات والأحكام الدنيوية لا يرون فى الكون نقصاً ولا قبحاً! ولا يشاهدون بعين القلب إلا الجمال الإلهى متجلِّياً فى كل شىء، مهما جَلَّ هذا الشىء أو دَقَّ.
والسِّرُّ فى هذه المشاهدة القلبية التى تأتى بالبصيرة، لا البصر، هو ذلك الإيمان الصوفى العميق بأن (الله) هو الجوهر الحقيقى للوجود، وما عداه من (الأغيار) ومما سواه، وَهْمٌ وتخييلٌ ومظاهرُ زائلة لا تقوم بذاتها، ويتوقف وجودها على شرط كونها تجليات إلهية، وفقاً لثالوث الذات الإلهية «الجمال، الكمال، الجلال» الذى يعبِّر بمجموعه الكلى عن هذه (الذات) من دون أن يقدح فى وحدتها، وفى الإيمان بوحدانية الله على الرغم من تعدُّد صفاته وأسمائه وأسمائه الصفاتية.
ومن دقائق الحقائق الصوفية، فكرتان تميز بهما صوفية المسلمين، وهما: الوحدة، الولاية.. وهما فى واقع أمرهما، مفهومان روحيان لا يمكن- بعيداً عنهما- فَهْم الرؤية الصوفية للكون، كما لا يمكن دونهما الاقتراب من آفاق النزعة الإنسانية البديعة فى التصوف الإسلامى. وهى النزعة التى عاد العالم المعاصر (المتقدم) للنظر فيها، فى العقود الأخيرة، أملا فى استكشاف الرؤى العميقة التى قدَّمها كبار الصوفية المسلمين، من أمثال جلال الدين الرومى، ومحيى الدين بن عربى، وعبدالكريم الجيلى، وشهاب الدين السهروردى (المقتول) والصوفى العارم المهول، محمد بن عبد الحق بن سبعين.
ولسوف نعرض فيما يلى، لهذين الأمرين المهمَّين: الوحدة الإلهية الجامعة بين مفردات الكون ومتفرقاته، وهَرَمية الولاية الروحية المتصاعدة تدريجياً من القاعدة (عموم المؤمنين) إلى القمة (القطب) مروراً بعدة مراتب وطبقات للأولياء..
 وبالطبع، فسوف نسعى فى مقالتنا هذه إلى استعراض هاتين النظريتين، على قاعدة الإيجاز وبسط المسائل بما يناسب السياق، من دون إغراق فى المقارنات، ومن دون توغُّل فى دهاليز ومفاوز المصطلحات الصوفية والرموز التى يصعب إدراك مدلولاتها على القارئ غير المتخصص. ومَنْ أراد المزيد، فعليه الرجوع إلى العَرْض الأوفى لهاتين النظريتين، فى كتابى (الفكر الصوفى) الذى صدرت طبعته الأولى مع مطلع التسعينيات.
ورُبَّ متسائلٍ قد يقول معترضاً: وما الداعى أصلاً لعرض هذه الرؤى والنظريات؟ وما أهمية الكلام عن «الوحدة» أو «هرم الولاية»؟ وهل من المفيد لنا اليوم أن نعرف مثل تلك النظريات الصوفية؟.. ولهذا القائل السائل المعترض (المفترض) نقول: أما الداعى للتعرُّض لذلك، وعَرْضه، فهو تَعرُّف موروثنا الفكرى والروحى الذى انطمر مؤخراً، فى غمرة انهماكنا فى تفاصيل الواقع المعيش، وهذا (الواقع) لا يمكن فَهْمه على نحوٍ جيدٍ، بعيداً عن ذلك الموروث!
 فالحاضر المعيش لم يطفر فجأة، وإنما هو نتاجُ موروثات تطوَّرت ببطءٍ، وشكَّلت مفاهيم كثيرة فى واقعنا، كثيراً ما تغيب عنا أصولها. وبعيداً عن (الأصول) لا يمكن فهم (الفروع)، وفى غيبة الوعى بالماضى لا يمكن إدراك الحاضر والرنوّ إلى المستقبل.. والنظرياتُ الصوفيةُ تهمُّنا اليوم، لأنها التراث البلسمى الذى يسهم فى علاج الهوس الدينى، الذى يؤجِّج هجيره المتعصبون الدينيون، المتأسلمون منهم والمتأقبطون، والمستهودون المعاصرون الآملون فى تحقيق الوعد التوراتى، الذى لن يتحقَّق أبداً.
وهناك دواعٍ كثيرة تحدو بنا نحو الآفاق الروحية الرحيبة للتصوف، منها التخفُّف من غلواء النزعة المادية المعاصرة، ومنها الانفلات من المظهرية الدينية، التى تطمر جوهر الدين بأنماط التدين.. وغير ذلك من الدواعى التى يطول شرحها، ويضيق عن ذكرها المقام، فدعونا نلوِ عنان الكلام إلى الأمرين اللذين تدور حولهما هذه المقالة.
                                    ■ ■ ■
ما المقصود بالوحدة الإلهية؟ وما معنى «التوحيد» عند الصوفية؟.. لابد أولاً من الإشارة إلى أن بعض فلاسفة اليونان كانوا يقرِّرون أن الصلة معدومة بين الله والعالم ! لأن كليهما قديمٌ، ولا أثر بينهما متبادلاً.. وقد انتقل هذا الاعتقاد إلى بعض الإسلاميين، فذهب العلامة الطبيب (أبوبكر الرازى) إلى القول بالقدماء الخمسة «الله، المادة، المكان، الزمان، النفس»..
وقد أشرتُ إلى هذه النظرية يوماً إشارةً هامشية فى واحدٍ من كتبى، فثارت ثورة لم تهدأ إلى اليوم مع أن «الرازى» له رسالة عنوانها: القول فى القدماء الخمسة! وهى منشورة فى القاهرة سنة 1934 (نشرها المستشرق باول كراوس) وقد كتب أبوحاتم الرازى رسالة فى الرد على أبى بكر الرازى، فى قوله بالقدماء الخمسة.. ولذلك ترانى أردِّد فى نفسى دوماً، الحديث الشريف: «رَبِّ اغفرْ لقومى فإنهم لا يعلمون».
المهم، أن القول بقدم العالم، يعنى انعدام العناية الإلهية بالكون! بل يقطع الصلة بين الله والعالم. وقد قرَّر فلاسفةٌ آخرون، منهم أفلاطون، أن الله هو (الصانع) وبالتالى فهو يعتنى بالعالم. بينما قرَّر أرسطو أن الله يؤثِّر فى العالم من دون أن يتأثَّر به! فهو المحرِّك الذى لا يتحرَّك.. أما فلاسفة الإسكندرية، وعلى رأسهم أمونيوس ساكاس وتلميذه الأشهر (أفلوطين) فقد قالوا بنظرية الفيض، التى تقرِّر أن الوجود فيوضات متتالية الصدور عن الواحد (الله).
وفى عموم العقائد المسيحية، فإن الله قد يحلُّ فى خَلْقه، مثلما هو الحال فى حلول الله فى المسيح.. وفى عموم الاعتقادات الإسلامية، فإن الله مفارقٌ تماماً للخَلْق، ولا تماس بينهما ولا حلول ولا اتحاد..، ولذلك قُتل الحلاج فى بغداد سنة 309 هجرية، لأنه قال عبارات فَهِمَ منها معاصروه أنه يعتقد بإمكان حلول الله فى البشر، أو اتحاده بهم (أو هو على الأرجح قد قُتل لأسبابٍ سياسية، بذريعة وحجة شرعية).
أما «الوحدة» أى الاعتقاد بأن الله والكون شىءٌ واحدٌ، فهى فكرة تعود فى أصلها إلى الديانات الهندية القديمة، وقد أشير إليها بوضوح فى كتب الهندوس المقدسة المسماة (الفيدا) وفى شروحها المسماة (اليوبانيشاد).. كما ظهر «مذهب وحدة الوجود» عند عديد من الفلاسفة والمفكرين، القدماء والمحدثين، منهم زينون وديدرو، والفيلسوف البديع: إسبينوزا.
وعند الصوفية المسلمين، الوحدةُ هى الفكرة التى تعبِّر عنها عبارة عبدالكريم الجيلى (ما ثَمَّ إلا الله) وعبارة ابن سبعين الأندلسى (الله فقط) وعبارة محيى الدين بن عربى (ما فى الوجود إلا الله).. وكلها عبارات دالة على أن «ما سوى الله» وَهْمٌ وخيالٌ، وأنه تعالى هو المتجلِّى فى كل شىء، وهو حقيقةُ كل شىء.. ولذلك، لا يعرف الصوفية (التكفير) لأنهم أدركوا معنى الآية القرآنية (وإن من شىء، إلا يسبح بحمده) ومن هنا قال ابن عربى بيته الشعرى الشهير: عَقَدَ الخلائقُ فى الإله عقائدا/ وأنا اعتقدتُ جميعَ ما عقدوه .
وقد اشترط الصوفية لإدراك هذه (الحقيقة الوجودية) أن يكون ذلك عن (شهود)، وليس نتيجة نَظَرٍ عقلىٍّ، أو ترتيب فلسفى. فالصوفى يعرف «الوحدة» حين يترقى عن أحكام الحسِّ! وهو ما أكَّده الصوفى الشهير عبدالغنى النابلسى، حين قال شعراً: لا تَقُلْ وحدةُ الوجود إذا لَمْ/ تَفْنَ عن كُلِّ كائنٍ موجود.
                                    ■ ■ ■
أما (القطب) أو (الإنسان الكامل) أو (المحقِّق) أو (الحكيم المتألِّه) فهذه كلها مسميات لقمة هرم الولاية، وهى صفةٌ صوفيةٌ لمقامٍ روحىٍّ هو الأعلى فى السلم التصاعدى لمراتب الأولياء.. لكن هذا الكلام غير دقيق! فالولاية فى المفهوم الصوفى، إنما تشمل جميع المؤمنين، ثم تتصاعد تدريجياً إلى مرتبة الأولياء (الأبدال) والأولياء (النقباء) والأولياء (الأقطاب) وفوق هؤلاء جميعاً، من حيث المنزلة الروحية، قطبُ الأقطاب. وهو المسمى عند ابن سبعين (المحقِّق) وعند السهروردى (الحكيم المتألِّه) وعند ابن عربى والجيلى (الإنسان الكامل)، وعند غالبية الصوفية (القطب)..
وعلى الرغم من اختلاف التسميات الصوفية لهذا المقام، فإن المقصود منه جميعاً، هو الإشارةُ إلى المقام الأعلى الذى يصير فيه الولى كاملاً فى ولايته، بحسب (ولاية الظاهر) فقط.. ولكن، تعلوه على الحقيقة، مقامات غير مسماة، ولا يتحدث عنها الصوفية، هى مقامات الأفراد الخارجين عن نظر القطب! الذين منهم صاحب موسى عليه السلام، الذى يسميه العامة (الخضر)، وهو الذى حكى القرآن الكريم، فى سورة الكهف، قصته مع موسى.. وهى قصة مليئة بالعجائب، وبالغرائب المبهرة، التى أتى بها شخصٌ لا يُسمى فى القرآن (الخِضْر)، وإنما أُشير إليه بصفة (العبد الصالح)، الذى آتاه الله رحمة من عنده تعالى، وعلَّمه العلم الإلهى.
ما معنى «الكمال» عند الصوفية، وكيف يكون الإنسان كاملاً بالمعنى الصوفى؟.. برز الإسهام (المصرى) فى الفكر الصوفى منذ وقت مبكر، مع متصوفٍ بديع وَفَدَ إلى بغداد من مصر، هو (ذو النون المصرى)، الذى لم ينتبه كثيرون من دارسى التصوف إلى خطورة موقعه فى تاريخ التصوف. ليس فقط لأنه كان نموذجاً للولاية الروحية، أو لهجرة (الدنيا) للالتحاق بالحضرة الإلهية (العليا) وإنما لأنه- بالإضافة إلى ذلك- كان حسبما ذَكَرَ مؤرِّخو التصوف: أول من تحدَّث فى الأحوال والمقامات.
الأحوال، عند الصوفية، هى التغيُّرات التى تطرأ على الصوفى المبتدئ والمقامات، عندهم، هى المراتب الروحية التى يستقر فيها قلب الصوفى، وقتاً مخصوصاً. ويقول الصوفية، إن الأمر الواحد قد يكون حالاً أو مقاماً، باختلاف الدرجة الروحية لصاحبه.
فالرضا أو المحبة أو الجذب أو الفناء فى الله، تكون بالنسبة للمريد المبتدئ أحوالاً، وبالنسبة للأولياء مقامات! فالحال لا يدوم لأنه يحول، والمقام ثابتٌ لأنه يُقيم.. ومن هنا قال الصوفيةُ: حسناتُ الأبرار سيئاتُ المقربين (وهو قولٌ دقيقٌ يطولُ شرحُ خفاياه).
هناك، إذن، مبتدئون ومتقدمون فى الطريق الروحى. وهؤلاء (المتقدِّمون) هم الذين يسميهم الناس بطريق الخطأ (الواصلين) مع أن طريق التصوف لا آخر له، حتى يصل إليه ولىٌّ من الأولياء.. لكن المتعارف عليه بين الصوفية، أن الأولياء يتفاوتون فى الكمال، وفى جلاء مرايا بواطنهم التى تنعكس عليها تجلياتُ الذات الإلهية، الجمالية والكمالية والجلالية.
 وبقدر قبول الصوفى لهذه التجليات، تظهر على مرآة باطنه وعلى ظاهر شخصيته، الآياتُ والعلاماتُ الدالة على علوِّ مقامه بين الأولياء. علماً بأن «الذات الإلهية» بحسب الرؤية الصوفية، لا سبيل إلى إدراكها من حيث مقدرة العبد،
 كما أنه لا سبيل إلى معرفة ذات الله عن طريق الاستدلال عليه بالأسماء والصفات (التى من شأنها الكمال، ومن شأن الكمال الإلهى عدم الانتهاء) وتلك القضية، من مسلمات التصوف فقد فرَّق الغزالى بين المعرفة عن طريق الاستدلال والمعرفة الربانية، ثم ظهرت المسألة أكثر وضوحاً عند ابن الفارض وابن عربى والسهروردى الإشراقى، فقد ازدرى ابن الفارض- أبوالقاسم عمر بن الفارض، المتوفى 632 هجرية- طريق الاستدلال على الذات، ومحاولة إدراكها عن طريق الأسماء والصفات، هو جاهل بالحقيقة، أو هو أشبه بالنائم الذى يرى الخيال فيحسبه حقيقة، كما يُحسب السَّرَابُ ماءً.. وفى هذا المعنى يقول فى تائيته الكبرى:
وَمَدْحُ صِفاتِى بى يوُفِّقُ مادِحِى
لِحَمْدِى وَمَدْحِى بِالصِّفَاتِ مَذَمَّتِى
وَبَى ذِكْرُ أَسْمَائِى تَيقُّظُ رُؤْيَةٍ
وَذِكْرِى بها رُؤْيَا تَوَسُّنِ هَجْعَةِ
كذلك يقرر ابن عربى أن المعرفة، التى تأتى عن طريق الأدلة والأسماء والصفات تمنع من المعرفة الحقة. يقول:
لَوْ عَلِمْتَهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ
وَلَوْ جَهَلَكْ لَمْ تَكُنْ أَنْتَ
فَبِعِلْمهِ أَوْجدَكَ
فهُوَ، هُوَ، لِهُوَ.. لاَ لَكَ
كما يفرق الإشراقيون بين علوم ذوقية كشفية وعلوم بحثية نظرية، وعلى الرغم من أن هذين هما قسما العلوم الحقيقية، إلا أن الأُولى هى السبيل الحق إلى طريق الإشراق. فالإشراقيون، كما يقول السهروردى: لا ينتظم أمرهم دون سوانح نورانية. وهكذا اتفق صوفية الحقبة الممتدة بين القرنين السادس والتاسع الهجريين، على الرغم من تعدُّد أشخاصهم، وبعد الشقة، والفارق الزمنى، بينهم.
وفى كتابه (الإنسان الكامل فى معرفة الأواخر والأوائل) وفى أعماله الأخرى، يقول عبدالكريم الجيلى ما ملخصه أن الإنسان الكامل هو الكون الجامع وهو نسخة الحق.. وهو الذى يقابل حقائق الوجود كلها، لأنه مرآة «الوحدة» والروح الجامعة للمظاهر الخَلْقية والحقائق الإلهية. وهو بالأصالة، النبى محمد صلى الله عليه وسلم، والباقون من الأنبياء والأولياء ملحقون به لحوق الكامل بالأكمل.
وفى هذا القَدْرِ كفاية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.