محافظ أسيوط: فيضان النيل تحت السيطرة.. ولا خطر على السكان    الوثائقية: اللواء عبد المنعم الوكيل نفذ عملية عبور ناجحة واستولى على خط بارليف    إرث أكتوبر العظيم    محمد كامل يُعلن أول قراراته: الحشد والتثقيف استعدادًا للإنتخابات    المحاسب الضريبى أشرف عبد الغنى: الإرادة السياسية للرئيس السيسى سر نجاح التيسيرات الضريبية    سعر الذهب في مصر.. عيار 21 يقفز والجرام يقترب من 5300 جنيه    لمدة 6 ساعات.. قطع المياه عن هذه المناطق بالجيزة خلال ساعات    استشهاد 13 فلسطينيًا في قصف جوي إسرائيلي على وسط غزة    القاهرة الإخبارية: ترحيب إسرائيلي مرتقب بتهديدات ترامب ضد حماس    وكيل جهاز المخابرات السابق: ما يثار أن مصر كانت تعلم بعملية طوفان الأقصى مجرد افتراء    قائد الجيش اللبناني يزور مقر اليونيفيل ويعقد لقاء موسعا لتعزيز التعاون وتنفيذ القرار 1701    الاتحاد الأوروبي يطلق قواعد موحدة للشركات الناشئة في 2026 لتعزيز النمو    الاتحاد السكندري يقتنص فوزًا ثمينًا من المقاولون العرب    ضبط عنصرين جنائيين لقيامهما بالنصب على عملاء البنوك    منة شلبي تغيب عن مؤتمر "هيبتا.. المناظرة الأخيرة" لأسباب عائلية    وزير الخارجية يثمن مساندة هايتي للدكتور خالد العناني في انتخابات منصب مدير عام اليونسكو    تعرف على فعاليات اليوم الثالث من مهرجان القاهرة الدولي للمونودراما الثامن    إيقاف عرض عدد من المسلسلات التركية.. والعبقري" من بينها    داء كرون واضطرابات النوم، كيفية التغلب على الأرق المصاحب للمرض    تعرف علي موعد إضافة المواليد علي بطاقة التموين في المنيا    «حاجة تليق بالطموحات».. الأهلي يكشف آخر مستجدات المدرب الجديد    وزير الرياضة يحضر تتويج مونديال اليد.. ويهنئ اللاعبين المصريين على أدائهم المميز    محمد صلاح يلتقط صورة تذكارية مع الكرة الرسمية لكأس العالم 2026    البلشي وعبدالرحيم يدعوان لعقد اجتماع مجلس نقابة الصحفيين داخل مقر جريدة الوفد    غلق وتشميع 20 مقهى ومحل ورفع 650 حالة إشغال في الإسكندرية    افتتاح مسجد فانا في مطاي وإقامة 97 مقرأة للجمهور بالمنيا    «طب قصر العيني» تحتفل باستقبال أول دفعة للطلاب بالبرنامج الفرنسي «Kasr Al Ainy French – KAF»    «السكان» تشارك فى الاحتفال بيوم «عيش الكشافة» بمدينة العريش    87 مليون جنيه لمشروعات الخطة الاستثمارية الجديدة بتلا والشهداء في المنوفية    صور الشهداء والمحاربين القدماء بعربات مترو الأنفاق والقطار الكهربائي بمناسبة احتفالات حرب أكتوبر    حكم قراءة سورة الكهف يوم الجمعة... تعرف عليها    هل يجب الترتيب بين الصلوات الفائتة؟.. أمين الفتوى يجيب    «لرفع العقوبات».. حاخام يهودي يعلن رغبته في الترشح ل مجلس الشعب السوري    القهوة بالحليب.. هل هي خيار صحي لروتينك الصباحي؟ (دراسة توضح)    استشاري مناعة: أجهزة الجيم ملوثة أكثر من الحمامات ب74 مرة (فيديو)    نتائج الجولة الخامسة من الدوري الممتاز لكرة القدم النسائية    الإسماعيلي يواصل التعثر بهزيمة جديدة أمام سموحة    أموريم: مانشستر يعيش ضغوطات كبيرة    مبابى لاعب سبتمبر فى ريال مدريد متفوقا على فينيسيوس جونيور    محاكمة سارة خلفية وميدو وكروان مشاكل.. أبرز محاكمات الأسبوع المقبل    تعرف على أنشطة رئيس مجلس الوزراء فى أسبوع    مواقيت الصلاه في المنيا اليوم الجمعه 3 أكتوبر 2025 اعرفها بدقه    الحلو وثروت وهانى شاكر يحيون حفل ذكرى انتصارات أكتوبر بالأوبرا    سبب غياب منة شلبي عن مؤتمر فيلم «هيبتا: المناظرة الأخيرة»    سنوات مع صلاح منتصر..حكايات ملهمة لتجربة صحفية فريدة    الزهايمر.. 5 عادات يومية بسيطة تحمي الدماغ من المرض الخطير    تعرف على آداب وسنن يوم الجمعة    5 قرارات أصدرتها النيابة فى اتهام شاب ل4 أشخاص بسرقة كليته بالبدرشين    اسعار الحديد فى أسيوط اليوم الجمعة 3102025    البابا تواضروس يلتقي كهنة إيبارشيات أسيوط    عاجل- سكك حديد مصر تُسيّر الرحلة ال22 لقطارات العودة الطوعية لنقل الأشقاء السودانيين إلى وطنهم    "يونيسف": الحديث عن منطقة آمنة فى جنوب غزة "مهزلة"    تحريات لكشف ملابسات تورط 3 أشخاص فى سرقة فرع شركة بكرداسة    ضبط 295 قضية مخدرات و75 قطعة سلاح ناري خلال 24 ساعة    المصري يواجه البنك الأهلي اليوم في الجولة العاشرة من دوري نايل    تكريم 700 حافظ لكتاب الله من بينهم 24 خاتم قاموا بتسميعه فى 12 ساعة بقرية شطورة    استشاري تغذية علاجية: الأضرار المحتملة من اللبن تنحصر في حالتين فقط    بالصور.. مصرع طفلة وإصابة سيدتين في انهيار سقف منزل بالإسكندرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. يوسف زيدان يكتب: الرؤية الصوفية للعالم (3-7) .. القولُ الثالثُ: فى حقيقة العبادات

لا يختلف اثنان فى أن أخلاقيات الناس فى مصر تتهاوى، وقد تنهار تماماً، مثلما تنهار العماراتُ الكبيرة فجأة، فلا يكون سقوطها إلا مروِّعاً-.. أتذكرُ هنا عبارة الفيلسوف الألمانى الشهير، كانط، حيث يقول: الدينُ والأخلاقُ بناياتٌ ضخمةٌ فى المجتمع الإنسانى، عسيرٌ رفعها إذا هَوَت، وسقوطها لا يكون إلا مروِّعاً.
هل يشكُّ أحدٌ فى التدهور السلوكى الذى عَمَّ بلادنا، وطَمَّ، وجَلَب الهمَّ؟ إذن، على هذا الشاكِّ، كى يتأكد من حجم الكارثة الاجتماعية فى مصر، أن يمرَّ فى شوارعنا ساعةً واحدةً ليرى ما صرنا نسميه «قلة الذوق» وما نسميه «التناحة والبجاحة» وما نسميه «الصياعة» وهو عينُ ما أسميه بالعربية الفصيحة: انعدام الآداب، وانهيار السلوكيات العامة، والوضاعة.. لكنها على أىِّ حالٍ بلادنا، وليس لنا بديل عنها! فلابد لنا من حَلٍّ.
ما الحلُّ؟ نسألُ فى ذلك فقيهاً ضليعاً فى أمور الشريعة، أو قسَّاً لطيفاً يدعو الناس لملكوت السماء – ونحن أكثر شعوب العالم، حسبما قيل، تديُّناً - فيقولان من فورهما ومن دون تفكير، إنهما يبذلان كُلَّ ما يستطيعان! فها هى القنوات الفضائية تنهمر على الناس بمواعظ الدعاة ودروس المحبة، وها هى المساجدُ عامرةٌ فى أيام الجُمَع مثلما تعمر الكنائسُ أيام الآحاد، وها هم أئمة المتأسلمين وأقطاب المتأقبطين يتنازعون فيما بينهم سراً وجهراً، لإعلاء النهج الإلهى القويم وشرع الله المستقيم، ولإثبات أن رجال الدين هم حقاً قادة الرأى فى المجتمع الإنسانى السليم.. لكن السلوكيات العامة، تظلُّ تزداد تدهوراً كل يوم، على الرغم مما يفعله هؤلاء الناطقون باسم الله أو بلسان المسيح، وأولئك الموقِّعون عن رب العالمين.
ما الحلُّ؟ نسألُ السياسىَّ والفيلسوف، فيزعق الأولُ منهما قائلاً إنه يرفع لواء «الإصلاح» ويتغنَّى بمفرداته منذ سنوات، من دون جدوى. وما باليد من بعد ذلك، أىُّ حيلة! والفيلسوف لن يجيب إلا بعدما يتفكَّر طويلاً، وقد يتفكَّر ثم لا يجيب، وإذا أجاب فى نهاية الأمر، فسوف تكون إجابته بائسةً يائسةً: ما المقصودُ بالسؤال، وما الحلُّ فى ماذا؟ إن تحديد المشكلة هو أولى خطوات فهمها الضرورى لحلها، وقد صار المجتمعُ المصرىُّ من زاوية النظر الفلسفية، مهووساً.
ولا مجال للتفلسف فى غمرة هذا الهوس المعاصر، ومع طغيان السطحية، والمظهرية، والبهلوانية المسماة باللسان المصرى المعاصر «الفهلوة».. وسوف يضيف الفيلسوف - قبل أن يعود إلى تأملاته التى لا تنتهى - أن الواقع المعاصر المضطرب، يحول اضطرابه دون إعمال المنطق والتوسُّل بالتفلسف!. ولسوف يزداد الحالُ من بعد ذلك سوءَ مآلٍ وتدهوراً، على الرغم مما يصخب به السياسىُّ ويتعلَّل الفيلسوف.
ما الحلُّ؟.. نسأل الصوفى، فيقول إن الحلَّ فى العبادة الحقَّة. ولكنْ لهذا الأمر تبيان لابد منه وبيان لا غنى عنه، لاستكشاف حقيقة العبادات عند الصوفية، والتعرُّفِ إلى آفاقها الرحبة.
                                    ■ ■ ■
لابد لنا قبل استعراض الرؤية الصوفية للعبادات، ولفروض الشريعة، أن نورد إشاراتٍ تمهيديةً لهذه المسألة الدقيقة، فمن ذلك، أن الأمثلة التى سنذكرها فيما يلى، مستقاةٌ من قواعد الإسلام الخمس (الشرعية) ولكنها تقبل الانطباق والتعميم على أى عبادةٍ كانت.. ومن ذلك، أن الصوفى مهما بلغ مقامه وعمقت فلسفته، يظل حريصاً على إقامة جدار الشريعة وفروضها، فلا يقول بسقوط الأحكام والتكاليف الشرعية وإلا أسقطه قوله من إطار التصوف. ولذلك يقول الصوفية: لا حقيقة بلا شريعة.
ومن الإشارات التمهيدية، المهمة، أن الرؤية الصوفية لحقيقة العبادات لم تظهر فجأة عند صوفى بعينه، وإنما تطوَّرت هذه الرؤية، حتى بلغت صورتها الأخيرة عند الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى (المتوفى 638 هجرية) ومعاصره الشاعر الصوفى الشهير عمر بن الفارض (المتوفى632 هجرية) والمتصوف العارم، عبد الكريم الجيلى (المتوفى 928 هجرية).
 ولذلك، تُروى أقوال وحكايات عن الصوفية المبكرين، تدل على إدراكهم لحقيقةٍ دقيقةٍ مفادها أن العبادة لا تتوقف على ظاهر الأداء، وإنما على عمق الأثر الذى تحدثه هذه الفريضة الدينية أو تلك. ومن هنا، يحكى أن شيخاً صوفياً اقتضى علاجه من عطبٍ بساقه (غرغرينا) أن تقطع هذه الساق المعطوبة، وكانوا يخشون عليه من صدمة الألم، فطلب من معالجيه قَطْع ساقه أثناء صلاته، لأنه يكون آنذاك فى استغراقٍ كاملٍ، وغيبةٍ تامة عن الحسِّ.. فنجح الأمر.
والإشارة الأخيرة هنا، هى أن حقيقة (باطن) العبادة أو الفريضة، لا يمكن أن تنوب عن ظاهرها، بمعنى أن حقائق العبادات التى سنعرض لها فيما يلى، فى واقع كلام رجال التصوف، هى قيمةٌ مضافة للأصل، بحيث لا يمكن القول بأن المعنى الصوفى لهذه الشعيرة الشرعية أو تلك، بديلٌ عن المفهوم الفقهى لها، فالباطن (التصوف) والظاهر (الفقه) يتكاملان، ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر.. فتدبَّر!
                                    ■ ■ ■
وكما هو معروف، فإن الصلاة فى الإسلام هى الركن الأول من أركان العبادة، وهى الفرض الذى إن أقامه العبد فقد أقام الدين. ويعرف العامة والخاصة أن الصلاة لابد أن يتقدمها تطهر بالوضوء، ثم تكون بعده الصلوات الخمس بنوافلها المستفادة من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام.
وللصوفية – خاصةً ابن عربى والجيلى- رؤية خاصة للصلاة، عمادها الذوق وقوامها التحقيق. فالصوفى عندهما إن نوى أداء فرض الصلاة، فالنية هى الإقرار بوحدانية الواحد عزَّ وجلَّ. وإقامة الصلاة، إشارة ذوقية إلى «إقامة ناموس الواحدية» وإلى خضوع المخلوق لعزة الخالق.. يقول الجيلى، شعراً: أصَلِىِّ إذَا صَلَّى الأنَامُ وإنَّما / صَلاَتى بَأنِّى لاِعتِزازِك خَاضِعُ.
فإذا شرع الصوفى فى التطهر بالوضوء، انتبه إلى أن الوضوء هو تطهير للقلب من النقائص الكونية والآفات الدنيوية. وكون التطهر بالماء، هو إشارةٌ إلى أن هذه النقائص لا تزول إلا بأن يحيا الإنسان حياة جديدة.. والماء هو (سر الحياة) الذى خلق الله منه كُلَّ شىءٍ حىٍّ!
واستقبالُ القبلة، حين يصلِّى الصوفى، هو إشارة إلى توجيه همته إلى الحق تعالى، ونيَّة الصلاة، تشير إلى انعقاد قلب المصلِّى على هذه المهمة وهذا التوجُّه. ثم يقول المصلِّى (الله أكبر) فتكون تكبيرة الإحرام هذه، إشارة إلى أن الجناب الإلهى أكبر من كل ما سواه، بل هو لا يُقرن بغيره. ويكون هذا إيذاناً بموت الشرك الذى يخيل فيه للإنسان، أن خيره وشره فى قدرة أحد المخلوقات، فالصوفى المتذوق يدرك عند تكبيرة الإحرام أن الله واسع محيط، وأنه تعالى أكبر من كل خلقه.. وفى هذا قمة الاستغراق فى عظمة الخالق.
ثم تأتى قراءة الفاتحة لتشير إلى الإنسان بأنه (فاتحة) الوجود كله، ومظهر لبداية تجلِّى العلم الإلهى، الذى علَّمه الله لآدم عليه السلام، ورفع به قَدْره فوق قَدْر الملائكة، ولهذا أمر الله تعالى ملائكته بالسجود لآدم، فسجدوا، لأنه كان فاتحة الأسرار الربانية المودعة فى النشأة الإنسانية. ثم يكون ركوع المصلِّى، إشارة إلى انقطاع نظره عن كل الموجودات الكونية، التى تكون آنذاك قد انعدمت تحت سلطان التجلِّى الإلهى فى الكون.. فالإنسان إذا ما انشغل بالله، واستغرق فى تأمل مظاهر جماله وجلاله وكماله، لا يقدر آنذاك على الالتفات لشىء من هذه الموجودات الكونية، إذ يكون انشغاله بربِّه قد ملك عليه قلبه، بحيث لا يُبقى مكاناً للأغيار.
والقيام إشارة إلى وصول العبد إلى مقام (البقاء) وهو مقام صوفى رفيع، يبقى فيه العبد مع الله بكل شعوره ويرتفع عن المحسوسات بكل مشاعره، فيكون فى هذا الوقت بالله ولله ومع الله، ولهذا يقول فى قيامه «سمع الله لمن حمده» وكأنه يخبر عن حال الله بنفسه كما لو كان خليفته فى الأرض.. وبعدها يسجد العبد لخالقه، وما سجوده إلا إقراره بالفناء عن الدنيا، استعداداً للبقاء مع الله.
ويختتم المصلِّى صلاته بالتحيّات، وهى عند المتذوق إشارة إلى الكمال الإلهى الذى أودعه الله فى نبيه عليه الصلاة والسلام، فهى ثناءٌ على النبى وثناءٌ على عباد الله الصالحين الذين لا تكتب لهم (الولاية) إلا باتباع النبى والتأدب بأدبه.. وهذا المعنى الذوقى للصلاة مضافٌ إلى شكلها الظاهر. فالأمر هنا أمر شعور وتذوق، وليس أمر تعديل وتشريع.. فمن أقام الصلاة على معناها الظاهر فهو مسلم، ومن أقامها بشكلها الظاهر متذوقاً لمعناها العميق، فهذا هو الصوفى المسلم.
                                    ■ ■ ■
ثم يكشف التصوف عن حقائق (الزكاة) ولطائفها الروحية.. وفى ذلك، يُحكى فى كتب الصوفية أن رجلاً كان ينهى عن مجالسة الصوفى المسلم أبى بكر الشِّبلى (صديق الحلاج، المتوفى 334 هجرية) أو الاستماع إلى كلامه. فقد كان هذا الرجل يظن فى «الشِّبلى» الجهل وقلة التبصر، رغم مقامه بين الصوفية.. جاء الرجل يوماً، وسأل الشبلى بقصد إحراجه قائلاً: كم يجب فى زكاة خمسٍ من الإبل؟
فقال الشبلى من فوره: شاة فى واجب الأمر، ويلزمنا نحن، كلها !. ويبدو أن هذا الرد الذوقى الذى قاله الشبلى، لم يعجب السائل، فاستنكر عليه قائلاً: ألك إمام أخذت منه هذا؟ قال الشبلى: نعم، أبو بكر الصديق رضى الله عنه، حيث خرج عن ماله كله، فقال له النبى: ما خلفت لعيالك؟ فقال: الله ورسوله.
فإذا عرَّجنا نحو أذواق ابن عربى وعبد الكريم الجيلى فى الزكاة، وجدنا الجيلى يبدأ بيان الأمر بقوله إن الزكاة «هى التزكى بإيثار الحق على الخلق» فالجيلى يشعر أن القيام بفرض الزكاة، هو فى حقيقته (تزكى) يؤثر فيه الإنسان أمر الحق تعالى، على حُبِّ المال وغيره من الموجودات..
وهذا يوضح المعنى الذى طالما أشار إليه الصوفية، وهو حرص المتصوف على لفظ الدنيا من قلبه، حتى وإن كان بيده منها بعض حطامها فهو يخرجها من قلبه، ليحلَّ مكانها حُبٌ صادقٌ لله عزَّ وجلَّ، وفوق هذا المقام مقامٌ أعلى، تكون فيه الزكاة إشارة إلى التزكى بشهود الحق تعالى على الخلق، بمعنى أن يؤثر العبد شهود ربه على شهود سواه. وكون الزكاة واحداً فى كل أربعين مما يملكه الإنسان، فذلك حسبما يقول الجيلى، لأن الوجود له أربعون مرتبة؛ وهى المراتب التى ذكرها الجيلى فى كتابه (الكهف والرقيم) وفى كتابه (مراتب الوجود).
                                    ■ ■ ■
والصوم فى الإسلام هو الامتناع عن الطعام والشراب والنكاح طيلة النهار فى شهر رمضان. وذلك ما يفعله المسلم عموماً، لكن المسلم الصوفى يتذوق معنى الصوم، فيرى فيه امتناعاً عن استعمال المقتضيات البشرية، للاتصاف بصفات الربوبية. فالحديث النبوى الذى يعتمد عليه الصوفية يقول: «إن لله مائة خُلُقٍ وسبعة عشر خُلقاً، من أتاه بخلق منها دخل الجنة».. والتخلُّق بأخلاق الله تعالى هو الاتصاف بذلك، بحيث يكفُّ العبد عن استعمال المقتضيات البشرية، فتظهر حين ذاك الصفات الإلهية، فيتبدل البخل الذى هو صفة بشرية، إلى الكرم الذى هو صفة إلهية. ويصير الطيش حلماً، والقسوة رحمةً، والأنانية عطاءً. وعلى هذا النحو، تذهب الأخلاق السيئة، وتأتى الأخلاق الكريمة. حسبما رُوى عن الصوفى المسلم، أبى القاسم الجُنيد (شيخ الطائفة) عندما سُئل عن المعرفة والعارف، قال: لون الماء، لون إنائه.
ويقول عبد الكريم الجيلى إن الحكمة فى أن الصوم هو شهر واحد فى السنة، أن الإنسان مقدر عليه أن يعود لمقتضيات البشرية ما دام هو فى الحياة الدنيا، فهو لا يتخلص من هذه المقتضيات إلا بالموت؛ ولذلك فقد جعل الحق تعالى مدة الصوم شهراً حتى يكون ذلك إشارة إلى رجوع الإنسان إلى طبيعته البشرية التى هى مجال الجهاد.. جهاد النفس.. وهو الجهادُ الأجهدُ، الأكثرُ مشقة، الأطولُ مدة. بل هو ممتد بامتداد حياة الإنسان.
                                    ■ ■ ■
وللصوفية نظرة ذوقية عميقة لمناسك (الحج) الذى افترضه الله على من استطاع إليه سبيلا.
وفى الحج يبدأ المسلم بالإحرام، فيرى الصوفى المسلم فيه إحراماً عن شهود المخلوقات، لتعلق قلبه بالخالق. ثم (ترك المخيط) إشارة إلى تجرده عن صفاته المذمومة بالصفات المحمودة، وذلك يعرف عند الصوفية «بالتخلية والتحلية» وهو تخلِّى النفس عن الصفات الرديئة حتى تكون فى حال الصفاء، فتقبل النفسُ آنذاك الصفات المحمودة وتتحلَّى بها.
 وفى رحلة الحج الذوقية يكون (ترك حَلْق الرأس) هو ترك التعلق بالرياسة الدنيوية وسُلطة المتسلِّط، ويكون (ترك تقليم الأظافر) هو الخضوع إلى الأصل، و(ترك النكاح) هو التعفف عن شهوات البدن، والتخفف من التصرف فى أمور الدنيا. فإذا طاف الحجيج بالبيت الحرام، فإن طوافهم يكون سبع مرات، وذلك عند الصوفى هو إشارة إلى الصفات السبع الإلهية (الحياة، العلم، القدرة، الإرادة، السمع، البصر، الكلام) ولما كانت هذه الصفات سبعاً، كان الطواف بالكعبة سبع مرات.
 والصلاة بعد الطواف إشارة إلى ظهور (أحدية) الخالق، وقيام ناموسها فى الوجود. وماءُ زمزم يشير إلى علوم الحقائق، التى تتجلَّى على قلب المؤمن الصادق فى مقام الولاية الروحية، فيصير قلبه شبيهاً بمرآة تنطبع على صفحاتها المعارف الإلهية، فى شكل إلهامات وفيوضات نورانية.. و«الصفا» إشارة إلى تصفية النفس فى صفاتها الخلقية التى تصل إلى الصفاء، و«المروة» إشارة إلى الارتواء من شراب معارف الأسماء والصفات الإلهية.
وأخيراً، فالجيلى والذين سبقوه من صوفية المسلمين، يفرِّقون بين معانٍ ثلاثة، هى: العبادة، والعبودية، والعبودة.. فالعبادة هى صدور أعمال البر من العبد، منتظراً لثواب الطاعة. وذلك مقام عامة المسلمين الذين يقفون عند حدود الله، ويجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وطائر عبادتهم يطير بجناحىْ الخوف والرجاء. الخوف من عقاب الله وناره، والرجاء فى ثواب الله وجنَّته.
أما العبودية لله، فهى أن تصدر أعمال البر والإحسان من العبد، دون الطمع فى الثواب، وبلا خوف من العقاب. حيث يكون العمل خالصاً لله الذى فاضت نعمه على كل الموجودات، والعبد هنا يفعل الخير خالصاً لوجه مولاه عزَّ وجلَّ، ويجتنب الإثم حياءً وخجلاً من ربِّه.
والعبودة هى أعلى المعانى الثلاثة مقاماً فهى عبارة عن العمل بالله. فالحديث القدسى يقول: لايزال عبدى يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإن أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها.. فالعبد هنا يصير فى مقام العبودة، حيث يسمع بالله، ويبصر بالله، وتكون له فراسةُ المؤمن الذى يقول الحديث الشريف، إنه يرى بنور الله.. ولن أستطيع تفصيل هذه الأمور، بأكثر من ذلك. فلنتوقف هنا عند هذا الحد، ونلتقى الأسبوع القادم مع: صوفية الفن وفنون الصُّوفية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.